السبت، مايو 07، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د / طارق حجى - الجزء العاشر " استخدام القوة (العنف) "



كثيرٌ من العواصفِ التي تضرب منطقتنا تدل على أن فكر الحركات التي تمارس السياسة تحت اسم (الإسلام السياسي) لا يزال فكرًا انقلابيًا (فكر تنظيمات "تحت" الأرض لا "فوق" الأرض) وليس فكر مؤسسات سياسية عصرية تفهم وتحترم القانون ... بل إنني أستكثر كلمة "فكر" على هذه الحركات، فعلامات عديدة حولنا تدل على أن "عضلات هذه الحركات" هى عضلات قوة منفلتة من عقال الدساتير والقوانين والعقل والحكمة.

في لبنان، حكومة منتخبة وبرلمان يمثل الشعب ... ومع ذلك فأكبر حركات المعارضة (وهى حركة يختلط فيها الدين بالسياسة)

لا تقبل الاحتكام لممثلي الأمة المنتخبين، وإنما تحتكم لحناجر مدوية بوسعها (للأسف) العودة بلبنان قرونًا للوراء ... ويشارك في هذه اللعبة التي تدوس فيها "عضلات القوة العمياء" على كل مبادئ الديموقراطية والدساتير والقوانين أحزاب تمثل عدة مصالح خارجية أهمها إيران المتعطشة لدور القوى العظمى في منطقة الشرق الأوسط بدوافع من بينها علاقة كراهية تاريخية طويلة وعميقة بين الفرس والعرب .

فحزب مسلح (دون غيره) يقلب المائدة (الشارع) على رؤوس الجميع ضاربًا عرض الحائط بأن هناك برلمانًا منتخب يجب أن يكون هو المرجع وليس جحافل المتظاهرين الذين يتم توجيههم من خارج الوطن ... وبالذات من قبل نظام ثيوقراطي يموّل خراب لبنان .

وفي مناطق الحكم الفلسطيني تأتي حركة ثيوقراطية من رحم القرون الوسطى لتضرب عرض الحائط بالتزامات الحكومات السابقة وتريد لحركة الأحداث أن تبدأ من يوم وصولها للحكم فقط .

وعندما يدعو أبومازن (بحكمة ... وإن كانت متأخرة بعض الشئ) للعودة للشعب مصدر السلطات، فإن حكومة الثيوقراطيين الذين لا يفهمون الديموقراطية (إلا بصفتها أداة للوصول للحكم) ترفض الاحتكام للشعب، فهى كحركة ثيوقراطية غير ناضجة ديموقراطيًا تفهم أن الديموقراطية كانت أداة لوصولها للحكم ... أما بقاؤها في الحكم لأبد الآبدين فهو أمر منطقي لأنهم في الحقيقة ثلة من البشر لا علاقة لها بالديموقراطية وإنما هى فرقة انقلابية تتداخل اللوثة الدينية (وليس الدين) في رأسها مع معطيات أخرى أهمها الثيوقراطية والعنف والعضلات التي لا يحكمها عقل وإنما غرائز سياسية ونعرات دينية وقومية وطائفية .



ثم تأتي ثالثة الأثافي، وهى الأحداث المؤسفة لصبية الإخوان المسلمين أمام الأزهر (منذ سنوات قليلة)

والتي أظهرت أن حركة الإسلام السياسي لا تزال بعيدة كل البعد عن النضج – فنحن أمام خلطة من اللوثة الدينية (وليس الدين) والفهم البسيط البدائي للديموقراطية وميل جارف للعنف (إن أمكن) أو لاستعمال العضلات التي لا يحكمها عقل ولا توجهها رؤية عصرية للعمل السياسي .

ورغم الحزن الدفين الذي سببته لكل محب لهذا الوطن ولكل راغب في تقدمه واستقراره وازدهاره، هذه الأحداث بالغة الخطر والضرر والنذير، فإن لكل مصيبة (أيًا كانت) وجهًا قد يكون أقل جهامة، وهو (في حالتنا هذه) أن يعلم الناسُ في كل ربوع مصرﹶ حجم الخطر الذي يمثله وصول صبية أصحاب عقول بسيطة ومحصول معرفي هزيل وعضلات منفلته من عقال كل عقل وحكمة لحكم دولة عريقة مثل مصرﹶ .



ويخيل لي أن ما حدث (وأعني أحداث الصبية عند الأزهر) قد أضر بالكثير من الجهات بما في ذلك أعضاء مجلس الشعب الذين ينتمون فكريًا (أو تنظيميًا) لحركة الإخوان المسلمين .

فكيف يقبل الشعب المصري بحركة سياسية يقول صبية تابعون لها (بشكل أو بآخر) بتصرفهم الشاذ عند الأزهر أنها حركة لها (أو قد يكون لها) ميلشيات منظمة ... وأنها (في زمن العلم والإدارة) حركة صبية تحركهم غرائز (لا أفكار) سياسية وعضلات (لا فكر) منفلت من عقال كل عقل وحكمة .

وفي اعتقادي، أن الحركات السياسية الإسلامية لم تمر بعد بمرحلة غربلة وفرز كما يجب أن يحدث، كما أنها لم تشهد داخلها تطورات فكرية يعتد بها . بل و أجزم، أن "العقل المسلم" قد عرف خلال المائة سنة التي تفصل ما بين تاريخ وفاة أول فقهاء السنة الأربعة الكبار "أبي حنيفة النعمان"

وما بين تاريخ وفاة رابع الفقهاء السنة الأربعة الكبار "أحمد بن حنبل" (مات الأول حول منتصف القرن الثاني الهجري ومات الثاني بعد أكثر قليلاً من قرن ) . أقول إن العقل المسلم عرف خلال السنوات التي تفصل بين أول ورابع الفقهاء السنة الكبار من المتّغيرات الجذرية أضعاف ما حصل للعقل المسلم بوجه عام وللعقل الفقهي المسلم والعقل السياسي المسلم خلال القرون العشرة التي مرت منذ وفاة أحمد بن حنبل (في القرن الثالث الهجري) وحتى هذه اللحظة . هذا الجمود (بالغ الضرر) الذي نتج عن ظاهرتين مدمرتين هما ما عرف بقفل باب الاجتهاد وإدارة الأغلبية المسلمة لظهرها لأبي الوليد بن رشد

الذي كان بوسع المسلمين (إن سمحوا لأنفسهم بالاستفادة من دور ابن رشد العقلي الفذ) ألاّ يكونوا (كما هم الآن) في هذه الدرجة المنخفضة على سلم الترقي والتقدم والنهضة .

وفي اعتقادي أن هناك عشرات المعضلات التي تقف ما بين تيارات الإسلام السياسي والنضج السياسي . إلاّ أن أكبر حجر عثرة يحول بين هذه التيارات (ومن بينها تيار الإخوان المسلمين) وبين النضج السياسي العصري هو تمسكهم بفكرة الحاكمية كما صاغها مفكرون إسلاميون مثل أبي الاعلى المودودي

وسيد قطب . فالفكرة (حتى لو بدت للبعض ذات بريق وزينة) هى "محض خرافة" . فمؤدي الفكرة أن البشر لا يحكمون البشر وإنما الحاكم هو الله . وهذا لعب خطير باللغة ينتهي – نظرًا لعدم وجود احتكام مباشر للذات الإلهية بالمعنى الحرفي لكلمة "احتكام مباشر" – لوجود طبقة رجال دين تحكم باسم الله ووفقًا لفهمها هى لمقاصد الله (!!) . وفي ظني أن أبا الاعلى المودودي وسيد قطب إنتهيا لهذه "الصيغة الأدبية" التي لا تقبل التطبيق عمليًا بسبب صدمة الأول أمام ثقافة هندية عارمة

وصدمة الثاني أمام حضارة أمريكية أزعجته أيما إزعاج عندما سافر لقضاء أقل من عامين بالولايات المتحدة الأمريكية منذ أقل قليلاً من ستين سنة .

وبدلاً من "التعامل مع العصر" اختار كلاهما "الهروب من العصر" .

والخلاصةُ أن أول عقبة أمام تيارات الإسلام السياسي (التي تريد أن تعيش في هذا العصر وأن تكون في سلام مع الإنسانية) تجاوزها لفكرة الحاكمية كما يؤمن بها جل أتباع تيارات الإسلام السياسي المعاصرة . ويتبع إسقاط هذه الفكرة غير القابلة للتطبيق بدون عودة للوراء لأكثر من ألف سنة وبدون عداء سافر مع الإنسانية والحضارات والثقافات الأخرى، حتمية عمل بعض قادة تيارات الإسلام السياسي على إنضاج درجة أعلى وأرقى من الإيمان بالديموقراطية .

فالديموقراطية ليست هى (الشورى) . وإن لم يكن هناك تناقض بينهما : فالشورى جزءٌ من كلٍ،

هو الديموقراطية . والذي يقول إن في ذلك تطاولاً على الإسلام، فإن ردي عليه أن الإسلام تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية) كما تكلم عن الدواب (ولم يتكلم عن السيارات والطائرات) ... ولا يعيب هذا الإسلام في شئ ... فليس من هدف الدعوة الإسلامية التبشير بمنجزات العصور التي لم تأت بعد كالديموقراطية والطائرات وحقوق الإنسان واستعمالات الليزر ومستحدثات الطب الحديث ونظم الإدارة المدنية وتكنولوجيا المعلومات .

على بعض قيادات تيارات الإسلام السياسي أن تعمل على تنشئة جيل جديد يؤمن بأن الأمة هى مصدر السلطات وأن الدستور هو قانون القوانين وأن الزمن لا يسمح بأن تقاد المجتمعات بواسطة رجال الدين (لا سيما في ظل دين لا يعرف طبقة رجال الدين) وإنما بأحدث محصولات العلم والإدارة والفكر وتكنولوجيا المعلومات .



ودون انشقاق بعض قيادات تيارات الإسلام السياسي عن صفوف الجمود الذي لازم العقل المسلم لأكثر من ألف سنة وتحديهم لمفاهيم مثل الحاكمية والتراث الطويل من النظرة الدونية للمرأة

والموقف القبلي من الآخرين الذي يصل عند الحنابلة وعند ابن تيمية بالذات لاعتبار المسيحيين واليهود كفارًا (وهو عبث وتخلف ووضع للمسلمين في حالة مواجهة مع الإنسانية لا يمكن إلا أن يخسروها)

وتنشئتهم لأجيال تؤمن أن الأمة هى مصدر السلطات وأن المجتمعات تدار بالعلم والإدارة – بدون ذلك فإننا لا يجب أن نتعجب من وجود صبية يحاولون أن يُكوِّنوا ميليشيا تحكمنا بالعاطفة الجياشة والحناجر الصارخة وعضلات منفلتة من عقال كل عقل وحكمة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق