السبت، أكتوبر 27، 2012

الخطط السكندرية - رأس التيــن

صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث



د. خالد محمود هيبة
عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر
والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


- "رأس التين" حي من أهم أحياء الإسكندرية وأكثرها عراقة، ويقع ذلك الحي في أقصى الشمال من المدينة، حيث يشغل الجزء الغربي من شبه جزيرة "فاروس" القديمة داخل بروز أطلق عليه قديما اسم "شبه جزيرة الفنار"، وترتبط المنطقة والتي تطل على "الميناء الغربي" للمدينة بمختلف مناطق وأحياء المدينة بمجموعة من الطرق والمحاور الشهيرة، وأشهرها على الإطلاق شارع "رأس التين" الذي يحمل ذات مسمى الحي العريق ومن الملاحظ أنه لا يقدم على سكنى هذه المنطقة سوى أبناء الإسكندرية الأصليين ممن ولدوا ونشأوا في ذات الحي حيث عاشوا مع ذويهم في تلك المنطقة والتي يطلق عليها السكندريون مجازا مسمى حي "بحري" تمييزا لها عن باقي أحياء الإسكندرية تقديرا منهم لأصالة ذلك الحي وارتباط جذورهم العائلية بالمدينة والبحر الذي شكل وجدانها تاريخها فصبغها بصبغته، وهو الأمر الواضح في تلك المنطقة ذات التاريخ المديد من مدينة الإسكندرية.


الميناء الغربي للإسكندرية مع بدايات القرن العشرين حيث تقع منطقة "رأس التين".

- ومسمى "رأس التين" يرجع إلى ما قبل زمن الحملة الفرنسيةعلى مصر عام 1798م، حيث يصف تلك المنطقة العالم الفرنسي "جراتيان لوبير" في دراسته عن مدينة الإسكندرية، وذلك من خلال موسوعة "وصف مصر" فيذكر(1) " أما شبه جزيرة الفنار والتي تسمى بالعربية روضة التين، إذ كانت تزرع هناك بنجاح كبير أشجار التين التي تنتج أفخر الثمار، فتغطي الميناء القديم (الميناء الغربي) بطول يبلغ 2650 مترا بالاتجاه نحو الجنوب الغربي، وتربتها الملحية الفاصلة ليست سوى صخرة جيرية يبهر ويؤذي العين لونها الأبيض الذي تجعله الشمس باهرا على الدوام، وكل شبه الجزيرة هذا محاط بشعب صخرية في مستوى سطح الماء وبخاصة إلى الغرب من جسر حصن الفنار".
 - ويضيف "لوبير" " ويدافع عن الرأس الواقع إلى جنوب غرب شبه الجزيرة هذه، والذي لا يمكن الاقتراب منه، بطارية قريبة تتسمى باسم رأس التين"، وهكذا كان حال منطقة "رأس التين" مع نهاية القرن الثامن عشر، ويؤكد على سبب تلك التسمية "على باشا مبارك"(2) في خططه وذلك عند تأريخه لتعمير منطقة "الميناء الغربي" للإسكندرية في عهد والي مصر "محمد علي باشا" حيث يذكر "في الأماكن التي أنعم بها عليهم من الأراضي التي كانت إذ ذاك من زاوية خطاب من الجهة البحرية إلى البحر المالح، وكانت قبل ذلك كلها مزروعة تينا برشوميــا، ومقسمة إلى زربيات متنوعة، فاتسع بذلك دائر الميناء وحدث بها ترسانة تشتمل على جميع ما يلزم لإنشاء وترميم المراكب الحربية وغيرها".
1- علماء الحملة الفرنسية – ترجمة زهير الشايب. وصف مصر ج3 - دراسات عن المدن والأقاليم المصرية، ( القاهرة: الناشر المؤلف، 1984 )، ص   290.
2- على مبارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )،  ص   138.   
- كان من أوائل من عمر تلك المنطقة الوالي "محمد علي باشا" ذاته، حيث أدرك أهمية الإسكندرية ومينائها فغي وقت مبكر من سنوات حكمه الممتدة وفي ذلك يضيف "علي باشا مبارك" فيذكر(1) " وحيث كان غير خفي على ذكائه أهمية موقع الإسكندرية من الديار المصرية، وأنها بالنسبة للقطر جميعه كالرأس بالنسبة للإنسان، سيما وهى من أعظم ثغور الإسلام عليها المدار في تحصين القطر وسد عوراته، صرف إليها همته العلية، واحتفل بها احتفالات سنية، وأجرى فيها من محاسن الترتيبات والتنظيمات ما أوجب لها العمارة و تزايد الخيرات، وكثر فيها الصادر والوارد فعاد إليها وسيم نضرتها و قديم شهرتها ".


 سراي "رأس التين" بعد الانتهاء من تشييدها خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

- فكان أول ما أنشأ "محمد علي باشا" بالإسكندرية سراي "رأس التين" حيث اختار ذلك الموقع بشبه الجزيرة ليشيد أعظم قصوره وأفخمها على الإطلاق،  

1- على مبارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )،  ص    133.

وليجعل منها من تلك السراي قصرا ومقرا صيفيا لإدارة شئون مصر(1)، حيث فرغ من تشييدها في 22 شعبان عام 1245هـ (1830م)، وهو الأمر الذي توارثه خلفاءه من حكام مصر من ولاة وسلاطين وملوك وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952م حيث اتخذ كل هؤلاء من ذلك القصر بالإسكندرية مقرا صيفيا له لإدارة شئون البلاد.
- وكان تشييد "محمد علي باشا" لتلك لسراي "رأس التين" متزامنا مع بدء تعميره للميناء الغربي، حيث تطل عليه السراي فقام بتوسعيه وتعميقه   واستحضر لذلك الغرض الكراكات من أوروبا وأنشأ الأرصفة داخله لترسو السفن، وملأ المسطحات المتخلفة مابين الأرصفة والشاطيء بالأحجار والأتربة ليتسع الشاطيء، ولينشىء في ذلك الفضاء ما يحتاج إليه الميناء من المخازن وأبنية الجمارك ومساكن الموظفين وغيرها، وقد عهد بذلك إلى "شاكر أفندي" أحد المهندسين المصريين النابغين، والذي خلفه بعد ذلك "مظهر باشا" أحد خريجي البعثات العلمية، حيث قام بإنشاء فنار شبه جزيرة "رأس التين" ليصبح الفنار الرئيسي للإسكندرية لإرشاد السفن القادمة إلى الميناء والخارجة منه(2)، كما سمح للسفن الأوروبية بدخول "الميناء الغربي" بعد أن كانت ممنوعة من الرسو فيه زمن المماليك حيث كان الرسو فيه يقتصر على سفن المسلمين فقط دون غيرها بينما كان "الميناء الشرقي" مخصصا لرسو السفن الأوروبية، فلما تمت توسعة "الميناء الغربي" سمح "محمد علي" للمراكب الأوروبية أيضا بالرسو فيه لتزدهر حركته التجارية نتيجة لذلك، كذلك قام "محمد علي" بإنشاء "ترسانة" الإسكندرية بالقرب من تلك المنطقة

1- أمين سامــي. تقويم النيل، الجزء الثاني، ( القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2003 )، ص    362.
2- على مبـارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )، ص ص.   134– 139.

التي أضاف إليها معسكرا بحريا للتعليم بذات المنطقة "رأس التين" ليصبح النواة لكلية بحرية بعد ذلك(1)، حيث أعدها لاستقبال تسعة عشر ألف طالب مع توفير مكانا لإقامتهم وتعليمهم، فكانوا بمثابة النواة لأسطول مصر العظيم بعد ذلك، كما أنشأ "محمد علي" مستشفى للبحرية في ذات المنطقة لازالت

 فنار شبة جزيرة "رأس التين" وهو الفنار الرئيسي لميناء الإسكندرية  مع بدايات القرن العشرين.

قائمة منذ ذلك التاريخ وإلى الآن (مستشفى رأس التين العسكري البحري)، وهكذا توافرت لمنطقة "رأس التين" كافة المقومات لتصبح إحدى أهم المناطق في مصر والإسكندرية ولتتحول بعد ذلك إلى مقر لقيادة القوات البحرية المصرية قبل وبعد ثورة يوليو وللآن، وليظل سراي "رأس التين" أشهر سرايات مصر على الإطلاق يستقبل الملوك والرؤساء من ضيوف مصر
1- عبد الرحمن الرافعي.  عصر محمد علي، ( القاهرة: دار المعارف، 1982 )، ص    377.

الزائرين، أما حي "رأس التين" فقد اشتهر بسكن رجال البحرية المصرية وعائلاتهم فيه حيث كان أشهر من سكن في ذلك الحي "أم البحرية" السيدة الفاضلة "عصمت محسن"، وهي حفيدة أمير البحر "حسن باشا الإسكندراني" قائد البحرية المصرية الذي استشهد في حرب القرم عام 1854م حيث سكنت حفيدته بجوار قاعدة "رأس التين" لتؤرخ للبحرية المصرية بإصدار المؤلفات والكتب العربية والفرنسية عن تاريخ مصر، ولتفتح منزلها لأبنائها من ضباط البحرية لتسدى لهم النصح وتبدي لهم كل معاونة وتشجيع حتى كرمها الرئيس "جمال عبد الناصر" بمنحها وسام الكمال الذهبي عام 1955م(1).


 سراي "رأس التين" خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين.

 - وليستمر التاريخ الحافل لمنطقة "رأس التين" وقصرها العظيم الفخيم شاهدا على أحداث عدة جسام كوفاة الوالي "محمد علي باشا" مؤسس الدولة العصرية

1- نقولا يوسف. أعلام من الإسكندرية ج2،   ( القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001)، ص    267. 

في مصر الحديثة بتلك السراي في 2 أغسطس عام 1849م وكذلك والي مصر"محمد سعيد باشا" في يناير عام 1854م، كما كانت تلك المنطقة أول مكان في مصر وطئته أقدام قوات الاحتلال البريطاني لمصر في 13 يوليو عام 1882م عقب ضرب الإسكندرية بواسطة الأسطول البريطاني(1)، لتشهد منطقة "رأس التين" بدايات ذلك الاحتلال الغاشم لمصر والذي استمر طيلة 84 عاما جاثما على صدر البلاد ناهبا لخيراتها، ولتشهد أيضا مغادرة الملك "فاروق" لأرض مصر من ذات السراي في 26 يوليو من عام 1952م بعد تنازله عن العرش لنجله الأمير "أحمد فؤاد" وذلك على ظهر اليخت الشهير "المحروسة" من منطقة قصر "رأس التين"، ولينتهي بذلك عهد الأسرة العلوية والملكية في مصر، ولتسطر تلك المنطقة السكندرية الشهيرة "رأس التين" صفحة من صفحات التاريخ بالإسكندرية.


الخطط السكندرية - المنتــــــزة

صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث



د. خالد محمود هيبة
عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر
والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


- تمثل "حدائق المنتزة" بقصرها الشهير وبأشجارها ونباتاتها النادرة مكانة خاصة بالنسبة للسياحة والتنزه في مصر بصفة عامة والإسكندرية بصفة خاصة، فما من نشرة سياحية مصرية إلا وتدرج تلك الحدائق الغناء الشهيرة ذات الساحل الرائع والشواطىء الساحرة ضمن أهم مناطق السياحة والتنزه المصرية، حيث كانت ولا زالت بعبقها التاريخي وسماتها المميزة تجذب الملايين سنويا لزيارتها سواء من داخل مصر أو خارجها وذلك على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على إنشاء "الخديوي عباس حلمي الثاني" لها وتشييده لقصره الشهير المميز بها، ويحكى لنا "أحمد شفيق باشا" رئيس ديوان الخديوي في ذلك الوقت قصة تعمير تلك المنطقة من خلال مذكراته التي أرخ فيها لمصر زمن "الخديوي عباس حلمي"، فنجده يوردها تفصيليا عند تأريخه لأحداث عام 1892م، فيذكر كيف كان "الخديوي" أثناء وجوده بالإسكندرية

الخديوي "عباس حلمي الثاني" مكتشف ومؤسس منطقة حدائق "قصر المنتزة".

 يخرج إلى النزهة في كثير من الأيام مع بعض رجال الحاشية حيث كان يصحبه دائما "أحمد شفيق باشا"، وكان غالبا ما يقصد "سراي الرمل" على آخر الخط الحديدي بالرمل (بمنطقة سيدي بشر ومحطة ترام السرايا ومكانها الآن فندق المحروسة لضباط القوات البحرية)، ومنها يركب وصحبه الدواب إلى جهات مختلفة للتنزه في ضواحي الثغر، ولاسيما طريق "سيدي بشر" إلى شاطىء البحر، حيث يورد "أحمد شفيق باشا" تفاصيل اكتشاف "الخديوي" لتلك المنطقة ومصاحبته له في ذلك فيذكر(1)" أنه في أحد الليالي المقمرة أمر الخديوي بإعداد ثمانين حمارا من حمير المكارية لنركبها ليلا في الصحراء على شاطىء البحر، وأمر أن ترافقنا الموسيقى الخديوية وعدد رجالها خمسة وأربعون، فركبنا، وركبوا وهم يعزفون بموسيقاهم حتى وصلنا إلى سيدي بشر وبعدنا عنها بقليل، ولما سمع العربان هذه الموسيقى التي لا عهد لهم بها، هرعوا إلينا رجالا ونساءا وأطفالا ليستطلعوا ذلك الحدث فلما علموا بوجود أميرهم (الخديوي) صاحوا بالتهليل على عادة العربان، ورافقونا في رجوعنا إلى مسافة طويلة، ثم عدنا وقد مضى أكثر الليل، ولقد أعجب الخديوي بالبقعة المجاورة لسيدي بشر وألسنتها الجميلة الداخلة في البحر، وتسرب الماء بين ثنياتها الصخرية في خرير ساحر فعزم على التوغل فيها لمشاهدتها عن كثب".
- ويستطرد "أحمد شفيق باشا" حيث يستكمل روايته لما تم في اليوم التالي حين ذهب الخديوي لذات المنطقة في معية بعض رجاله فيذكر(2) " وفي اليوم التالي، تجاوزنا في تجوالنا سيدي بشر بمسافة كبيرة وكنا ثلاثة مع الخديوي رولييه بك السكرتير الخصوصي وعلى بك شاهين معاون التشريفات وكاتب هذه السطور (أي أحمد شفيق باشا)، وسرنا حتى بلغنا مكان أعجب الخديوي بمنظره تكتنفه رابيتان عاليتان وبينهما ضلع صغير وفى طرفه الشمالي جزيرة صغيرة وهنا أمر الخديوي بالإناخة فنزلنا عن رواحلنا تجاه هذا الموقع الجميل، ورأى سموه أن ننزل نحن في قارب
1- أحمد شفيق باشا. مذكراتي في نصف قرن ج2، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)، ص ص.    44 – 45.
2- المصدر السابق، ص  45.
صيد كان متروكا على الشاطيء لنرتاد هذه الجزيرة وما حواليها ونتعرف ما فيها، وما يحف بها"، وهكذا نفذ الرجال المطلوب حتى أشار لهم الخديوي بالعودة، ومنذ ذلك اليوم تقرر في ذهن الخديوي أن تكون النقطة التي اكتشفها وأعجب بها مصيفا له وأن ينشىء بها قصرا أنيقا "قصر السلاملك" وكان على إحدى الرابيتان العاليتان مدافع قديمة من عهد والي مصر "محمد علي" حيث كانت تستخدم لحماية الشواطىء في تلك المنطقة (وهي لاتزال قائمة للآن حيث أقيم أمامها مبنى قصر السلاملك)، كما أقام أمامها مزولة (ساعة رملية) نقش عليها بيتان من شعر الشيخ " على الليثي "، أما الرابية الأخرى فقد كان بها قشلاق (مقراً) لخفر السواحل اشتراه الخديوي من الحكومة وبنى مكانه قصر " الحرملك "، وهو يختلف عن قصر الحرملك الشهير الذي شيده الملك فؤاد الأول بعد ذلك (المبنى الرئيسي بالمنطقة حاليا) ليصبح إحدى التحف المعمارية النادرة، حيث مزج القصر في مبنى واحد ما بين "العمارة الكلاسيكية" و"العمارة القوطية" بمراحلها المختلفة وكذا طراز "عصر النهضة الإيطالي" و"الطراز الإسلامي" (1).
 

 المدافع التي وضعها والي مصر "محمد علي باشا" لحماية الشواطىء بتلك المنطقة وقبل إنشاء الحدائق والقصر بمدة تزيد عن الخمسين عاما، ولا تزال قائمة وللآن.
1- د. كمال الدين سامح. لمحات من تاريخ العمارة المصرية منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، (القاهرة: هيئة الآثار المصرية، 1986)، ص     77.


 قصر الحرملك بمنطقة "قصر المنتزة" الذي شيده الملك فؤاد الأول في عشرينيات القرن العشرين محل قصر الحرملك القديم الذي شيده الخديوي عباس حلمي إضافة للكوبري الشهير والسور والبوابات ليستكمل تعمير "المنتزة".

- ووراء الرابيتين كان يقوم بيت منعزل صغير يملكه ثرى سكندري من أصل يوناني يدعى (سينادينو) حيث كان يدعو إليه أصدقاءه في ليالي الصيف المقمرة (على غرار شاليهات الاستجمام في زماننا الحالي)، فيقضى فيه أوقاتا للراحة في ظل تلك الطبيعة الساحرة، فاشترى منه الخديوي هذا المنزل، كما اشترى أرضا واسعة من الحكومة ومن الأهالي لتكون ملحقات للقصر الجديد لتبلغ مساحتها حوالي 370 فدان زرعت كحدائق ومتنزهات كما اتخذ من الخليج ميناء للسراي، وهو الميناء الذي كانت ترسو أمامه اليخت الشهير "المحروسة"، كما ربط الجزيرة بالشاطيء بجسر "إيطالي" على الطراز "القوطي"، وبنى على الجزيرة كشك كلاسيكي للشاي.
- أشرف "الخديوي" بنفسه على تنظيم الحديقة الغناء حيث قام بانتقاء أنواع الأشجار التي تغرس بها وكذلك قام بالإشراف على تخطيط الطرقات والممرات بها، كما ألحق بالحديقة منحلا ومعملا للألبان وحظائر للكلاب الخصوصية ومزرعة للدواجن، كما بنى منازل لسكن المستخدمين والعمال الذين يعملون بالقصر وشيد كذلك مسجد وتكية للعجزة وغيرها.
- وهكذا عمرت المنطقة وازدانت بالحدائق الغناء وأطلق عليها وعلى القصر معا مسمى واحد هو "قصر المنتزة"، وفي سبب اختيار ذلك المسمى الشهير يذكر أيضا "أحمد شفيق باشا" سبب التسمية فيروي(1) " أما سبب تسميته بهذا الاسم، فقد كنا ذات يوم بحضرة الخديوي وكان بيننا محمود شكري باشا رئيس الديوان التركي، فطلب منا سموه (أي الخديوي) أن ننتخب اسما للقصر الجديد فأخذ كل منا يقترح اسما وكان اقتراح محمود شكري باشا أن يسمى القصر باسم قصــر المنتزة فارتاح سموه إلى هذا الاسم وأطلقه عليه من ذلك الحين ".  
- واستمرت الأسرة العلوية فترة ما بعد الخديوي "عباس حلمي الثاني" في الاهتمام بتلك الحدائق واعتبارها مصيفا رئيسيا للأسرة المالكة حيث كانت إضافات الملك فؤاد الأول بمنطقة الحدائق والشاطىء، حتى كانت إقامة فاروق بها وحتى قيام ثورة يوليو 1952م حيث كان مقيما بها، فأبلغ بقيام الثورة لتتطور الأحداث سريعا ليتنازل فاروق عن عرشه، وليغادر الإسكندرية حيث تسقط الملكية، ولتفتح حدائق وشواطىء المنتزة أبوابها للعامة من أبناء الشعب في أعقاب ذلك كمنتزه عام وللآن لتتحول إلى منطقة سياحية متميزة، أما القصر فقد تحول مبنى "السلاملك" إلى فندق راقي مميز، بينما فتح مبنى "الحرملك" في أعقاب الثورة أمام الجماهير للزيارة قبل أن ينضم إلى مجموعة قصور رئاسة الجمهورية ليحل فيه ضيوف مصر من الرؤساء والملوك والزعماء، وفي عام 1964م أقيم فندقا أطلق عليه اسم "فلسطين" حيث يطل على الخليج الساحر ليشهد مولد أول قمة عربية احتضنتها مصر في زمن

1- أحمد شفيق باشا. مذكراتي في نصف قرن ج2،  (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)،  ص  46.



 الكوبري الملكي المؤدي لكشك الشاي، والبوابة الرئيسية بحدائق قصر المنتزة من إضافات الملك فؤاد الأول.
 المد الوطني القومي العربي(1)، كما يتم استغلال الشاطيء في تشييد الكبائن الجميلة التي لا تمنع رؤية البحر من داخل الحدائق ولتظل المنتزة ذات تاريخ وسحر وبهاء لا يضاهيها في ذلك بقعة أخرى في الإسكندرية ومصر على الإطلاق ولتسطر بذلك صفحة أخرى من صفحات التاريخ في الإسكندرية.












1- د. عبد العظيم رمضان.  تاريخ الإسكندرية في العصر الحديث، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993)، ص ص.     130- 131.

 


الخطط السكندرية - الأزاريـــطة



صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث


د. خالد محمود هيبة

عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر

والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


 


الأزاريـــطة


- في أقصى شرق الميناء الشرقي، ومابين كورنيش الإسكندرية، مرورا بخط ترام الرمل وحتى حدائق الشلالات جنوبا تقع منطقة "الأزاريطة" أو كما يطلق عليها بعض السكندريين والأجانب ممن استوطنوا الإسكندرية (المزاريطة)، وهي تمثل أحد أشهر أحياء الإسكندرية حيث تقع في منطقة ساحليه مابين منطقة ميدان " محطة الرمل "، ومنطقة " الشاطبي" مع نهاية الجانب الشرقي لساحل الميناء الشرقي التاريخي للإسكندرية حيث تم بناء مكتبة الإسكندرية الجديدة على ذات الساحل.


تمثال "نوبار باشا" بحدائق الشلالات بالأزاريطة خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين قبل نقله للمخازن في أعقاب ثورة يوليو عام 1952م، ليعود مرة أخرى ولكن أمام دار أوبرا الإسكندرية "مسرح سيد درويش" مع افتتاحها عام 2004م.

- وبالرغم من أن "الأزاريطة" تعتبر من أرقى أحياء الإسكندرية حيث تضم العديد من مباني مقار الهيئات والمؤسسات الهامة كالمستشفى الجامعي الرئيسي "المستشفى الأميري، أو المستشفى الميري كما يحلو للعامة تسميتها" ومجمع كليات الطب بجامعة الإسكندرية ومجمع الكليات النظرية وديوان حي وسط الإسكندرية ومبنى هيئة الرقابة الإدارية بالإسكندرية ومقار بعض البنوك والفنادق وغيرها من المباني الهامة، إلا أنها تحولت بعد أن هجرها الأجانب الذين كانوا يمثلون الغالبية من سكانها مع نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين إلى منطقة تعج بالورش الحرفية مما حدي بمحافظة الإسكندرية باتخاذ قرار بنقل تلك الورش خارج منطقة "الأزاريطة" لكي تعود المنطقة إلى سابق عهدها زمن الأجانب السكندريين والتي لازالت بعض مبانيهم المؤسسية قائمة بمنطقة بالازاريطة وللآن كمقر النادي اليوناني السكندري حيث يشغل مساحة واسعة تقع على خط ترام الرمل، وكذا قنصليتي اليونان وقبرص ومدافن الطائفة الإسرائيلية الأثرية وبعض مباني ملاجىء ومدارس تلك الجاليات المختلفة وغيرها.
- يرجع تاريخ تلك منطقة "الأزاريطة" إلى عام 1820م في عهد والي مصر "محمد علي باشا"، حين نهض بالإسكندرية وأعاد لها مكانتها كميناء رئيسي لمصر، ففكر في ضرورة إنشاء مجلس صحي بها، فشكل في عام 1242هـ (1827م) مجلساً كان أعضاءه من أطباء الجيش وصيدليته وأطلق عليه مجلس " الصحة والاسبتاليات " (1)، وفي عام 1835م وضع "كلوت بك" لهذا المجلس نظام خاص به وأطلق عليه "مجلس الصحة العمومي"، ومع انتشار الكوليرا في مصر عام 1831م زادت عناية "محمد علي" بهذا المجلس وأدخل إليه نظام الحجر الصحي المعمول به في أوروبا خدمة للأمور الصحية والتجارية في جميع البلاد الواقعة على البحر المتوسط فجمع قناصل الدول وشكل منهم لجنة للنظر في الأمور الخاصة بالحجر الصحي وأصدر بذلك دكريتو في 8 أكتوبر عام 1831م حيث تم في عام 1832م تم بناء أول محجر صحي بجوار الميناء الشرقي حيث كانت ترسى السفن الأوروبية والأجنبية في تلك الفترة، (وهو في الغالب ذات المكان الذي يشغله الآن المستشفى الجامعي الرئيسي "المستشفى الأميري").
1- أمين سامي. تقويم النيل، الجزء الثاني، ( القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2002)، ص 370.
وقد أطلق عليه لفظ "لازاريت" (Lazarette)¬(1) وهو اللفظ الذي أطلق على أول محجر صحي أقامته "فرنسا" عام 1403م وجعلته في جزيرة صغيرة قريبة


ميدان "الخرطوم" أمام مجمع كليات الطب بالأزاريطة خلال فترة
النصف الأول من القرن العشرين.


منها بالبحر "الأدرياتيكي" تسمى جزيرة "سانت ماري دو نازاريه" حيث كانت تحجر فيها على البضائع والأشخاص القادمين إليها من الشرق لينتشر ذلك النوع من الرعاية الصحية للثغور بالمتوسط فأقامت مدينة "جنوه" بجنوب ايطاليا محجراً صحياً عام 1467م، وكذلك "مرسيليا" بجنوب فرنسا عام 1526م ولم تعرف مصر هذا النوع من المباني الصحية حتى أنشأ "لازاريت الإسكندرية" عام 1832م.
1- محمد لبيب البتانوني. الرحلة الحجازية لولي النعم الحاج عباس حلمي الثاني خديوي مصر، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995)، ص 358.
- ولفظ لازاريت (Lazarette) ذات أصل لاتيني معناها (Ladre) أي الأبرص أو المجزوم، حيث كانت الدولة الرومانية تبالغ في الحجر على المجذومين فكانوا يضعوهم في الحجر طوال حياتهم، ومن ذلك اللفظ اشتقت كلمة الأزاريطة وذلك مع النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتجدر الإشارة بأن الإسلام كان سباقا في إقرار نظم الحجر الصحي قبل وضع القوانين الأوروبية بقرون عدة، حيث ورد بالبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"(1) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصبح ذلك الحديث الشريف أول قانون صحي وضع للناس قبل صدور قوانين الحجر الصحية الأوروبية بثمانية قرون.
- وهكذا صار للإسكندرية محجراً صحياً بتلك المنطقة مجاوراً للميناء الشرقي التليد، والذي انتقل مع انتقال حركة السفن منه إلى الميناء الغربي لمنطقة "الكارانتية" وذلك مع نهاية عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر بعد أن انتهى "محمد علي" من توسعته ذلك الميناء وبناء الأرصفة الجديدة، وكذا تشييده لسراي "رأس التين" لتصبح مقرا لإقامته، ليتبقى منه المسمى فقط للمنطقة المجاورة للميناء الشرقي القديم، حيث يطلق عليها مسمى "الأزاريطة" وليقطن بها الأجانب بعد ذلك في عهد الخديوي "إسماعيل" ولتستمر كذلك مع بداية القرن العشرين لتصبح أحد أهم وأرقى أحياء الإسكندرية قبل أن يهجرها هؤلاء الأجانب في أعقاب قيام ثورة يوليو عام 1952م وكذا إغارة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ليترك الأجانب مصر والإسكندرية فتهمل منطقة "الأزاريطة"، وتزحف الورش العشوائية وغيرها من ملوثات البيئة العمرانية حتى اتخذت محافظة الإسكندرية قرارها بنقل تلك الورش خارج 

1- الأمام الحافظ بن حجر العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (القاهرة: دار الريان للتراث، 1987)، ص 189.




مكتبة الإسكندرية الجديدة بعد افتتاحها عام 2002م.

 جدارية مكتبة الإسكندرية الشاخصة بشارع "سوتر" بمنطقة "الأزاريطة"


الأزاريطة، ولعلها تنجح في ذلك الأمر سريعا وبخاصة بعد افتتاح "مكتبة الإسكندرية" الجديدة على ساحل الكورنيش بجوار ذات المنطقة في "الأزاريطة" لإعادة إحياء تلك المنارة العلمية الثقافية الحضرية التي اشتهرت بها الإسكندرية لقرون عدة حيث قادت من خلالها الإسكندرية الحركة العلمية والفكرية في المعمورة طيلة تلك الفترة، لتعود للذاكرة صفحة من صفحات التاريخ بالإسكندرية.

الأربعاء، أكتوبر 03، 2012

مجلة السكرى - أرض الذهب , العدد العاشر - يونيو 2012 م

مجلة السكرى - أرض الذهب

 

 جروب المجلة على الفيس بوك

العدد العاشر - يونيو 2012 م

المشرف العام : أحمد الراجحى

المدير العام : عميد / عصمت الراجحى

تصميم و إخراج فنى : حسن هريدى