السبت، مايو 14، 2011

صفحات من كتاب كتاب سجون العقل العربى للمفكر الكبير د / طارق حجى - الحضّانة


"سوسيولوجيا قبائل الجزيرة العربية" هي كلمةُ السرِ بالنسبةِ للشخصيةِ والذهنيةِ العربيةِ . وحتى نتمثل الملامح التاريخية لهذه الشخصية ولتلك الذهنية فإن علينا محاولة تخيل شكل ووضع الحياة في القسم الشرقي/ الداخلي من الجزيرة العربية خلال القرون العشرين الماضية .
ولكن لماذا شرق (وليس غرب) الجزيرة العربية؟ ... سأتطرق لذلك بعد كلمة بانورامية عن المعالم التاريخية للشخصية والذهنية المتعلقة بأبناء قبائل شرق الجزيرة العربية وبالتحديد "قبائل الداخل" وليس قبائل الساحل.

بعد محاضرةٍ لي كان جمهورُها أساتذة قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون العريقة قال لي أحد الأساتذة: "من الأمور المستقرة لدينا في الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة أن كراهية العرب للغرب إنما هي نتيجة لدخول الغرب في حياة شعوب المنطقة والذي بدأ باستعمار الجزائر (1830) ومصر (1882) والمغرب (1912)… إلى آخر تلك التواريخ المعروفة… أما أنت فواضح أن رؤيتك في هذا الشأن مختلفةٌ تمامًا". قلتُ: "إن ما ذكرته يخلط أشياءً كثيرة ببعضها ويضعها في سلةٍ واحدةٍ؛ وأنا أعتقد أن ذلك خطأٌ. فكراهية شعوب المنطقة للاستعمار ظاهرة (صحية) قائمة بذاتها.
ولكن الحقيقة أن عددًا من شعوبِ المنطقةِ لم تكن كراهيتها للاستعمار سببًا لكراهيتها للتقدم الغربي. بل أكاد أُجزم أن المجتمعات ذات الخلفية الحضارية الثرية (مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق)
كانت الأمور فيها واضحة جدًا: كراهية للاستعمار… وإعجاب بالتقدم.. وفهم صائب، لأن "التقدم" لا يعني "التغريب". وهذا موقف يدل على "ضمير شعبي بالغ الرقي"… والبديل هو أن "يقعوا في حب الاستعمار والتقدم" وهو ظاهرة مهينة ولا تدل إلا على "موت أشياء كثيرة". ولكن علينا ألاَّ ننظر إلى كل مجتمعات المنطقة وكأنها كياناتٌ متماثلة. فما قلته الآن ينطبق على مجتمعات المنطقة ذات التاريخ المضفر بالحضارة وهو ما يضم إلى جوار ما ذكرت مجتمعات أخرى في المغرب العربي
… كما يضم (بدرجة أقل) مجتمعات الجزيرة العربية الساحلية، إذ أن الجغرافيا/السياسية جعلتها أكثر قبولاً "للعالم الخارجي" من مجتمعات الجزيرة العربية القابعة (بشكل بدوي) داخل الجزيرة العربية في ظل ظروف جغرافية/سياسية من العسير أن تسمح إلا بذهنية محلية متشددة وقبلية ورافضة للآخر (أيًا كان هذا الآخر). وتاريخ عداء هذه المجتمعات الصحراوية للآخر المختلف في ذهنيته ودينه معروف. وليس ذلك بسبب المذهب الحنبلي (بصيغته التي جاءت عبر ابن تيميه) وإنما العكس هو الصحيح:
فهذا المذهب وتلك الصيغة لم تجد من يقبلهما في دنيا المسلمين الشاسعة إلا في هذه المنطقة. ولقرابة ألف سنة لم يكن لأفكار وفتاوى ابن تيميه (العامرة بالتشدد وكراهيته لغير المسلمين) أي ذيوع في مصر وسوريا الكبرى
والمغرب العربي. وكيف يقبل أبناء الحضارات القديمة فكرًا بهذه العزلة عن الإنسانية؟!

كانت القبائلُ العربية التي عاشت خلال القرون العشرين الماضية في شرق الجزيرة العربية (وأكررُ قبائل الداخل وليس قبائل الساحل) تعيش عيشة رعوية أي غير حضارية وكان انتقالُها يتعلق أساسًا بالماء والكلأ .
وهو ما شكل خلفية عدة أمور : أن فكرة العربي المنتمي لقبائل الداخل في الجزء الشرقي للجزيرة العربية عن الولاء والموضوعية والحياد هي فكرة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن سوسيولجيا القبيلة البدوية العربية التي كانت تنتقل بحثًا عن الماء والكلأ في داخل القسم الشرقي من الجزيرة العربية . الولاء هو لشيخ القبيلة وبالتالي فإن الموضوعية مستبعدة والحياد صنو الخيانة !! .
وكما قال الناقد المصري الكبير جلال العشري
في كتابٍ أفرده كليةً لإبداع العرب, فإن الشكل الوحيد للإبداع الذي تألق فيه العربُ هو الشعر. فهم لم ينتجوا إلا الشعر وذلك لأسباب ليس هذا موضع تناولها وإنما الواقع أن العرب لم ينتجوا مسرحًا أو قصصًا أو روايات أو ملاحم أو موسيقى أو أي شكل من أشكال الإبداع التي عرفها اليونانيون
ومن قبلهم المصريون
والسوماريون

وأظن إنني لا أبتعد عن الحقيقة إذا قلت إن الشعرَ العربي الذي أنتجه شعراءٌ من مناطق الداخل في القسم الشرقي من الجزيرة العربية هو مرآةٌ تعكس المجموعة القيمية لإنسان قبائل تلك المنطقة ومبادئه وانشغالاته ومعالم تفكيره وسلوكه . وكل ما يعكسه الشعرُ العربي لشعراء الداخل من المنطقة الشرقية للجزيرة العربية لم يتغير على مر الزمان
فقصيدةٌ بالفصحى منذ أكثر من عشرة قرون لشاعر من نجد تعكس كل المجموعة القيمية والنظرة للحياة وللآخر التي بقصيدة بالعامية (أي بما يسمى بالشعر النبطي) لشاعر من نجد يعيش الآن في هذا الزمان .
فمعظم قصائد القديم والحديث من شعر هذه المنطقة يدق الطبول لنغمة الفخر والخيلاء ورفع الرأس فوق باقي الرؤوس والأنفة (ومنها أسماء "نايف ونوف ونواف") ناهيك عن أنهم يهزِمون ولا يُهزَمُون ولا ينحنون ولا يُسْأَلُون وأنهم على الجميع يتفوقون (!!!) . تلك هي خلاصة الرسالة التي تحاول آلاف القصائد التي قالها شعراءٌ من نجد أو من الإحساء أو من القصيم أو من الهفوف أن يعبروا عنها منذ أن أصبحت اللغةُ العربية على ما هي عليه الآن (نسبيًا) وحتى هذه اللحظة . وهذه النظرة للحياة التي يعكسها شعر هذه المنطقة هو ترجمة نهائية لسوسيولوجيا قبائل هذه المنطقة .

وهذه الذهنية (ذهنية القبلية العربية في المناطق الداخلية في شرق الجزيرة العربية) هى الذهنية التي جلست على مقعد القيادة في الحياة العقلية أو الذهنية في المجتمعات العربية والإسلامية بعد إخفاقات المرحلة الليبرالية
وحقبة الإشتراكية المندمجة بالقومية العربية

إلا أن تأثر المجتمعات الإسلامية والعربية بتلك الذهنية القبلية العربية الصحراوية التي نبتت بين كثبان الرمال في المناطق الشرقية الداخلية بشرق الجزيرة العربية إنما تتفاوت وتختلف من مجتمع لآخر بحسب خلفياته التاريخية والحضارية والثقافية وبسبب ظروفه السياسية والسوسيواقتصادية
فبينما كان التركيز شديدًا في داخل الجزيرة العربية فإنه كان أقل نسبيًا في مدن سواحل الجزيرة العربية
كما كان التأثير أضعف نسبيًا بمجتمعات ذات نصيب أوفر من الجزيرة العربية من التاريخ والحضارة والثقافة مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق والهند . ولكن تبقى هذه الذهنية العربية البدوية الصحراوية الداخلية والتي يعبر عنها الشعرُ الذي أنتجته هذه المناطقُ هو أهم مفاتيح أو أدوات فهم الكثير من أشكال وطرق التفكير والأحكام الذائعة اليوم في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية.

إن ذهنية القبيلة البدوية العربية الصحراوية الداخلية تحمل مفاهيمًا تتناقض بالكلية مع مفاهيم الدولة العصرية . فالولاء لشيخ القبيلة شخصانيًا بطبيعته بينما الولاء للدولة العصرية موضوعي أو أقرب للموضوعية .
وفي القبيلة يكون الالتزام برغبات وأقوال وتعليمات شيخ القبيلة هو البديل (الشخصاني مرة أخرى) لالتزام المواطن العصري بالقواعد الدستورية والقانونية الرسمية في دولته

وحسب سوسيولوجيا ذهنية القبيلة (بمواصفات القبيلة المذكورة أكثر من مرة في هذا الفصل) فإن "الآخر" يكون إما عدوًا أو على الاقل "عدو يلزم الحياد" , أما في نظم الدولة المعاصرة فإن الآخر هو وجه طبيعي من أوجه تعددية الحياة ولا يوجد ربط ما بين "الآخر" وأي شكل من أشكال الرفض أو العداء . وفي بيئة قبلية من هذا النوع فإن الحديث عن أمور أو قيم مثل التعددية
وقبول الآخر وممارسة النقد الذاتي وقبول النقد والإيمان الراسخ بعالمية وإنسانية المعرفة يكون أمرًا مستحيـلاً – وهى كلها من ثمار الدولة العصرية المتحضرة والمتقدمة . بل إن مفهوم "الإنسانية" يكون منتفيًا في المجتمع القبلي .

وإذا إستعرنا من مفكر عظيم مثل ابن خلدون
نظريته في التفرقة بين الحضر والبدو، فإنه يكون من الممكن أن نقول إن الذهنية الإسلامية المعاصرة (وليس الإسلام) هى الإسلام كما فهمته وقدمته وروجت له خلال النصف قرن الأخير الذهنية العربية القبلية البدوية الصحراوية الداخلية . وإذا كانت جل المراكز والمدارس الإسلامية التي أنشئت في أمريكا الشمالية
وأوروبا وأستراليا وآسيا غير الإسلامية وأيضًا في أفريقيا غير الإسلامية قد أنشئت بمبادرة وتمويل من جهات لا تمثل إلا هذه الذهنية (العربية القبلية البدوية الصحراوية الداخلية) فإنه لا يكون من العسير معرفة لماذا يبدو للعالم اليوم أن هناك صدامًا كبيرًا بين البشرية والإسلام – والحقيقة أن الصدام هو بين البشرية وبين الإسلام الذي قدمته ومولته وروجت له هذه الذهنية والتي يمكن تسميتها بالذهنية النجدية .


و يرجع تركيزي على المناطق الداخلية بشرق الجزيرة العربية لكونها هى التي أثمرت الذهنية الوهابية. إن فكر المذهب الوهابي هو من مكونات البناء العلوي أو الفوقي (الأفكار) التي أنتجها بناء تحتي معين (هو الحقائق الجيوسياسية والاقتصادية لصحراء نجد)… وهؤلاء لا يعرفون أنه لا يوجد مكان آخر على وجه الأرض يحتمل أفكارًا كهذه، لأن معادلة ماركس التي أخذها عن فويرباخ
وهيجل
لا تزال صائبة:
وهي أن هناك علاقة مؤكدة بين (الأفكار) والبناء التحتي للمجتمع (اقتصاد+جغرافيا).

إن تأسيس حزب سياسي على أساس ديني في مصر هو بمثابة إضرام النار في خزان وقود. فتأسيس حزب سياسي على أساسٍ ديني إسلامي
أو تأسيس حزب سياسي على أساس ديني قبطي كلاهما بمثابة فتح بوابات الجحيم واستدعاء مُلِح لعدم الاستقرار السياسي وإنعدام التنمية الاقتصادية وخروجنا من العصر تعليميًا وثقافيًا. ناهيك عن حقيقة أنه لا يوجد (واقعيًا) شيء اسمه حزب ديني وإنما حزب لرجال الدين

ومع ذلك فإن كاتب هذه السطور يعتبر كل الممارسات غير القانونية التي وقعت في حق المتأسلمين هي جرمٌ كبير في حق الإنسانية.

فمشكلتنا مع المتأسلمين لا تحل إلا بالحوار. بمعنى أن الدخول في حوار ممتد مع المتأسلمين هو الطريقة الوحيدة لتحويلهم (على المدى الطويل) لحزب سياسي مدني يقبل ركائز الديموقراطية وهي قبول الآخر وانتقال السلطة منهم وإليهم والاحترام العصري الكامل للديانات الأخرى وللمرأة والتخلي عما يظنونه من الإسلام وهو في الحقيقة من آثار البداوة والعصور الوسطى وجيوبوليتيكا ذهنية البدو الرحل في الصحراء.
ومن حق المجتمع المدني أن يحمي نفسه من أي فريق قبل اكتمال نضجه حسب معايير العصر.
فكما أن إصلاح مصر أجدى ألف مرة من سقوطها في أيدي عدد من البدائل، فإن إصلاح السعودية أجدى ألف مرة من بدائل سَتُخَرِب المنطقة بأسرها، وأعني استمرار الاستقرار في المملكة وكل جيرانها . ولكن هذا الاستقرار في اعتقادي مستحيلٌ بدون عملية تاريخية تُشبه ما قام به الملك عبد العزيز آل سعود مع غُلاةٍ مُماثلين خلال السنوات ما بين 1925 و 1930 .

فيا عُقلاء السعودية أستختارون نهج الملك عبد العزيز في مواجهة إخوان نجد منذُ ثمانية عقود أم سَتُفَضِلون الاستمرار في مُعاشرة "فيصل الدويش" المُتجدد حتى يُثقَب قعر السفينة فتغرق بمن فيها ؟

هناك تعليق واحد:

  1. ماهي علاقة الاسلام بالواقع البدوي ومجتمع القبيله ان المشكل المعاصر هو بسبب الصدام اللبرالي مع المجتمع و الانبهار بالغالب جسب راي ابن خلدون . فالمتغرب مغرم بالغرب و النظريه الراسماليه و الديموقراطيه الغربيه ويراى فيها المخرج و النجاه فمن عهد محمد على باشا وحتى اليوم الصدام المجتمعي مع المتغربين مستمر ولن ينتهي حتى يعلم الجميع ان النجاه فقط في العدل و العدل فقط طالما الظلم له دوله وسلطان في العالم الاسلامي فسوف يستمر صراع العميان .

    ردحذف