الجمعة، أبريل 22، 2011
صفحات من كتاب سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى ( وهم الاحزاب الدينية )
هناك أكثر من سببٍ منطقيّ وعقلانيّ ووجيهٍ لكي نتجه من خلال التعديلاتِ الدستوريةِ المرتقبة للنصِ الصريحِ على عدمِ جواز تأسيسِ الأحزابِ السياسيةِ على أُسسٍ دينيةٍ . فهناَك أولاً اعتقاد الكثيرين أن ما يضفي كثيرون عليه هالةً من التقديسِ وأعني "الفقه الإسلامي" هو – أي التقديس – أمرٌ لا أساس أو مبرر أو تسويغ له . فالفقه الإسلامي عملٌ بشريٌّ محض . ولعله من المفيد أَن أُشير هنا لأكثر التعريفاتِ استقرارًا وانتشارًا للفقه الإسلامي وهو التعريف الذي يقول : (إن علمَ أصولِ الفقه هو علمُ استنباطِ الأحكامِ العمليةِ من أدلتها الشرعية) . ولا نحتاج لأن نصرف كثير جهدٍ في إثباتِ أن أية "عمليةِ استنباطٍ" هى عملٌ بشري بحتميةِ اللغةِ والمنطقِ . كذلك فإن تعاقبَ الفقهاءِ السنيين الأربعة الكبار (وأتحدث هنا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) وقد عاشوا وماتوا خلال أقل من قرنين وتعاصر منهم الثاني والثالث على الاقل ... إنما يؤكد أننا بصددِ عملٍ بشري، وإلاَّ فكيف يجرؤ "مالك" على وضعِ مذهبٍ فقهيّ مختلفٍ عن مذهبِ أبي حنيفة، لو كان العملُ الذي قام به أبو حنيفة أي شيء عدا كونه عمـلاً بشريًا ؟ ... ناهيك عن أن ثالث فقهاء السنة الأربعة الكبار كان له مذهبان : مذهبه للعراق ومذهبه لمصرَ ... وهو أمر له دلالات بالغة الوضوح، وأهمها أننا بصدد عملٍ بشريٍّ إنسانيٍّ محضٍ (من ألفه إلى يائه) .
وبالتالي , فإن المباديء التي يعتقد البعضُ أنها مباديء الإسلام في نظم الحكم ما هي إلاَّ "اجتهاد" ... وهذا الاجتهاد هو ما ُسمى بالأحكام السلطانية ... ويعرف المتخصصون أن الحكام (سواء حكام حقبة بني أمية أو حكام الحقبة العباسية) كانوا وراء معظم ما كُتب عن الأحكام السلطانية ليضمنوا أن ما سيكتب سيأتي مواتيًا لرغباتهم وفهمهم هم . وهو أمر تكرر في مجتمعات أخرى (وأشير هنا لعلاقة آراء وكتابات المفكر السياسي البريطاني هوبز بالعرش البريطاني أو بالتحديد بأهواء العرش البريطاني في مسألة تكييف العلاقة بين الحاكم والمحكومين) .
وهكذا , فإن وجودَ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ هو أمرٌ غير منطقي , حيث إن المبادىء التي يُقال إنها "مذهب الإسلام في شئون الحكم" لا تعكس إلا فهم بشر مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون – والأمر كله عمل بشري . وخلاصة القول هنا , أن الإسلامَ لم يقم بوضعِ نظامٍ شاملٍ كاملٍ لقواعدِ ونظم الحكم تصلح لأن تكون بديلاً عن القواعد الدستورية التفصيلية المعاصرة , وذلك لأن هذه ليست هي مهمة أو غاية الإسلام . فالذي يعيب على الإسلام خلوه من النظام السياسي كمن يعيب على الإسلام أنه لم يقدم نظرية متكاملة في علم النفس أو في علم الاجتماع ... أو في علوم الإدارة (!!) . والواقع، أن الإسلام جاء بمجموعةٍ عامةٍ من القواعد الكلية التي من الأفضل والأنفع الاستهداء بها عند وضع القواعد التفصيلية . أما هذه القواعد التفصيلية ( مثال : كل ما جاء بكتاب "الأحكام السلطانية " للماوردي وبعشرات الكتب المماثلة في الموضوع والعنوان) فإن ذلك عملٌ بشريٌّ محض يعكس اجتهادًا إنسانيًا يترجم هو أيضًا القدرات العلمية والعقلية والمكونات الثقافية ودوافع كاتبها؛ كما يعكس حقائقَ الزمانِ والمكانِ .
وما أُريدُ أن أُركز عليه في هذا الفصل هو أن هناك منطقًا لم يسلط عليه كثيرون الضوء من قبل وهو جدير بنسف وجهةِ النظر التي تدعو لتأسيسِ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيـةٍ ... فلو بدأنا من أن مجملَ القواعدِ التي يسميها البعضُ "نظم الحكم في الإسلام" ما هى إلا استنباطات لرجال عاشوا منذ أكثر من ألف سنة، وأعملوا فكرهم وعقولهم وحاولوا تقديم القواعد التي يظنون أنها ستؤدي (في زمانهم ومكانهم وعلى قدر فهمهم وعلمهم وظروفهم) لإقامةِ نظامِ حكمٍ يعبر عن القيمِ الأساسية التي يدعو لها الإسلامُ ويتوخى شيوعها وذيوعها في المجتمعات الإسلامية – إذا بدأنا من هذا المنطلق، فإننا نكون قد اتفقنا على أن ما يسمى بنظم الحكم في الإسلام هو تعبير عام (غير دقيق) عما كتبه فقهاءٌ مسلمون منذ أكثر من ألف سنة في محاولة (جادة ومحترمة) منهم لإيجادِ نظمِ حكمٍ في مجتمعاتهم تتماشى وتنسجم وتتوافق مع مباديء وقيم الإسلام .
ومعنى هذا، أننا حتى لو سلمنا بأن مؤلفي كل ما وصلنا من كتابات المسلمين الاقدمين عن قواعد ونظم الحكم هى كتابات قيمة وتستلهم "روح الإسلام" (وهذا أقصى ما يستطيع أي صاحب عقل أن يصل إليه) فإن على الجميع أن يؤمنوا بأنه نظرًا لتقاعس المسلمين (لمدة تبلغ الآن قرابة الألف سنة) عن التجديد والإضافة لكتابات الفقهاء الاقدمين في مجال الأحكام السلطانية (وهو ما يعكس من المصطلحات المعاصرة نظم وقواعد الحكم الدستورية والسياسية) ... فإن أي حديثٍ عن الاقتباس من هذه المؤلفات – كما وضعت منذ ألف سنة - قبل حدوث نهضةٍ فقهيةٍ إسلاميةٍ معاصرةٍ تدلي بدلوها في هذا المجال (مجال الأحكام السلطانية بالتعبير القديم الذي يجب أن يتبدل بمصطلح يعبر عن حقائق الزمن) إنما سيكون مثل من يفتح كتابًا وضع في القرن العاشر الميلادي في الطب والصيدلة ويريد أن يؤسس عليها نظامًا ومؤسسات طبية معاصرة !! ... فإن ذلك سيؤدي – لا محالة – لموت كل المرضى !! وكما قلت في مواضعٍ أُخرى , فكما أن الإسلامَ تكلم عن الدواب والأنعام كوسائل انتقال (ولا عيب في ذلك) فقد تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان) وأيضًا لا عيب في ذلك , وإنما العيب أن يتمسك إنسانٌ بالدوابِ كوسيلةِ انتقالٍ (كما أراد الوهابيون بقيادة فيصل الدويش في معركتهم مع الملك عبد العزيز في عشرينيات القرن العشرين عندما رفضوا كلَ مظاهرِ المدنيةِ والحداثةِ مثل السيارة والتليفون والراديو) . وفي اعتقادي أن الذي يتمسك بمصطلح الشورى (وهو مصطلح بسيط يعكس حقائق العصر والجغرافيا ودرجة التقدم) يكون كمن يتمسك بأن وسائل المواصلات يجب أن تكون هى الدواب والأنعام (لأن الإسلام تكلم عن الدواب ولم يتكلم عن السيارة والقطار والطائرة) .ولكن البعض قد يقول "ولماذا لا نستطيع نحن كمسلمين تأسيس أحزاب سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ بينما يوجد العديد من الأحزاب السياسية التي توصف بالمسيحية في أوروبا ولعل أشهرها الحزب الديموقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه السيدة مركيل التي تحكم ألمانيا اليوم ؟ ... وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات دساتير كل الدول التي بها أحزابٌ مسيحية وأيضًا مباديء هذه الأحزاب (وأهمها الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني) ولا توجد كلمة واحدة بتلك الدساتير و المباديء تشير إلى أن هذه الأحزاب ستحكم بمباديء دينية أو بمباديء غير قواعد الدستور ... بل إنها (رغم تسميتها بالمسيحية) لا تحمل من هذه الصفة إلا الاسم . فهى أحزاب تمثل أجنحة محافظة تستلهم القيم من المسيحية ولكنها حاكمة ومحكومة ومنضبطة بقواعد الدستور والقوانين الوضعية . ولا أظن أن أنصار حركة مثل الإخوان المسلمين في مصرَ وغيرها يمكن أن يعلنوا أن هدفهم من تحويل حركة الإخوان المسلمين لحزبٍ سياسيّ هو أن يصلوا لشكلٍ مماثلٍ للحزبِ الديموقراطي المسيحي ؟ (!!) .
وتبقى جزئية هامة وهى اعتقادي الجازم أن الأحزابَ السياسية التي تسمي نفسها بأحزابٍ إسلاميةٍ هى (أحزاب سياسية محضة)، بلا فارق بينها وبين غيرها : فكلهم كيانات سياسية صرف تحاول الوصول للحكم (وهو أمر مشروع) إلا أن البعض يلعب على أوتار عاطفية عندما يسمي نفسه بالإسلامي ... وما هم إلا محض حركة سلفية تعيش على فهم واستنباطات بشر عاشوا منذ أكثر من ألف سنة وتعاملوا مع مسائل عصرهم وزمانهم وحاولوا إيجاد الحلول لها ... وهى حلول كانت ابنة الزمان والمكان ... ولا أدل على ذلك من وضع محمد بن إدريس (الإمام الشافعي) لمذهب جديد عندما جاء لمصر (لأن مذهبه الأسبق كان مناسبًا لبيئة أخرى هى العراق) ... والكارثة أن يأتي بشر يتميزون بالكسلِ والعطالةِ الفكرية إذ أنهم لم يجتهدوا لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم لمدة ألف سنة، ولكنهم يريدون أن يعيشوا عالةً على فهمِ بشرٍ آخرين حاولوا واجتهدوا منذ عشرة قرون .
وفي اعتقادي أن الحركاتِ التي تسمى بحركات الإسلام السياسي (ومنها حركات الإخوان المسلمين)
تعاني (دون أن تدرك) من إشكاليات فكرية هائلة وذات آثار بالغة القوة (والسلبية) . فالإسلامُ تتطرق لمباديء عليا عن العدلِ والإنصافِ والمساواةِ وفضائل العلم والذين يعلمون (في مقابل : الذين لا يعلمون) بما يمكن أن نسميه "مباديء كلية" (أو ماكرو) . ولكنه (ولكي يبقى صالحًا لأزمنة وأمكنة غير أزمنة وأمكنة فجر الإسلام) لم يأت بأحكام تفصيلية ... أي على مستوى الجزيئات ودقائق التفاصيل والآليات (أي على مستوى الميكرو) . وفي ظل هذا الوضع (الذي لا يقبل بتوصيفنا هذا له أتباعُ حركاتِ الإسلامِ السياسي) فإنهم يبحثون – بجهد جهيد – عن نظام متكامل (عدا المبـاديء الكليـة) ... ونظرًا لعدم وجود هذا النظام المتكامل فإنهم يتمسكون بذات المواضيع (مثل : حرمة فوائد البنوك والنظام العقابي وغيرهم) . والأسلم (والأكثر جلبًا للصلح المفقود بينهم وبين "الإنسانية") أن يعترفوا بأن الإسلام جاء كدينٍ سامٍ وليس ككتابِ اقتصاد أو سياسةٍ أو اجتماعٍ أو علمِ نفسٍ أو كيمياءِ أو طب . ولكن كيف لهم أن يلعبوا لعبة السياسة بعد أن يعترفوا بهذا الاعتراف الذي ندعوهم إليه ؟ ... إنهم إن فعلوا تخلوا عن أقوى مواد الدعاية السياسية التي بأيديهم كما أنهم سيكونون مطالبين بتقديم برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي عدا مسألة "تطبيق أوامر الله" و"الإسلام هو الحل" و"البركة" ... وما لا يوجد لديهم سواه من شعارات عامة مجردة ما يهبط بها الإنسانُ المدقق لمستوى الحياة ومعمل العلم والتجربة والفحص والتدقيق حتى يجد أنها بالونات هائلة ليس بداخلها إلا الهواء : وهو هواء سياسي محض لادين فيه بأي شكل أو أي قدر .
وتبقى مسألة "البركة" ... فكثير من المسلمين الطيبين البسطاء يعتقدون أن وجود أشخاص على رأس المجتمع يحكمون باسم الإسلام هو أمر كفيل بتحقيق الخير والبركة. ولهؤلاء أكرر : إن المسلمين الأوائل (الصحابة من المهاجرين والأنصار) قد هزموا في معركة (موقعة) أُحد وفي وسطهم النبي. ولو كان النصر (أو النجاح أو التقدم أو الخير) يتحقق بالبركة، لانتصر المسلمون يوم أحد وبين ظهرانيهم البركة كلها (الرسول) . ولكن هزيمة المسلمين (الصحابة من المهاجرين والأنصار ووسطهم النبي) جاءت لتؤكد أن الله كما خلق الخلق، فقد خلق قواعد وقوانين سير الكون (ومنها قوانين الطبيعة) ... ومن بين هذه القوانين : أن من يحارب بدون مؤهلات النصر العلمية والمادية الصرف لابد وأن يهزم (بهذه القوانين انتصر المسلمون بقيادة طارق بن زياد عند غزوهم الأندلس وبذات القوانين انهزم المسلمون بعد عدة عقود في معركة "بو" في جنوب فرنسا ... ولا دخل للبركة في النصر الأول ... ولا دخل للبركة في الهزيمة الثانية) ... وهكذا، فإن من يظن أنه سيحكم باسم الإسلام وأن البركة ستحل (لأنه يحكم باسم الإسلام) فسوف يأخذ النتائج (في كل المجالات) مثل نتيجة معركة (موقعة) أُحد ... فالنصر والتقدم والحكم الناجح يحدث – فقط – بالعلم وحُسن الإدارة وهى كلها أقانيم إنسانية لا دين ولا ملة ولا جنسية لها . وهى أقانيم لا يوجد دليل واحد على أن من يريدون أن يحكموا مجتمعاتهم باسم الدين يتحلون بها ... بل هناك أدلة وأدلة (مستقاه كلها من خلفياتهم ومحصولهم المعرفي وصلتهم بعالمية العلم والمعرفة وقيم التقدم) على أنهم لا ... ولا يمكن أن يحوزوها .
الثلاثاء، أبريل 19، 2011
صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد هيبه - المعمورة
- تعتبر ضاحية " المعمورة " أشهر المصايف المصرية والسكندرية بشواطئها الساحرة الخلابة ، وهي تمثل مدينة سياحية عمرانية متكاملة تقع ما بين منطقة " حدائق المنتزة " غرباً وتتصل بها عبر بوابة خاصة تقع بسور منطقة "المنتزة" ، وما بين ضاحية "أبو قير" شرقاً كآخر الشواطيء السكندرية الشرقية على البحر المتوسط ، كما وأن لضاحية ومنطقة "المعمورة" ظهير خلفي يقع خارج نطاق الضاحية ذات الموقع الشاطئي المتميز ، حيث تقع منطقة "المعمورة البلد" ،
وهي منطقة شديدة التناقض مع واقع ضاحية "المعمورة" السياحية ، حيث تقطنها الطبقات الشعبية والبسيطة وينقصها العديد من الخدمات الرئيسية من مرافق وخدمات وغيرها ، وعلى الرغم من لا يفصلها عن منطقة "المعمورة" الشاطيء سوى خط سكك حديد "أبو قير" الذي يمثل الحد الجنوبي لضاحية "المعمورة" الساحلية حيث بوابات "المعمورة"
التي لا يجتازها سوى أصحاب الوحدات ورواد المنطقة من المصطافين من المصريين والأجانب .
- ومسمى "المعمورة" مسمى حديث أطلق على تلك البقعة الساحرة والتي يرجع تاريخ تعميرها إلى العهد البطلمي في مدينة الإسكندرية ، حيث كان يطلق عليها اسم "مينوس" "Menouthis” وكانت تقع ما بين مدينتي "أبو صير الصغري" ( وهي منطقة المندرة حالياً ) و"كانوب" (مدينة أبو قير الحالية) لتندثر بعد ذلك خلال العصور المتتالية حيث تخلف عنها أطلال وخرائب لتعرف تلك المنطقة بعد ذلك بالخراب والخربة ولتشتهر بمسمى "الخرابة" ، وظلت المنطقة بعد تسمى بذلك حيث ورد في كشاف الزمخشري بأنها عزبة تسمى "الخرابة" من توابع "أبو قير" ، كما وردت بمعجم البلدان حيث أوردها "ياقوت الحموي"
تحت مسمى "خربتا" فيذكر حول موقعها "وهو حوالي الإسكندرية ، وهو الآن خراب لا يعرف " وأستمرت تحمل أسم "الخراب" أو "الخرابة" حتى كانت نهضة الإسكندرية الحديثة منذ عهد والي مصر "محمد علي باشا" ، والذي أهتم بالإسكندرية ونهض بها وعمل على عمرانها ، وكذلك خلفاءه من الولاة وحتى فترة حكم الخديوي "إسماعيل" (1863 - 1879 م)
، والذي عمر منطقة وحي "الرمل" وانشأ به سرايته الشهيرة "سراي الرمل" (طابية سيدي بشر بعد ذلك والذي حل محلها فندق المحروسة حالياً ) ليجعلها مقراً صيفياً له ولأسرته ، كما دعى الأمراء والوجهاء لتعمير هذا الحي الناهض في شرق المدينة ، وبخاصة في أعقاب ربطه بخط حديدي للترام (خط ترام الرمل بعد ذلك )
وكذلك بخط سكك حديد آخر امتد وحتى ضاحية "أبو قير" ( خط سكك حديد أبو قير) ، وأستمر نجله وخلفه " الخديوي توفيق"
من بعده في الإقامة بالإسكندرية صيفاً في ذات المنطقة ، حتى جاء خلفه " الخديوي عباس حلمي الثاني " (1892 - 1914م)
والذي أستكمل تعمير المنطقة ما بين حي "الرمل" وضاحية "أبو قير" حيث أنشأ "سراي المنتزه" وسط منطقة حدائق شيدها منذ أوائل ولايته عام 1892 م في منطقة ساحلية ساحرة خلابة أكتشفها بنفسه في منطقة تجاور عزبة "الخرابة" تلك ذات التاريخ البائد ، ليشرع مع ذلك في تعمير كافة مناطق شرق المدينة .
- ولاستهجان كلمة ومسمى "الخرابة" لما في معناها من التشاؤم ، وذلك كما يقول الأستاذ "محمد رمزي" حيث ذكر ذلك في مؤلفه القيم "القاموس الجغرافي للبلاد المصرية " ، فصدر قرار بتسمية هذه العزبة باسم "المعمورة" (نقيض الاسم الأصلي الخرابة ) حيث خصص الشاطيء الخاص بها للأسرة المالكة وأصبحت تتبع ضاحية "أبو قير" من الواجهتين الإدارية والمالية ،
كما أقيمت بها في تلك الفترة ومع بدايات القرن العشرين بعض الدور والقصور والفيلات الخاصة بالأمراء والوجهاء ، وفي عام 1922 م صدر قرار بفصلها عن ضاحية "أبو قير" من الوجهة الإدارية مع أستمرارية ضمها إلها من الوجهة المالية وذلك باسم "المعمورة وأبو قير" وبذلك أصبحت "المعمورة" منفصلة عن "أبو قير" إدارياً ومشتركة معها في الزمام ، وكانت كل تلك الجهات سواء "المعمورة" أو "أبو قير" تتبع مركز "كفر الدوار" بمحافظة "البحيرة" وأستمر حالها كذلك حتى قيام الثورة عام 1952 م حيث تم فصلها في ابريل عام 1955 م لينشيء قسم إداري جديد يسمى "قسم المنتزة" وليتبع محافظة الإسكندرية ، حيث تم ضم كل هذه المناطق فصلاً من مركز "كفر الدوار" إلى ذلك القسم الجديد بالإسكندرية وحتى الآن ، كما يتم تخصيص منطقة " حدائق المنتزة" لتكون مفتوحة ومتاحة أمام كافة المواطنين من أبناء الشعب بعد أن كانت قاصرة على أفراد الأسرة المالكة ،
وكذلك منطقة شاطيء "المعمورة" حيث تم إنشاء شركة خاصة لتنمية المنطقة كما تم تقسيمها إلى أراضي ذات مساحات متفاوتة لإقامة الفيلات والعمارات ولتتوافر للمنطقة كافة المرافق والخدمات ولتصبح المعمورة بمثابة مدينة عمرانية سياحية كاملة
، وقد جذبت "المعمورة" العديد من المشاهير للإقامة الصيفية بها من الفنانين والساسة وغيرهم ، كما كان يقيم بها الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر "
وكذلك الزعيم الراحل "محمد أنور السادات" حيث حولت رئاسة الجمهورية الأستراحة الخاصة بالملك السابق "فاروق" بمنطقة "المعمورة" بعد قيام ثورة يوليو عام 1952م ليقيم بها رؤساء مصر بصفة دائمة خلال زياراتهم المتكرر للإسكندرية ، وحيث شهدت تلك الأستراحة أتخاذ الكثير من القرارات الهامة والمؤثرة في فترة حاسمة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر وبخاصة في عهد الرئيس "السادات"
الذي كان دائم الإقامة بها وحيث كان يستقبل فيها العديد من زعماء دول العالم .
- وهكذا قدر لتلك المنطقة من الإسكندرية أن تستحيل من "خرابا" إلى "عمرانا" واقعاً ومسمى لتشتهر بمسمى يحمل بذات المدلول " المعمورة " لتسطر بذلك صفحة أخرى من صفحات التاريخ في الإسكندرية .
الاثنين، أبريل 18، 2011
سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء السادس
التغلغل
أُطلقت تسميةَ الإرهابِ على عدةِ ظواهرٍ خلال نصف القرنِ الأخير . فمثلاً أَطلق البريطانيون وصفَ الإرهابِ على عملياتِ الجيشِ الجُمهوري الأيرلندي كما أُطلق نفس الوصف على العديدِ من الحركاتِ مثل الحركةِ التي تَستهدف استقلالَ إقليم الباسك بين أسبانيا وفرنسا كما أُطلق نفس الوصف على عملياتِ مُنظماتِ الألوية الحمراء (إيطاليا) وبادرماينهوف (ألمانيا) وحركات مماثلة في اليابان وأمريكا اللاتينية . أما اليوم , فعندما يُستعمل مصطلح الإرهاب فإن أولَ ما يتبادر للأذهانِ (خارج المُجتمعات العربية والإسلامية) أَن عربًا أو مُسلمين قاموا بعملٍ عنيفٍ . وقد تصاعد خلال السنواتِ منذ كارثة 11 سبتمبر 2001
الربطُ ما بين المسلمين والعمليات الإرهابية، وهو الربط الذي أدى إلى ظهورِ ظاهرةِ الخوفِ الهوسي من الإسلام (الإسلامو فوبيا) . والذي لا شك فيه أن مُسلمين أو عربًا يكونون عادةً منخرطين في العملياتِ التي يَصفها العالمُ اليوم بالإرهابِ . وبغض النظر عن أكبر مدرستين في تفسير ذلك وهما مدرسة تدين المسلمين بشكلٍ مُطلقٍ ومدرسةٍ (إسلامية) تبرر ذلك بما تعرض ويتعرض له المسلمون، فإنني أودُ في هذا الفصل أن أتناول منابعَ أو مصادرَ أو أعمدةَ تلك الظاهرة بشكلٍ قد يكون مُختلفًا عن مُعظم التناولاتِ السابقة لهذا الأمر الذي أصبح بمثابةِ الشُغل الشاغل لمئاتِ الباحثين والدارسين في العالم .
رغم تسليمي باختلافِ ظاهرة الإرهاب التي ينخرط فيها عربٌ ومُسلمون عن غيرهِا من ظواهرِ الإرهابِ فيما يتعلق بالحجمِ، أي كَون الظاهرة في حالتِها الإسلامية أكبر حجمًا وأكثر اتساعًا من أي ظاهرةٍ أُخرى وُصفت بالإرهابية (مثل الظاهرة الأيرلندية)، إلا إنني أرى أن الاختلافَ يتعلق بحجمِ وعددِ الأتباعِ في المقامِ الأول . وأعني أنه بينما يُعتَبَر عدد الدعاة قليلاً ومُشابهًا للدُعاةِ في أنساقٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ أُخرى فإن أعدادَ الذين ينجذبون لأفكارِ الدُعاةِ في الحالةِ الإسلاميةِ أكبرُ بكثيرٍ جدًا .
وفي اعتقادي أن الذين يتعاملون سياسيًا وأمنيًا وكذلك الذين يَدرسون ما يُسمى بالإرهاب الإسلامي يبدأون من نقطةٍ تتجاوز هذه التفرقة بالغة الأهمية بين "الدُعاةِ" و"الأتباعِ" . بينما يميل كاتبُ هذه السطور للاعتقادِ بأن هذه التفرقةَ هي كلمةُ السرِ التي تفتح أبوابَ الحلولِ والتعامل الناجح مع تلك الظاهرةِ التي يرى البعضُ خارج المجتمعات الإسلامية أنها تمثل التحدي الأكبر للبشريةِ وللإنسانيةِ وللمدنيةِ في القرنِ الحادي والعشرين .
فالدُعاةُ الذين يكتبون كُتبًا ويلقون محاضراتٍ ويحاولون التأثير في الناسِ بشكلٍ إيجابي أو سَلبي لا يَستطيعون جذب أتباع بأعدادٍ كبيرة إلا إذا كانت الحالةُ الذهنية والنفسية والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجعل الأتباعَ في حالةِ استعدادٍ لتلقي الدعوة . في كل الأديان والطوائف والمِلَل، دُعاةٌ يحاولون الترويج لأفكارٍ بالغة التشدد وأحيانًا بالغة العدوانية . ولكن حجمَ وأعدادَ الأتباعِ يتفاوتون . وعلى سبيل الِمثال، فإن هناك من القادةِ الدينيين اليَهود
والمَسيحيين من يدعون لأفكار بالغة التضاد مع الإنسانية والتسامح وقبول الآخر (بل ولقتل بعض الآخرين) .
ولكن يبقى أن أعدادَ هؤلاء لا تشكل ظاهرةً تعكس اتساع وكثرة أعداد أتباع بعض الأفكار والدعوَات الإسلامية المُتشددة . وتتجه نظمٌ سياسيةٌ عديدةٌ (وللأسف، تُؤيدها قِطاعاتٌ من المُثقفين) للتعاملِ الأمني مع أعضاءِ الدائرتين : دائرة الدُعاة ودائرة الأتباع؛ ومن هنا تبدأ ثم تتوسع ثم تتفاقم الكارثةُ .
ففي اعتقادي أَن الدُعاةَ قد يُشكلون بعض الخطورة، ولكنها خطورةٌ نسبيةٌ أو مَحدودةٌ لا توصل المُجتمعات إلى ما وصلت إليه عدةُ مُجتمعاتٍ إسلامية مُعاصرة، وأَزعُم أن التعاملَ الأمني مع مُعظم الدُعاةِ لا يؤدي لأية نتائجٍ إيجابية . فقتلُ مُفكرٍ مثل سيد قطب على المشنقة سنة 1966 لم يَنتجُ عنه أي انحسارٍ لأفكارهِ التي تعُد (في اعتقادي) بعد اندماجها مع التيار الوهابي
بمثابةِ المصدرِ الفكري الأول لمعظمِ تياراتِ الإسلامِ السياسي العنيفةِ والرَاديكاليةِ . إن الطريقةَ الوحيدة للتعاملِ مع الدُعاةِ هي صحوةٌ فكريةٌ وثقافيةٌ تنخرط فيها النُخبُ المثقفة بمعنى أن يُقارع الفكرَ بالفكرِ والرأي بالرأي والكتابةَ بالكتابةِ. وهنا، فإن فئةَ المثقفين الرسميين تكونُ غيرَ ذاتِ قدرةٍ على التأثيرِ بشكلٍ إيجابي لكون أفرادها "موظفين" أكثر من كونهم "مفكرين أو مثقفين" . ناهيك عن دلالات عدم المصداقية بالنسبةِ لمعظمهم .
وفي كل الأحوال , فإنني لا أظن أبدًا أن الدُعاةَ هم حجر الأساس لظاهرةِ العُنفِ السياسي الموصوم بالإرهابِ الإسلامي .
إن الداءَ كله يكمن في "الأتباع" . وبداية الحلول تكمن في الإجابة عن السؤالِ التالي : ما الذي يجذب الشباب (بوجهٍ خاصٍ) في مُجتمعاتٍ إسلاميةٍ عديدةٍ للسيرِ وراء هؤلاء الدُعاة الذين صاغوا أفكارًا راديكالية تسوّغُ العُنف والابتعاد عن مَسيرةِ المدنيةِ الإنسانيةِ . وفي اعتقادي أن مُجملَ الأسباب التي تُغري الشباب في المُجتمعات الإسلامية باتباع الدعوات الراديكالية يمكن أن تنضوي تحت كلمةٍ واحدةٍ كبيرةٍ هى "الغضب" . وهو في اعتقادي غضب متعدد المصادر، كما أنه في اعتقادي غضبٌ علينا أن نفهمهُ لا أن نَستهجنهُ، ولا يهم إن أدى "الفهم" للتعاطف , فالتعاطف (عند العُقلاء أصحاب الرؤية الإنسانية والتاريخية) لا يعني "المُسايرة" أو "التبرير" أو "القبول" وإنما يعني إدراك أننا أمام مرض ومريض , وكلاهُما يحتاج لعلاجٍ أي لطبيبٍ ولدواءٍ وليس لتدابيرٍ أمنيةٍ أو عنفٍ وقسرٍ وتعذيبٍ .
************
٢
ومصادر هذا الغضب عديدة لكن أهمها مايلي :
أولاً : الشُعور المَدعوم بمفردات الواقع بضيق آفاق الحياة وهو يشمل يأس
المُتعلمين وغير المُتعلمين من العثورِ على عملٍ لائقٍ يسمح بحياةٍ إنسانيةٍ
معقولةٍ .
ثانيًا : التفاوت المُذهِل بين الذين "لديهم" والذين "ليس لديهم" .
وأعتقد أن الغضبَ لا ينبع من التفاوت، وإنما من هول مساحاتِ ومسافاتِ التفاوت .
ثالثًا : عدم وضوح أسباب وشرعية ثراء الأثرياء وقوة الاقوياء وشُهرة المشاهير .
لقد كان الناسُ يعلمون أن محمد طلعت حرب رجلٌ ثريٌّ، ولكنهم لم يكن ظنهم يتجه لكون ثروته قد تكونت بسُبلٍ مُريبةٍ .
رابعًا : اختفاء العدالة في مُعظم مجالات الوظائف والعمل وأحيانًا الاعمال التُجارية، حيث تكون لقوةِ العضلاتِ السياسيةِ الداعمةِ للبعضِ (وغير المتوفرة للأكثرية) قوة "بُساط الريح" .
خامسًا: ندرة الشخصيات القدوة في مُعظم المجالات .
سادسًا: قُرب المسافة بين "سُلطان المال" وسُلطانين آخرين هما "السلطة التنفيذية" و"الاعلام" .
سابعًا : ما يشيع عن حالات الفساد دون إمكانية التأكُد من حقيقتها أو دون رؤية أية
عواقبٍ لتلك "القصص" التي تلوكها الألسنُ .
أخيرًا، إن دراسةَ هذه الاعمدةِ السبعة التي يرتكز عليها هيكلُ الغضبِ الذي يفُرّخ العُنف والرفض والعدوانية والإرهاب هى مسألةٌ سياسيةٌ وثقافيةٌ وإستراتيچيةٌ . أما اختزالُ الأمرِ في (التفسير الأمني) ثم (التعامل معه بالوسائلِ الأمنية) فهو ظُلمٌ للمُجتمعِ ولكلِ أطرافِ المسألةِ بما في ذلك هيئات الأمن ذاتها التي يُطلَب منها التعامل الأمني مع ظواهر مُتعددة الجذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
الأحد، أبريل 17، 2011
سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء الخامس
التعامل مع المارد
وإذا كان من السهل على أي مواطن أوروبي أو أمريكي غير متعمق في تفاصيل ما سلف أن يظن أن الإسلامَ والعنفَ والإرهابَ هي أمورٌ ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهمًا محددًا للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل انهمار الثروة البترولية قد أصبح في ظل ظروف شرحتها في فقرة سابقة من فصل سابق قادرًا على أن يجعل ( بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام)، والحقيقة أنه فهمٌ ضيقٌ وصغيرٌ ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية، وأن ملايين المسلمين في مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لا يزالون بعيدين كل البعد عن حدةِ وتشددِ وتطرفِ وعنفِ ودمويةِ هذا المذهب الصغير في قيمته الفكرية والذي لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية وأضيف وبكل الصدق "على الإسلام والمسلمين"، وأعني هنا المسلمين الذين عرفهم العالم في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة– ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعلِ حكامٍ طغاةٍ مستبدين (وفاسدين) في ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسةً سهلةً للفهمِ الوهابي للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.
أيضًا، لست بحاجةٍ لأن أُلفت انتباه القارئ المحايد إلى أن وجودَ نصوصٍ في القرآن يمكن أن تستعمل كدليلٍ على عنفِ الإسلام هو أمرٌ لا أهمية له : فمن جهةٍ، هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروفٍ وملابساتٍ معينةٍ، فالعبرةُ ليست بالنص وإنما بالعقل الذي يتعامل مع النص . كذلك فإن هناك نصوصًا قرآنية أخرى عديدة تدعوا لنقيض العنف والعدوان على المختلفين دينًا ومذهبًا بل و تحض على التعامل معهم بعدلٍ وإنسانيةٍ . كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين على الجانبِ الآخرِ أن يقولوا إن في أسفار التوراة بوجه عام وفي سفر يشوع بن نون بوجهٍ خاص ما يحض أيضًا على العنفِ والدمِ – وهو ما لا ينبغي أن تتجه إليه العقول .
إن المهمةَ السامية في هذا المجـال هـي مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنساني للإسلام والذي كان هو دائمًا "الأغلبية" ومقاومة الفهم المتشدد والمتطرف بل و الدموي الذي أنتجته (وهذا أمر طبيعي) العزلةُ وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية واختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانيًا ومتسامحًا وإيجابيًا . وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف السعودي/ الوهابي
لم يعد من الممكن له أبدًا أن يستمر فهو حلف يرسخ فكرًا ظلاميًا متطرفًا معاديًا للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهي التعددية. على كل، فأنا ممن يدعون أنه لا توجد ظواهر إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الاجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفًا جوهره احتمال انزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الانهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مرورًا بعدم الكفاءة وانهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن اتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي سيؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاَّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكًا لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الانتشار الكبير.
إن عدم انشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والذي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحًا – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جدًا من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي
ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.
وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية واكتشاف البترول كانت أشياءٌ كثيرةٌ في الدنيا قد تغيرت:
- أولاً : تحققت ثروة هائلة سمحت بالإنفاق ببذخٍ على الفهم الوهابي للإسلام في الداخل والخارج. وهو ما أدى لحدوث تأثيراتٍ لا تنكر على فهمِ الكثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام؛ إذ اقتربت عقولُ العديد منهم لنموذج الفهم الوهابي للإسلام.
- ثانيًا : تعرضت مصرُ لتراجعٍ كبيرٍ في كل مستوياتها منذ الستينيات بما في ذلك تراجع مُناخها الثقافي العام وتغلغل النفوذ الوهابي داخل مؤسسة الأزهر العريقة؛ ثم جاءت هزيمةُ يونيه 1967 لتفتح المجال واسعًا أمام المجموعات المتأثرة في مصرَ بالفهم الوهابي للإسلام لكي تتحول إلى تياراتٍ سياسيةٍ نشطة ذات توجهات متشددة بل و متطرفة بل و حاملة للمدفع والبندقية.
- ثالثًا : ارتكب الغربُ بوجهٍ عام والولاياتُ المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص أخطاءً عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها غض النظر عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام في العالم العربي والإسلامي والتعامل مع تياراتٍ تنتمي للفهم الوهابي للإسلام بغرضِ تحقيق أهدافٍ محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان.
وهكذا يكون السؤال حول "مستقبل العقل المسلم" هو ذات السؤال حول "مستقبل المجتمعات المسلمة" – هل هو مستقبل في ظل الحريات والديمقراطية والإزدهار والتقدم .. أم مستقبل سيشهد نقيض كل ذلك؟ .. والإجابة عن هذا السؤال تحدد الإجابة عن السؤال حول مستقبل العقل المسلم : أهو طريق الإسلام الوسطي أم طريق الإسلام الوهابي؟ إن الإسراع في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي هو الضمانة الوحيدة للتقليل من الشعبية غير العقلانية لفكر الجماعات الإسلامية في العالم. فإذا شعرت شعوب المجتمعات الإسلامية بمتعة الحرية والمشاركة وواكب ذلك تحسن ملحوظ في الاقتصاد والظروف الحياتية مع إصلاح تعليمي ملموس – فإن شعوب المجتمعات الإسلامية سينخفض إعجابها غير العقلاني بالجماعات الإسلامية وستدرك تلك الشعوب أن الخير والصواب لا يمكن أن يتوفرا على يد أشخاص مثل قادة هذه التيارات بذهنيتهم المتسمة بالتعصب والبداوة وضيق الأفق وعدم المعرفة بمعظم معطيات العصر.
إن اليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد هي مكونات البيئة المثلى لازدياد شعبية التيارات السياسية الدينية. إذ أننا نكون في حالة يتواجد فيها "أمل" (وإن كان مستحيل التحقيق) في مواجهة "يأس كبير". والحقيقة أن المتأسلمين لا يمكن أن يكونوا على درجة عالية من الكفاءة. فهم أصحاب "حلم" (وهم؟!) ووعود كبيرة واعتقاد (لا أساس له) أن لديهم وصفة "فيها البركة" (!؟؟) ولكنني كقائد إداري لمؤسسة كبيرة لسنوات عديدة لا أعرف ما هي مصادر كفاءتهم. إن "التقدم" ظاهرة إدارية عصرية تتحقق للمسيحي واليهودي والمسلم والبوذي إذا توفرت عناصرها – وعناصر التقدم سياسية/إدارية/اقتصادية/تعليمية إنسانية بلا دين ولا جنسية.
و كنتيجة لليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد يعيش العقلاءُ في منطقتنا اليوم وبين أرجلهم ومن حولهم قطعان من المخربين. أما العقلاء، فتعريفهم عندي أولئك الذين يريدون أن يعيشوا وأن يحسّنوا نوعية الحياة لأنفسهم وللآخرين معهم ومن بعدهم . أما المخربين، فهم أولئك الذين يصرون (تحت شعارات يرفعونها وتبدو للسذج نبيلة) على إعاقة الحياة وعملية تواصلها وتواصل تجويدها وتحسين نوعيتها . وأول المخربين، هم أولئك الذين يخلطون (بخبث لا بحسن نية) الدين بالسياسة، فيدعون أن الله معهم وأنهم – لذلك- يملكون وصفة (روشتة) علاج لأمراض واقعنا كلها . وهو زعم ساذج وبدائي ولا أساس له من المنطق أو التجربة التاريخية . فالتاريخ الذي يصفونه بالمجيد لم يكن أكثر من تاريخ إنساني كان عامرًا بالصراعات والدم (مقتل ثلاثة من أربعة خلفاء راشدين ... وجرائم بني أمية بدءًا من مقتل الحسين وأنصاره إلى آخر السلسلة المعروفة من حكامهم وحكمهم الذي وصفه ابن خلدون
بأنه ما كان إلا ملكًا عضوضًا) ... ثم جرائم معظم الخلفاء العباسيين بدءًا من أوليهما – السفاح وأبي جعفر المنصور
الذين قتلا من ساعدهما على الوصول للحكم – إلى هارون الرشيد بطل مجزرة البرامكة... إلى المأمون الذي أمر بضرب أحمد بن حنبل "ضرب التلف" لاختلافه معه في قضية فلسفية محضة (قضية خلق القرآن أم أبديته)... إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية...
ولا يضحكني شيء أكثر من زعم "أول المخربين" أن نهجهم سيأتي بالبركة الإلهيـة ... فتنجح أعمالهم . وقد تناسى هؤلاء أن البركة (كل البركة) لم تفد المسلمين يوم موقعة أحد حيث انهزموا رغم وجود أقوى أسباب البركة وسطهم وهو الرسول (ص) . وهى حادثة فارقة في تاريخ المسلمين إذ تثبت أن الله (كما كتب الوليد بن رشد بروعة) قد وضع قوانين الحياة وجعلها تعمل ... ومن بين قوانين الحياة أن ينتصر في الحروب من هو أكفأ، و ليس من "يتخيل أن البركة معه" .
ولولا أمية الكثيرين من أبناء مجتمعاتنا وضحالة علم معظم المتعلمين، لكان من الجلي للكل أن "أول المخربين" لا يمكن أن يكونوا أكفاء . فللكفاءة مصدران هما "العلم" و "الإدارة الحديثة" ... ومن غير المتصور أن يتحلى "هؤلاء" ببعض (ناهيك عن الكثير) من مقومات الكفاءة هذه ... ويكفي أن ننظر إليهم ونسمع (ونقرأ) كلامهم ... (يقول أرسطو : "تكلم حتى أراك") .
وإلى جانب "أول المخربين" يقف حسن نصر الله
الذي يصر على تدمير لبنان (أحد أجمل بقاع عالمنا العربي) بسبب تبعيته المطلقة والعمياء لنظام حكم القرون الوسطى في إيران . ومن أكثر ما يحزنني أن يكون معظم الأحياء على سطح الأرض يرون جسامة وفداحة خطأ حسن نصر الله يوم 12 يوليو 2006 (بل يقر هو أيضًا بذلك الخطأ في حديث له مع واحد من أكثر المثقفين العرب إمعانًا في التخريب) ولا يعني ذلك عند شعوبنا وضع هذا الشخص على رأس قائمة المخربين . إن النتيجة العملية الوحيدة لحرب حزب الله لإسرائيل في صيف 2006 هى انتقال "ميليشيا حزب الله وزعيمها" من القتال مع إسرائيل إلى القتال مع لبنان ولبنانيين آخرين أكثر انتماء للعصر من ميليشيات "السيد" المستند بالكلية على "حائط طهران" .
وإلى جوار من ذكرت من المخربين، تأتي "حماس" (الإخوان المسلمون فرع غـزة – كما كانوا يسمون منذ عشرين سنة) . فمن لحظة مجيئهم للسلطة أكدُّوا للبشرية خطورة هذا الفصيل بتصرف غاية في قصر النظر . جاءت حماس بسنةٍ جديدة هى عدم احترام الحكومات الإسلامية لما سبق و أقرته حكومات سابقة . ويزيد من فداحة الخطأ – هنا- معرفتي (المؤكدة) أنه لا يوجد زعيم من زعماء حماس إلاَّ ويؤكد في أحاديثه وحواراته الخاصة أن وجود إسرائيل حقيقة مؤكدة . فلِمَ إذن يتم إيذاء ملايين الفلسطينيين من أجل "وهم" ليس إلاَّ ؟! الجواب : لأننا بصدد "مخربين" لا "رجال حكم مسئولين" .
وفي طهران , يحكم مخربون قد يأخذون البشرية لحرب كونية بسوداوية فكرهم وانعزالهم عن حقائق الواقع ورفعهم شعارات لا تمت للعصر ولا للحضارة ولا للمدنية بصلة . ومخربوا إيران طغمة لا ترى أن من أهم مهامها العمل على تحسين ظروف حياة الشعب الإيراني، وإنما التحول الذي لا تتوفر أيَّ من شروطه لقوة عظمى !..
هل اكتملت قائمة المخربين ؟ .. قطعًا لا .. ففي واشنطن مخربون لم يجيدوا عملاً واحدًا بدءوه منذ سنة 2001 . وبصرف النظر عن صواب أو خطأ ما أقدموا عليه , فإن ما أقدموا عليه مورس بأشد درجات الغلط و الخطأ وانعدام المعرفة والرؤية .
وفي القدس وتل أبيب مخربون آخرون لم يدركوا قط أن الزمن (الذي يحاولون كسبه) إنما يعمل ضدهم ... كما أنهم لم يدركوا قط حجم مساهمتهم في إطلاق مارد المتأسلمين من قمقمه ...وربما يدركوا ذلك – بعد فوات الأوان .
عالم مجنون هو الذي نعيش وسطه ... عالم حاشد بالمخربين الذين يحملون نار حقد هائلة في منطقة كلها مواد قابلة للاشتعال : البترول والدين .
وإذا كان من السهل على أي مواطن أوروبي أو أمريكي غير متعمق في تفاصيل ما سلف أن يظن أن الإسلامَ والعنفَ والإرهابَ هي أمورٌ ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهمًا محددًا للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل انهمار الثروة البترولية قد أصبح في ظل ظروف شرحتها في فقرة سابقة من فصل سابق قادرًا على أن يجعل ( بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام)، والحقيقة أنه فهمٌ ضيقٌ وصغيرٌ ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية، وأن ملايين المسلمين في مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لا يزالون بعيدين كل البعد عن حدةِ وتشددِ وتطرفِ وعنفِ ودمويةِ هذا المذهب الصغير في قيمته الفكرية والذي لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية وأضيف وبكل الصدق "على الإسلام والمسلمين"، وأعني هنا المسلمين الذين عرفهم العالم في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة– ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعلِ حكامٍ طغاةٍ مستبدين (وفاسدين) في ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسةً سهلةً للفهمِ الوهابي للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.
أيضًا، لست بحاجةٍ لأن أُلفت انتباه القارئ المحايد إلى أن وجودَ نصوصٍ في القرآن يمكن أن تستعمل كدليلٍ على عنفِ الإسلام هو أمرٌ لا أهمية له : فمن جهةٍ، هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروفٍ وملابساتٍ معينةٍ، فالعبرةُ ليست بالنص وإنما بالعقل الذي يتعامل مع النص . كذلك فإن هناك نصوصًا قرآنية أخرى عديدة تدعوا لنقيض العنف والعدوان على المختلفين دينًا ومذهبًا بل و تحض على التعامل معهم بعدلٍ وإنسانيةٍ . كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين على الجانبِ الآخرِ أن يقولوا إن في أسفار التوراة بوجه عام وفي سفر يشوع بن نون بوجهٍ خاص ما يحض أيضًا على العنفِ والدمِ – وهو ما لا ينبغي أن تتجه إليه العقول .
إن المهمةَ السامية في هذا المجـال هـي مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنساني للإسلام والذي كان هو دائمًا "الأغلبية" ومقاومة الفهم المتشدد والمتطرف بل و الدموي الذي أنتجته (وهذا أمر طبيعي) العزلةُ وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية واختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانيًا ومتسامحًا وإيجابيًا . وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف السعودي/ الوهابي
لم يعد من الممكن له أبدًا أن يستمر فهو حلف يرسخ فكرًا ظلاميًا متطرفًا معاديًا للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهي التعددية. على كل، فأنا ممن يدعون أنه لا توجد ظواهر إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الاجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفًا جوهره احتمال انزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الانهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مرورًا بعدم الكفاءة وانهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن اتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي سيؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاَّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكًا لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الانتشار الكبير.
إن عدم انشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والذي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحًا – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جدًا من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي
ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.
وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية واكتشاف البترول كانت أشياءٌ كثيرةٌ في الدنيا قد تغيرت:
- أولاً : تحققت ثروة هائلة سمحت بالإنفاق ببذخٍ على الفهم الوهابي للإسلام في الداخل والخارج. وهو ما أدى لحدوث تأثيراتٍ لا تنكر على فهمِ الكثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام؛ إذ اقتربت عقولُ العديد منهم لنموذج الفهم الوهابي للإسلام.
- ثانيًا : تعرضت مصرُ لتراجعٍ كبيرٍ في كل مستوياتها منذ الستينيات بما في ذلك تراجع مُناخها الثقافي العام وتغلغل النفوذ الوهابي داخل مؤسسة الأزهر العريقة؛ ثم جاءت هزيمةُ يونيه 1967 لتفتح المجال واسعًا أمام المجموعات المتأثرة في مصرَ بالفهم الوهابي للإسلام لكي تتحول إلى تياراتٍ سياسيةٍ نشطة ذات توجهات متشددة بل و متطرفة بل و حاملة للمدفع والبندقية.
- ثالثًا : ارتكب الغربُ بوجهٍ عام والولاياتُ المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص أخطاءً عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها غض النظر عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام في العالم العربي والإسلامي والتعامل مع تياراتٍ تنتمي للفهم الوهابي للإسلام بغرضِ تحقيق أهدافٍ محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان.
وهكذا يكون السؤال حول "مستقبل العقل المسلم" هو ذات السؤال حول "مستقبل المجتمعات المسلمة" – هل هو مستقبل في ظل الحريات والديمقراطية والإزدهار والتقدم .. أم مستقبل سيشهد نقيض كل ذلك؟ .. والإجابة عن هذا السؤال تحدد الإجابة عن السؤال حول مستقبل العقل المسلم : أهو طريق الإسلام الوسطي أم طريق الإسلام الوهابي؟ إن الإسراع في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي هو الضمانة الوحيدة للتقليل من الشعبية غير العقلانية لفكر الجماعات الإسلامية في العالم. فإذا شعرت شعوب المجتمعات الإسلامية بمتعة الحرية والمشاركة وواكب ذلك تحسن ملحوظ في الاقتصاد والظروف الحياتية مع إصلاح تعليمي ملموس – فإن شعوب المجتمعات الإسلامية سينخفض إعجابها غير العقلاني بالجماعات الإسلامية وستدرك تلك الشعوب أن الخير والصواب لا يمكن أن يتوفرا على يد أشخاص مثل قادة هذه التيارات بذهنيتهم المتسمة بالتعصب والبداوة وضيق الأفق وعدم المعرفة بمعظم معطيات العصر.
إن اليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد هي مكونات البيئة المثلى لازدياد شعبية التيارات السياسية الدينية. إذ أننا نكون في حالة يتواجد فيها "أمل" (وإن كان مستحيل التحقيق) في مواجهة "يأس كبير". والحقيقة أن المتأسلمين لا يمكن أن يكونوا على درجة عالية من الكفاءة. فهم أصحاب "حلم" (وهم؟!) ووعود كبيرة واعتقاد (لا أساس له) أن لديهم وصفة "فيها البركة" (!؟؟) ولكنني كقائد إداري لمؤسسة كبيرة لسنوات عديدة لا أعرف ما هي مصادر كفاءتهم. إن "التقدم" ظاهرة إدارية عصرية تتحقق للمسيحي واليهودي والمسلم والبوذي إذا توفرت عناصرها – وعناصر التقدم سياسية/إدارية/اقتصادية/تعليمية إنسانية بلا دين ولا جنسية.
و كنتيجة لليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد يعيش العقلاءُ في منطقتنا اليوم وبين أرجلهم ومن حولهم قطعان من المخربين. أما العقلاء، فتعريفهم عندي أولئك الذين يريدون أن يعيشوا وأن يحسّنوا نوعية الحياة لأنفسهم وللآخرين معهم ومن بعدهم . أما المخربين، فهم أولئك الذين يصرون (تحت شعارات يرفعونها وتبدو للسذج نبيلة) على إعاقة الحياة وعملية تواصلها وتواصل تجويدها وتحسين نوعيتها . وأول المخربين، هم أولئك الذين يخلطون (بخبث لا بحسن نية) الدين بالسياسة، فيدعون أن الله معهم وأنهم – لذلك- يملكون وصفة (روشتة) علاج لأمراض واقعنا كلها . وهو زعم ساذج وبدائي ولا أساس له من المنطق أو التجربة التاريخية . فالتاريخ الذي يصفونه بالمجيد لم يكن أكثر من تاريخ إنساني كان عامرًا بالصراعات والدم (مقتل ثلاثة من أربعة خلفاء راشدين ... وجرائم بني أمية بدءًا من مقتل الحسين وأنصاره إلى آخر السلسلة المعروفة من حكامهم وحكمهم الذي وصفه ابن خلدون
بأنه ما كان إلا ملكًا عضوضًا) ... ثم جرائم معظم الخلفاء العباسيين بدءًا من أوليهما – السفاح وأبي جعفر المنصور
الذين قتلا من ساعدهما على الوصول للحكم – إلى هارون الرشيد بطل مجزرة البرامكة... إلى المأمون الذي أمر بضرب أحمد بن حنبل "ضرب التلف" لاختلافه معه في قضية فلسفية محضة (قضية خلق القرآن أم أبديته)... إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية...
ولا يضحكني شيء أكثر من زعم "أول المخربين" أن نهجهم سيأتي بالبركة الإلهيـة ... فتنجح أعمالهم . وقد تناسى هؤلاء أن البركة (كل البركة) لم تفد المسلمين يوم موقعة أحد حيث انهزموا رغم وجود أقوى أسباب البركة وسطهم وهو الرسول (ص) . وهى حادثة فارقة في تاريخ المسلمين إذ تثبت أن الله (كما كتب الوليد بن رشد بروعة) قد وضع قوانين الحياة وجعلها تعمل ... ومن بين قوانين الحياة أن ينتصر في الحروب من هو أكفأ، و ليس من "يتخيل أن البركة معه" .
ولولا أمية الكثيرين من أبناء مجتمعاتنا وضحالة علم معظم المتعلمين، لكان من الجلي للكل أن "أول المخربين" لا يمكن أن يكونوا أكفاء . فللكفاءة مصدران هما "العلم" و "الإدارة الحديثة" ... ومن غير المتصور أن يتحلى "هؤلاء" ببعض (ناهيك عن الكثير) من مقومات الكفاءة هذه ... ويكفي أن ننظر إليهم ونسمع (ونقرأ) كلامهم ... (يقول أرسطو : "تكلم حتى أراك") .
وإلى جانب "أول المخربين" يقف حسن نصر الله
الذي يصر على تدمير لبنان (أحد أجمل بقاع عالمنا العربي) بسبب تبعيته المطلقة والعمياء لنظام حكم القرون الوسطى في إيران . ومن أكثر ما يحزنني أن يكون معظم الأحياء على سطح الأرض يرون جسامة وفداحة خطأ حسن نصر الله يوم 12 يوليو 2006 (بل يقر هو أيضًا بذلك الخطأ في حديث له مع واحد من أكثر المثقفين العرب إمعانًا في التخريب) ولا يعني ذلك عند شعوبنا وضع هذا الشخص على رأس قائمة المخربين . إن النتيجة العملية الوحيدة لحرب حزب الله لإسرائيل في صيف 2006 هى انتقال "ميليشيا حزب الله وزعيمها" من القتال مع إسرائيل إلى القتال مع لبنان ولبنانيين آخرين أكثر انتماء للعصر من ميليشيات "السيد" المستند بالكلية على "حائط طهران" .
وإلى جوار من ذكرت من المخربين، تأتي "حماس" (الإخوان المسلمون فرع غـزة – كما كانوا يسمون منذ عشرين سنة) . فمن لحظة مجيئهم للسلطة أكدُّوا للبشرية خطورة هذا الفصيل بتصرف غاية في قصر النظر . جاءت حماس بسنةٍ جديدة هى عدم احترام الحكومات الإسلامية لما سبق و أقرته حكومات سابقة . ويزيد من فداحة الخطأ – هنا- معرفتي (المؤكدة) أنه لا يوجد زعيم من زعماء حماس إلاَّ ويؤكد في أحاديثه وحواراته الخاصة أن وجود إسرائيل حقيقة مؤكدة . فلِمَ إذن يتم إيذاء ملايين الفلسطينيين من أجل "وهم" ليس إلاَّ ؟! الجواب : لأننا بصدد "مخربين" لا "رجال حكم مسئولين" .
وفي طهران , يحكم مخربون قد يأخذون البشرية لحرب كونية بسوداوية فكرهم وانعزالهم عن حقائق الواقع ورفعهم شعارات لا تمت للعصر ولا للحضارة ولا للمدنية بصلة . ومخربوا إيران طغمة لا ترى أن من أهم مهامها العمل على تحسين ظروف حياة الشعب الإيراني، وإنما التحول الذي لا تتوفر أيَّ من شروطه لقوة عظمى !..
هل اكتملت قائمة المخربين ؟ .. قطعًا لا .. ففي واشنطن مخربون لم يجيدوا عملاً واحدًا بدءوه منذ سنة 2001 . وبصرف النظر عن صواب أو خطأ ما أقدموا عليه , فإن ما أقدموا عليه مورس بأشد درجات الغلط و الخطأ وانعدام المعرفة والرؤية .
وفي القدس وتل أبيب مخربون آخرون لم يدركوا قط أن الزمن (الذي يحاولون كسبه) إنما يعمل ضدهم ... كما أنهم لم يدركوا قط حجم مساهمتهم في إطلاق مارد المتأسلمين من قمقمه ...وربما يدركوا ذلك – بعد فوات الأوان .
عالم مجنون هو الذي نعيش وسطه ... عالم حاشد بالمخربين الذين يحملون نار حقد هائلة في منطقة كلها مواد قابلة للاشتعال : البترول والدين .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)