الأربعاء، مايو 11، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد هيبه - شارع النبى دانيال



- يعتمد وسط مدينة الإسكندرية على ثلاثة أنوية رئيسية تتمثل في ميادينها الكبرى الثلاث ، لتشكل فيما بينها مثلثاً يحوي منطقة وسط المدينة ، وتعتبر هذه الميادين الثلاث أشهر ميادين الإسكندرية وأكبرها على الإطلاق ، وتشمل "ميدان المنشية "

و"ميدان محطة مصر"

و"ميدان محطة الرمل" .


- وترتبط تلك الأنوية أو تلك الميادين بعدة محاور مرورية تعتبر من أهم محاور وشوارع الإسكندرية سواء قديماً أو حديثاً ، ومن أهم تلك المحاور شارع "النبي دانيال" الذي يمتد ليربط ما بين ميدان "محطة مصر" جنوباً وبين ميدان "محطة الرمل" شمالاً ، وهو من أهم شوارع الإسكندرية التجارية حيث يحوي على جانبيه العديد من المنشآت الهامة نذكر منها على سبيل المثال مقر المركز الثقافي الفرنسي بالثغر

، ومبنى مؤسسة ومكتبة جريدة الأهرام العريق

، وكذلك مقار توزيع داري أخبار اليوم والهلال ومقر حزب الوفد الجديد بالمدينة، كما يشتمل على العديد من مقار الجمعيات والأندية كمقر " النادي النوبي العام" بالإسكندرية ، وكذلك يحوي العديد من الأماكن الدينية ككنيس (معبد) " الياهو النبي" للطائفة الإسرائيلية حيث كان يعتبر الكنيس اليهودي الرئيسي بالثغر قبل هجرة اليهود من مصر في أعقاب العدوان الثلاثي عام 1956م،

وكذلك العديد من المساجد كمساجد العارف بالله "سيدي عبد الرزاق الوفائي" ومسجد "النبي دانيال" والذي حمل الشارع اسمه ، وبه توجد مقابر الأسرة العلوية بالإسكندرية ، حيث دفن والي مصر "محمد سعيد باشا" عقب وفاته بالإسكندرية عام 1863م

وغيره من الأمراء كالأمير "طوسون" وغيرهما من أبناء تلك الأسرة ، كذلك دفن به من المشاهير محافظ الإسكندرية الشهير "محرم بك".


- يعد شارع "النبي دانيال" واحداً من أقدم شوارع المدينة ، حيث يعود تاريخه إلى نشأة المدينة ذاتها وتأسيسها عام 332 ق.م حينما فتح الإسكندر الأكبر

مصر وأسس مدينة الإسكندرية ، فعهد بذلك إلى المهندس والمخطط "دينوقراطيس"

، حيث قام بتخطيطها على النظام الشطرنجي الشائع في تخطيط المدن الإغريقية ، ويعتمد ذلك النوع من التخطيط على وجود مجموعة من الشوارع المتعامدة مع وجود شارعين رئيسيين متعامدين ، الأول ممتد من الشرق إلى الغرب وكان يسمى شارع أو طريق "كانوب" ( طريق الحرية حالياً وهو الموصل إلى جهة كانوب أو أبو قير الحالية ، لذلك مازال العامة يطلقون عليه شارع أبو قير أي الموصل لأبو قير)، والثاني سمى بشارع "السوما" ويمتد من الشمال إلى الجنوب (شارع النبي دانيال حالياً) ولفظة "السوما" تعني "الجبانة الملكية" ، وتقع كما يذكر "محمود باشا الفلكي"

في دراسته القيمة عن مدينة الإسكندرية عند تقاطع طريق "الحرية" (شارع فؤاد سابقاً) مع شارع "النبي دانيال" حالياً .


- وشارع "السوما" ينسب حالياً إلى "النبي دانيال" ، أحد أنبياء اليهود وهي ملاحظة وجدها البعض من المؤرخين جديرة بالدراسة حيث سمي العديد من المساجد في مصر بأسماء تنتسب إلى أنبياء ورسل سبقوا المسيحية والإسلام، ومع الدراسة أعاد المؤرخون هذا الأمر إلى سببين ، السبب الأول أن هذه المساجد ربما كانت معابد قديمة حولت في عهد الإسلام إلى مساجد (كجامع العطارين أو جامع سان أثناز الذي بنى مكان كنيسة سان اثناسيوس، ومسجد الألف عمود أو السبعين الذي قال أنه بنى مكان معبد يهودي كان ينزل به السبعين حبرا الذين ترجموا التوراة) ، أو ربما تكون قد تم بنائها في ذات مواضعها ، أما السبب الثاني فهو يرجع إلى وجود جاليات يهودية كبيرة في الإسكندرية خلال العصر الروماني ، حيث سكنت في مناطق معروفة أطلقت عليها أسماء أنبيائها ، وظلت هذه الأسماء متداولة في القصص والموروث الشعبي حتى جاء العرب والمسلمين في أعقاب الفتح الإسلامي لمصر وقاموا ببناء المساجد حيث عرفت بالأسماء الشائعة والمعروفة في تلك المناطق والتي أبقى عليها المسلمون .
- يظن بعض العامة أن بالمسجد المسمى بالنبي دانيال بذات الشارع قبر ذلك النبي اليهودي

، وهو أمر خاطيء حيث يذكر "ياقوت الحموي" في مصنفه "معجم البلدان" بأن قبر ذلك النبي "النبي دانيال" يقع بمدينة "السوس" وهي بلدة تقع بإقليم "خوزستان" بإيران

، ويذكر البعض أن المسجد ينتسب إلى الشيخ "محمد دانيال الموصلي" وهو من الأطباء الشعراء وهو ما تؤكده الدكتورة "سعاد ماهر" في مصنفها "مساجد مصر وأوليائها الصالحون"،

بينما يورد "المقريزي" في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك " ترجمة للشيخ " محمد دانيال الموصلي" فيذكر أنه ولد في الموصل بالعراق ، وجاء إلى مصر صغيراً لينشيء ويتوفى في القاهرة عام 710هـ (1310م)، وهو الأمر الذي ينفي أنتساب المسجد إلى ذلك الشيخ الجليل ، لذلك فمع هذا الأختلاف الواضح في سبب التسمية فيكون من المرجح ما ذكره البعض من المؤرخون من كون ذلك المسجد كان أحد معابد اليهود قبل أن يتحول إلى مسجد حيث أطلق عليه لقب أحد أنبيائهم وهو "النبي دانيال"،

ومع مجيء العرب بعد الفتح الإسلامي تم تحويله إلى مسجد مع إبقاء ذات المسمى وبخاصة وأن جميع الأنبياء والرسل ممن أرسلهم "الله" عز وجل سواء إلى اليهود أو إلى النصارى وغيرهم يؤمن بهم المسلمون جميعهم حيث لا يتم إسلامهم ويكمل إلا بالإيمان بهؤلاء الأنبياء والرسل جميعهم وبما جاءوا به لذلك ظل الاسم كما هو وللآن "النبي دانيال" باعتباره نبي الله وليس نبياً خاصاً لليهود .


- وقد لازمت مسجد "النبي دانيال" العديد من القصص والأساطير حول دفن "الإسكندر الأكبر" به وبخاصة بعد أن أجرى العالم "محمود باشا الفلكي" دراساته القيمة حول الإسكندرية ، حيث أوضح أن اسم الشارع القديم هو شارع "السوما" ، وتعمة كلمة "السوما" كما سبق ذكره "الجبانة الملكية"، وحدد "الفلكي" مكانها عند تقاطع شارعي "الحرية" و"النبي دانيال" حالياً

، الأمر الذي دعم الأساطير والروايات لدى الكثيرين بذلك ، إلا أن الحفائر التي أجراها "الفلكي" خلال فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تسفر عن اكتشاف ذلك القبر ، الأمر الذي اكده العالم الأثري "حسن عبد الوهاب"

في حفائره داخل المقبرة الموجودة في المسجد ، ليجد أنها عبارة عن مقبرة إسلامية ترجع إلى حوالي ألف عام فقط ، بينما الثابت تاريخياً ودينياً أن نبي الله "دانيال" قد توفي قبل إنشاء الإسكندرية بحوالي ثلاثة قرون كاملة (أي منذ حوالي ألفين وستمائة عام) ، حيث عثر على بعض الشواهد الأثرية التي تدل على أن تلك المقبرة تعود فقط إلى القرن الرابع الهجري ، ليتأكد بذلك أن سبب التسمية يرجع لليهود المقيمين في المدينة في ذات المنطقة قبل الفتح الإسلامي لمصر والإسكندرية .


- ولقد لفت هذا المسجد نظر الحكام والولاة من الأسرة العلوية منذ تولية سدة الحكم ، فتم تجديد المسجد خمس مرات أهمها في القرن التاسع عشر حينما جدده ووسعه ولي مصر ومؤسس الأسرة العلوية "محمد علي باشا"

عام 1238هـ (1823م) في إطار رعايته وعنايته بالإسكندرية وعمرانها خلال تلك الفترة ،

وبعدها جدده مرة أخرى والي مصر "عباس باشا" عام 1267هـ (1852م) وبتكلفة بلغت 19 ألف قرش حيث جدده من الداخل والخارج كما جدد منارته ،

كما أنشأ بالمسجد مدفن خاص بالعائلة العلوية ، ليستمر التطوير يشمله طيلة القرن التاسع عشر وخلال مختلف العصور والعهود،

حتى كان آخر تطوير له في نهاية القرن العشرين ليصبح على وضعه الحالي بنهاية الشارع الذي يحمل ذات المسمى "النبي دانيال" .


- وهكذا ارتبطت الأساطير والحكايات بمسجد "النبي دانيال" وشارعه الشهير ، تارة تحكي أن "الإسكندر الأكبر" مدفون فيه ، وتارة أخرى تزعم أن نبي الله "دانيال" هو الذي دفن به ،

وذلك على العكس تماماً مما أقره المنطق والتاريخ الذي كان على موعد ليسطر لنفسه في ذلك الشارع التاريخي صفحة من تاريخ الإسكندرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق