الجمعة، مايو 20، 2011

صوت الشعب لا يموت .... إبحار في مملكة زعيم الأغنية الشعبية.... محمد رشدى ( جزء أول )



عملاق الاغنية الشعبية

لن تاتى الاغنية بمثله ولو تفجرت الحناجر

ولو استمتعت الاذان ببعض الفحيح






'حلوا المراكب.. والله.. يا ناس ما راكب.. ولا حاطط رجلي في الميه.. إلا ومعايا عدوية' ربما كانت تلك الكلمات أجمل ما غناه الفنان محمد رشدي




المطرب الذي افتقده الغناء العربي كثيرا يعتبر بحق زعيم الاغنية الشعبية المصرية بلا منازع الذي رحل عن عالمنا واستسلم أخير ا فوضع قدمه في مركب الموت. غاب عن عمر 77 عاماً، بعد صدور آخر أسطوانة له عنوانها "دامت لمين"، وبعد رقاده الطويل في مستشفى السلام الدولي ترافقه زوجته وأولاده والشاعر عبد الرحمن الأبنودي قبل أن يدخل في غياهب الرحيل النهائي.
المفارقة إن رحيله يأتي مباشرة بعد عودته القوية إلى الغناء، وبعد انتهائه من تصوير فيديو كليب أغنية "قطر الحياة"،



وكان يراقب نجاح ألبومه الأخير من المستشفى بفرح ويحمد الله إذ أن مبيعات الألبوم فاقت إصدارات المغنين الشباب على الساحة المصرية حسب ما أكده أصحاب المحال.
نال شعبية كبيرة بين مجايليه من المطربين، بسبب أدائه الشعبي الراقي، وحضوره الأخاذ، وسلطة الصوت العريض الصافي القادر على السلطنة. صوت رفض التنازلات حتى آخر لحظة من عمره، لكنه أثبت أن زمن الفن الحقيقي لم ينتهِ رغم محاولات تزييف الأغنية اليوم وتهجينها وإخلائها من المضمون والمشاعر الصادقة، وإدخالها في عصر السطحية وعصر الفيديو كليب، وعروض النجوم الحارة.رحل بعدما أثبت للجميع أن النجاح غير مرتبط بسن أو شكل أو حتى الإبتذال الذي يعتقد البعض إنه طريقهم للنجاح ، فقدم ألبوم "دامت لمين" الذي لا يتضمن أساليب ملتوية من تلك التي تخدر الجمهور وتنافس من خلاله مع نجوم الشباك في سوق الكاسيت



رحل بعد أن تخطى السابعة و السبعين، لكنه كان في صورته التي حفرت له في ذاكرتنا منذ الصغر.. شابا وسيما.. تراه في الأغاني القديمة المصورة أبيض وأسود.. مبتسما دائما، يفيض حيوية وشبابا.. ثم انقطع عن الغناء فترة طويلة.. شغلنا فيها بعشرات المطربين الآخرين.. وبهتت صورته وابتسامته في ذاكرتنا.. وعندما أعلن خبر رحيله.. راحت تتكرر على مدار اليوم في قناة مزيكا..أغنيته الأخيرة الحزينة(قطر الحياة)، فإذا به كهلا.. نظرته ساهمة.. صوته كما هو قوي ومعبّر.. لكن حزنا شديدا يقطر منه.. كلمات الأغنية فائقة الروعة في التعبير عن مرحلة.. ما قبل الرحيل، يبدو أن كاتبها مصطفى كامل.. كتبها خصيصا له.. ليغنيها قبل انسحابه من الحياة.. شاكيا من أزمته مع المرض.. ومشوار الكفاح في الحياة.. لا تجد في هذه الأغنية ذلك الشاب الوسيم المبتسم.. لكنك تجد فيها عجوزا حزينا ينتظر الموت بتسليم هادئ.. يسأله الكورس(خايف؟؟.. لا والله ما أنا خايف.. شايف؟؟ ما أنا من زمان شايف).. أغنية تبكيك مرتين.. مرة على ذلك المنسحب من الحياة.. الذي كان جزء من طفولتنا وصبانا.. بدا لقلوبنا الصغيرة حينها.. وكأنه إحدى الظواهر العادية في الوطن المعذب.. ومرة لأنها تنبهك.. أنك في الغالب ستعيش اللحظة الصعبة كما عاشها.. تنتبه وأنت تستمع إلى الأغنية الحزينة.. أنك.. ستموت ذات يوم! تتساءل.. كيف ستكون ملامحي حينها.. فهذا العجوز الساهم.. الجالس وحيدا على أريكة في حديقة.. يغني بصوت قوي وقلب ضعيف.. غير مكترث كثيرا على ما يبدو.. بالكاميرا التي تصوره.. كان ذات يوم.. شابا متفائلا بالحياة مثلي.. يا إلهي.. كم هو قاس انتظار الموت بتلك المباشرة الفجة.. يغني محمد رشدي مخاطبا الزمن(على فين.. ما تقوللي ياقطر رايح.. على فين.. حترجّعلي شبابي.. واللا حتزيد عذابي.. قوللي أعمل حسابي.. نفسي أفرحلي يومين).. يؤديها العجوز بحسرة:(والجاي مش أكتر م الرايح.. والسكة مبقتش طويلة)تلك الحسرة التي تمنح الحكمة في نهايات العمر.. (جرح السنين جاي ورايح.. والفرح جياته قليلة)! وتلك المخاوف من مرحلة ما بعد الموت.. الموت.. اليقين الوحيد في الحياة!.. (يا ترى اللي جاي أمل زايف.. واللا اللي جاي.. دنيا جميلة).. لا نسأل أنفسنا عادة بينما نتفجر شبابا وحياة.. إن كان الآتي .. أملا زائفا أو جنة.. على صورة دنيا.. حلمنا دون جدوى أن تكون.. جميلة! وعندما نشعر بدنو الأجل.. نتساءل.. خايف؟؟.. نكابر.. لا واللهه ما أنا خايف.. شايف؟؟.. ما أنا من زمان شايف! عندما نكبر.. نشيخ.. وتفلت من بين أيدينا الحياة.. بهذه القسوة.. (دنيا.. والله ولا الساقية.. دنيا .. مين اللي قال باقية)نتساءل عما دفعناه من ثمن.. خلال العمر.. كي نحصل على.. تفاهات.. يغني محمد رشدي في ختام أغنيته.. وختام حياته.. وربما نرددها بعده.. في ختام حياتنا: الحمد لله يا ليالي.. غاليين.. ومرخصناش ليلة!

الصوت كالسكن إما أن تحبه وتقيم فيه وتجد فيه ذاتك وأحلامك وإما أن تهجره ولا تعود إليه مرة أخري بهذه العبارة اسمحوا لي أن أفتح حوارا مع ذلك الصوت الذي كان من الأهل وليس أقل من الدار والأصحاب والرفيق لا لقوته أو لعمقه بل لهذا البراح الذي تجده فيه والذي لا أعرفكم به فأنتم تعرفونه وكم سهرتم مع صوته تستحثون الدفء في الشتاءات الصعبة.
لذا أبسط ما يقال عنه .. عن صوت محمد رشدي ليس صوت الأغنية الشعبية فحسب ولا زعيمها فقط ليس أقل من صوت الإنسان لما استطاع أن يقدمه عبر تجربته الطويلة من أغان استقت مفرادتها من روح الشعب وطقوسه وتفاصيله منحازا دائما إلي الذوق الراقي في الاختيار منذ جاء من مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ ليبدأ رحلته بـ «قولوا لمأذون البلد» ليزرع السرور بدلا من التعاسة في كل قلب ويبدد الاغتراب في كل نفس ضاقت بنفسها لما يتمتع به من ظل خفيف يشعرك من خلاله أنك هو.. يغني لك .. لأفراحك، وأحزانك كما لو كان منديلا يعرف مواعيد سقوط دموعك فتجده تحت رمشك مباشرة.

ولعل فعل السحر الذي يتركه فينا صوت محمد رشدي يرجع إلي كونه من الأصوات النادرة التي يمكننا أن نسميها بالصوت المنساب أي المرن الذي يخلو من أي نتؤات أو تعاريج فهو صوت سهل ذا مساحة منفتحة وغير منتهية وذلك إن كان له علاقة بشيء فليس هناك سوي الصدق الذي عاش حياته في صوته الذي لا يشاركه في هذه الميزة سوي أصوات بحجم قنديل وكارم محمود وطلب وعبدالغني السيد وعباس البليدي.
ومعجزة رشدي لم تقتصر فقط علي صوته بل تركزت في تجربته فحين جاء إلي القاهرة كان «طِلب» بصوته الغليظ الجميل يغزو مسامع الناس وحليم بأغنياته العاطفية يلهب القلوب إلا أن ذلك كله بدلا من أن يحبطه جعله زائد الإصرار علي أن يقدم تجربة شديدة الاختلاف والتطور واستطاع أن يقدم غناءً خاصا وهو ما يعرف بالشخصية الغنائية مما جعله يحتل مكانة ليست عادية وأصبح هناك شخصية غنائية وصوتية تسمي بشخصية محمد رشدي الغنائية طارحا من خلالها ملامحه الخاصة وكما كانت هناك شخصية التجربة كانت هناك أيضا شخصية الصوت ذلك الذي دفع شاعرا في قامة الأبنودي أن ينزل باحثا عن هذا الصوت ليغني أغانيه فتبدأ مرحلة جديدة من الغناء الشعبي الثري الذي لا يعتمد علي الأزجال القديمة بل أصبح لشعر العامية مكانته الخاصة من خلال تجربة محمد رشدي وهو بداية تفكيك القوالب الغنائية القديمة وتقديم أشكال تتماس وروح المرحلة فكانت أغنيات «عدوية ـ بلديات ـ تحت السجر يا و هيبة» وغيرها من الأغنيات التي لم تترك ركنا من أركان مصر إلا وتركت فيه روحا.

إن صوت محمد رشدي منح بليغ حمدي المساحة التي مكنته من تقديم تشكيلات جديدة من خلال ابتكار أنساق تتماس مع الأبنية التي تمثل الأغنية الشعبية وأصبح الهرم الثلاثي «رشدي ـ بليغ ـ الأبنودي» هو حديث كل محب للفن الشعبي لما تمتعت به تجربتهم من ثراء لم يكن متاحا ومقدما بهذا الشكل.
وهذا ما يدفعني أن أقول إن هناك فرقا كبيرا بين الأغنية الشعبية لدي طلب وعبدالغني السيد وبين الأغنية الشعبية لدي محمد رشدي نظرا لأن شعبية رشدي تستحضر نوع آخر من الغناء الشعبي يقدم مفردات تعتمد علي التراث الشفاهي للغناء الشعبي سواء كان ذلك في أغنياته أو في الملاحم الشعبية التي قدمها كملحن أدهم الشرقاوي التي انطبعت في أذهان الناس وإذانهم بصوت محمد رشدي علي الرغم من غناء الغير لها إلا أن صوت رشدي قدمها كما ينبغي أن تكون الملحمة الشعبية لمتابعته لما تحتاجه كل جملة فبعد أكثر من خمسين موالا يقدم رشدي أدهم الشرقاوي كما لو كان هو....
هذا هو الصدق الذي أشرنا إليه في البداية الذي يتحول من الإحساس إلي مرحلة التجسيد الصوتي وهو ما يحقق الإنسان مع ملامح الراوي الشعبي الذي لا ينفصل عن الحدث بل يتجاوز كونه راويا شعبيا ليحيا الحدث مع الشخصيات ذاتها أي شخصيات الملحمة وهذا ما يعرف باسم التعبيرية في الغناء الشعبي.
ومع «ع الرملة ـ ما علي العاشق ملام ـ طاير يا هوا» يحفر محمد رشدي اسمه في كل وجدان مصري وعربي كما لو كان تحت تأثير تطويق هذا الصوت له وطغيانه عليه.
وما يميز تجربة رشدي أيضا هو تكوين ما يعرف بالمعادلة الصعبة فرشدي ليس مغني فئة ما أو نخبة بعينها بل هو يغني للناس كما كان يكتب ديستويفسكي الإنسان شغله الشاغل فهو ليس مطرب القصور أو أي سلطة ما بل هو المغني الذي يعشق الإنسان إن ما كان يميز صلاح جاهين هو كونه شاعر الناس وهذا هو نفس الفرق بين ديستويفسكي ومكسيم جوركي «الإنسان ـ الفكرة» فالفكرة هي جزء لدي الإنسان بينما الإنسان هو الذي يملك الفكرة لذا حين غني رشدي للثورة كان كل ما يشغله الجانب الاجتماعي نظرا لأنه هو الجانب الذي يجمع بين العاطفي والوطني ولنلاحظ ذلك في أغنياته التي انطلقت مع ثورة يوليو «عرباوي ـ ع الرملة ـ طاير يا هوا». ومن الأغنيات التي امتلأت بدفء التراث وبرشاقة المفردة الشعبية التي كتبها عبدالرحيم منصور ولحنها منير مراد يقدم لنا رشدي «كعب الغزال» ليصف لنا من خلال صوته الجميل أداء نموذج مختلف عن النماذج التي كانت في السابق «كالعيون ـ الشعر» بل دبت الروح في النموذج «لا والله عليك حتة ماشية ـ لو ساعتي شافتها ماهيش ماشية».

أغنيات كثيرة كانت بمثابة السلوي في وقت الحزن والونس حين يهجم الاغتراب والروح حين تجف الأشياء من حولنا هذا هو امتزاج الروح بالفكرة والقلب بالعقل حتي حين غني من ألحان وكلمات الجيل الجديد كانت الشخصية التي أجبرت فريق العمل أن يتجه في اتجاه روح رشدي لا روح رشدي هي التي تسير في اتجاهه وتكون نتيجة الصدق أن يكتسح ألبومه «دامت لمين» كل ما أنتج في هذا العام الذى صدر فيه في وقت أزمة مؤسسة الكاسيت يتربع رشدي بأدائه العذب ولا تنمحي الشخصية بل تزداد حضورا وقوة ولا يتبدد الصوت بعد هذا العمر بل مازال علي حلاوته غير المسبوقة، ودون مبالغة لا توجد هناك كتابة تستطيع أن تساوي حلاوة هذا الصوت ولا معاني يمكنها أن تصل إلي منابع صدقه وإذا أردت أن أنهي هذه الكتابة عن صوت رشدي فلا أجد سوي أن أصفه بذلك المستعمر الجميل الذي يعمر ويبني، هذا المحتل الذي نتمني أن يطول احتلاله لنا ولا يجلو عنا أبدا

عندما تحمل الاغانى لون ورائحة الوطن وتعكس افراح وأحزان المواطن يتلقاها الجمهور بكل اعجاب وتقدير ، وهكذا كانت اغنيات محمد رشدى ثرية فى شكلها ومضمونها . اختار رشدى اللون الشعبى من الغناء فصارت اغنياته مرآة لشعب طالما استلهم حيوته وقوته من ملاحم ابطاله الشعبيين امثال ادهم الشرقاوى

لم تكن ربات الغناء هى ملهمات رشدى ولكنها كانت الفتاة المصرية الريفية فغنى لها اعذب الكلمات بأعذب الالحان ، فصار كأبن البلد ، فارس احلام الحسناوات فى الاحياء الشعبية والريف المصرى .
من منا سوف ينسى أغنيات مثل: "عدوية"، "عالرملة"، "مجاريح"، "متى أشوفك"، "تعب الهوى قلبي"، "عرباوي"، "كعب الغزال" وغيرها عشرات الأغنيات التي كانت على كل شفة ولسان طوال عقود ماضية وما تزال.
سيبقى صوته في الذاكرة طويلاً، يعيش في الوجدان، ما حيينا وتتناقله الأجيال، إذ أن بعض أغنياته يغنيها شباب اليوم بتوزيعات جديدة ومصورة فيديو كليب، مما يعني أنها أغنيات لكل زمان ومكان رغم اعتراضه على الطريقة غير الأخلاقية التي تمت بها إعادة تقديم هذه الأغنيات وحتى من أن يصرح لهم بها أو يسألوه.

كان يؤمن بأن الفنان عليه أن لا يتنازل عن مبادئه مهما كان الثمن، وكان يحرص على تقديم الأغنية الأصيلة والمعبرة إذ يعتبر أن الفنان يتحمل جزءاً كبيراً من نجاح أو فشل الأغنية. ولكي يكون الفنان ناجحاً عليه أن يلتزم بالصدق والأمانه في العمل بعيداً عن التفكير بالمال.
في تصريح أخير له إلى مجلة الجزيرة الألكترونية عزا أسباب فشل أو ضعف الأغنية العربية اليوم إلى الاهتمام بالراقصات أكثر من المطرب. إضافة إلى عدم وجود مؤلفين مميزين ما أدى إلى عدم وجود رؤية واضحة عكس ما كان يحدث في الماضي حيث ان عناصر الأغنية من لحن وكلمات تكمل بعضها البعض في تقديم رؤية راقية واضحة تشغل بال الجميع ويحرصون على تقديمها.
كان محمد رشدي دائماً يعتقد أن التفرغ للعمل حتى وإن كان سيئاً أفضل بكثير من الإهتمام بنقد الأخرين ، وكانت أهم الأدلة على ذلك إقتناعه التام أن الفنان لابد أن يتفاعل مع الجمهور ولا يقف عند عصر معين ويتمنى الحياة فيه والرجوع إليه ، فقدم أغانيه القديمة بتوزيعات حديثة مواكبة للعصر الحالي ، ثم ألقى على الجميع مفاجأة "دامت لمين" الذي حقق نجاحاً تجاري وجماهيري ، كما سجل مؤخراً 10 أغاني في ألبومه الجديد "البيت القديم" الذي تعاون فيه مع كبار الملحنين والمؤلفين وأهمهم حلمي بكر وحسن أبو السعود ورفيق العمر عبدالرحمن الأبنودي وأحمد شتا ومصطفى كامل ، وبدأ في تصوير إحدى أغانيه من إخراج المنتج والمخرج نصر محروس بعنوان "قطار الحياة" إلا أن قطار حياته هو لم يمهله لإكماله.

ورشدي في شدوه كان حالة فريدة حافظت علي نفسها طيلة سنوات لم يكن أولها مثل آخرها.. سنوات جعلت المطرب الشعبي الكبير يعيش حتي يجد نفسه 'عود درة في غيط كمون' كما الوصف البليغ للوحدة الذي قاله الأبنودي فلا الفن الذي عاشه وعاش من أجله محمد رشدي هو الفن الذي نعيشه اليوم ولا الناس الذين استمتعوا بفن الرجل وشاركوه التجلي في الموال في ليالي أضواء المدينة حينما كانت لها أضواء فعلا.. هم الناس الموجودون الآن..


فهو مطرب شعبي من قمة رأسه الى اخمص قدميه استمد اغنياته كلمات ولحنا من اعماق الريف المصري ظهر محمد رشدي مع انطلاقة ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 فعبر في اغنياته عن مضامينها من دون مباشرة او شعارات تحدث عن الفلاح المصري باستخدام رموز الريف ( تحت الشجر يا وهيبة) ( الخيزرانة) ( ع الرملة) كانت معظم اغنيات محمد رشدي تعبر عن الطبقتين الفقيرة و الو سطى وهما الطبقتان اللتان اهتمت بهما ثورة يوليو
فالراحل وصل إلي علياء الفن الشعبي ¬ وألف خط تحت كلمة شعبي ¬ في زمن كان كل شيء فيه شعبيا بالمعني الإيجابي لا المعني السلبي الذي تكرس في السبعينيات وتولي مهمة الباس كل ما هو شعبي ثوب الرداءة.. فالمساكن الشعبية يجب أن تكون ضيقة وقبيحة.. والكساء الشعبي يجب أن يقدم أردأ الملبوسات.
غنى للبحر والفلاحة، للطير والشجر. صوته معبر عن براءة الريف وطيبة ابن البلد. عبر عن "عدوية و عدوية" هي بنت البلد، بل هي البلد
لذلك قليلون هم الذين يلونون حياتنا بلون الورد.. يسعدوننا للحظات ثم يمضون.. ينسحبون إلى دائرة الظل.. ثم يختفون بهدوء حتى لا يضيفوا بؤساً وكدراً على حياتنا المكدرة أصلاً. من هؤلاء الفنانالجميل محمد رشدي الذي سما بالأغنية الشعبية إلى مستوى هو مزيج من الحلم والعاطفة والصفاء والصدق الفني.


رحل "عرباوي" المسكين دون ضجيج المشاهير، ودون مراقبة الكاميرات للمتسللات المعجبات إلى المستشفى الذي لم يسمع عنه أحد رغم أنه قضى فيه عاماً قبل أن تصعد روحه إلى الرفيق الأعلى.

رحل صاحب "المراكب" و"عدوية" و"كعب الغزال" بنفس الهدوء الذي طبع حياته، ولسان حاله يقول: "لن أضيف المزيد إلى أحزانكم". ليس المصريون وحدهم الذين سيحزنون، لأن محمد رشدي أحيا شخصيتهم الأسطورية "أدهم الشرقاوي" ونقل فلكلورهم الشعبي من الحقل إلى الآفاق، بل نحن أيضاً الذين طالما حلق بنا محمد رشدي في فضاءات واسعة من الحلم والسمو
رحل الفنان الذي أطربنا لأكثر من أربعين عاماً بصوته العذب الرقيق والذي وحدنا من المحيط إلى الخليج؛ عبر عن غربتنا في دواخلنا وفي أوطاننا حينا وأعادنا إلى ذواتنا حيناً آخر.


رحيل محمد رشدي هو آخر ذكريات الزمن الجميل، وآخر ألفتنا بصدق الكلمة المخاطبة للوجدان والمشاعر. لكن ألفتنا بـ"عدوية" ومسمياتها الأخرى في ربوع العرب الواسعة لن تتوقف، وهي سندنا في محنتنا الراهنة وزاد خروجنا من عمق المأساة وعنابر الشقاء. "نجاة" و"عدوية" هما تباشير الأمل. نتوكأ عليهما لرؤية النور القادم من بعيد.

محمد رشدي صديق كل منا.. لطالما أنسنا إلى صوته في ليالينا الموحشة أو في جلوسنا على رمال شواطئنا الجميلة نتلمس في أغنياته العودة إلى صدق الطبيعة الخالصة ومن ثم الأمل. معه نعود إلى فطرتنا هرباً من زمننا المتوحش وطبيعته الخرسانية
لكن محمد رشدي الذي توغل في عمق المجتمع الشعبي المصري، ربما لم يعلم بأنه قد توغل في أعماق كل منا، يحرضنا على استعادة ذكريات الزمن الجميل، يحلق بنا بعيداً عن حياة البؤس والقرف اليومي. ربما كان ينفس عنا أحزاننا، ويبشرنا بالأيام التي لم نرها بعد
لقد كان فنانا كبيرا بمعنى عذوبة وجمال الصوت، الذى يشعر معه الناس بونس وهم يسمعون روائعه الغنائية شخصية من العيار الثقيل.. سياسى من الدرجة الأولى إن تطرق الكلام إلى قضايا السياسة.. ومتحدث بدرجة مفكر فى قضايا الفكر المجردة .. شغلته الشخصية المصرية عبر تاريخها، وقرأ عنها ما تيسر له.. أعاد نجاحه كفنان إلى سياق اجتماعى وتاريخي، ولهذا فإن الموهبة عنده أداة يكتمل نجاحها بوعى صاحبها لكيفية إدارتها بفهم هذا السياق. . ومن هذه النقطة تحديدا، بدأت انطلاقته الغنائية المؤثرة مع المناخ السياسى الذى أحدثته ثورة 23 يوليو 1952.. ليسمع الناس فى النجوع والكفور والمصانع من يغنى لهم.. لكنه لم ينكر أنه ظل لسنوات تائها، بلا لون أو طعم فني، فى الوقت الذى انطلق فيه عبدالحليم حافظ ابن جيله ورمزه الأولى فى الغناء.. العربى
لقد كان كان صوتاً متصلاً بالوجدان، يحمل شحنات عاطفية كبيرة تسمو بالروح، وتنقلنا من عالم الكآبة والضجر إلى فضاءات المرح والذكريات الأجمل في حياتنا
فلنرى رايه فى ما يسمى بالاغنية الشبابية لنعرف كم كان هذا الرجل معاصرا ومتوائما مع عصره يقول الراحل الكبير " دي الكذبة الكبيرة التي أطلقوا عليها أغنية شبابية.. عبدالوهاب وأم كلثوم غنوا للشباب.. ولا أعرف من السبب في إطلاق كلمة أغاني شبابية أو سينما الشباب إذا كان فنان متجمد وقاعد في بيته عايز يرجع العصر القديم ده غلطان ولكنني لم أجلس في البيت وقدمت الأغاني القديمة بتوزيعات جديدة.. وأم كلثوم غنت لبليغ حمدي وهو عنده 20 سنة وهذا ذكاء المطرب"

إن حبات العرق ليست في كافة الأحيان وسام جهاد.. فقد تكون أمراضا مرة وعلي الرغم من أنهم قد أجمعوا علي أنه فنان أعطي مشواره الفني كل الزاد فجاء صوته قويا وجميلا فيه سمات ابن البلد.. فهو لم يتجمد بوصفه من الجيل القديم ولكنه نظر إلي الحديث وبحث في مكمن أسراره فكان النجاح.. لدرجة أننا نذكره في كل أفراحنا لأنه ببساطة صاحب أغنية قولوا لمأذون البلد.. وعرباوي وعلي الرملة وكعب الغزال وقمر اسكندراني وعدوية..
ويأتي صوته وهو يقول:
ميتى أشوفك ياغايب عن عيني
جتالة الفرقة و الله
وغيابك علي عيني


ألف رحمة عليك يا من أوفيتنا وكنت وفيا، واعذرنا لعدم وفائنا.. ربما نفيق يوماً ونطلب منك السماح



 (خالص الشكر لكل من ساهم ولو بكلمة فى هذا الموضوع ونخص بالشكر كل من  الكاتب الكبير خيرى شلبى , أ. سعيد الشحات ,د. أيمن الجندى , أ. عصام عطيه , أ. خالد فؤاد , أ. طارق هاشم , أ. هويدا طه , أ. سحر طه)

هناك تعليق واحد:

  1. عراقي عاشق مصر27 سبتمبر 2011 في 8:53 ص

    رحم الله هذا الفنان الانسان الكبير الذي مثل الاغنيه المصريه العربيه احسن تمثيل... يحزنني هذا الاهمال الواضح لاحد اخر اعمدة الفن العربي الاصيل سواء من مصر او البلدان العربيه..
    تغمده الله برحمته الواسعه وأسكنه فسيح جناته.
    شكري الجزيل لهذا التكريم الذي تمثله هذه المدونه الواسعه كثر الله من امثالكم .

    ردحذف