الثلاثاء، مايو 24، 2011

أدهم الغناء العربى .. إبحار في مملكة زعيم الأغنية الشعبية .. محمد رشدى



المشهد الأول
كان لايزال جنينا في بطن أمه والأشهر التسعة قاربت علي الانتهاء ويكتمل معها الجنين، جنين لا تعرف معه أم صبرية أي شيء ياتري ولد أم بنت؟! كانت تتمتم ببعض الكلمات البطيئة بين الحين والآخر قائلة:يارب ييجي ولد وكان والده يدعو الله أن يرزقه بولد أيضا، أمه تتمني ولدا لأن له أختين، أما والده فكانت تسعده كلمة ولد فهو في حاجة إليه حتي يكبر ويشب ويساعده في عمله، وتمر الأيام والألم يزداد في بطن أم صبرية وبطنها يتكور ويتحجر، وفي يوم20 يوليو عام1928 تأتي أم عبد المعطي الداية إلي منزل أم صبرية ومع أول ضوء للنهار يعلو صراخ المولود فيرفع الأب وجهه إلي السماء مرة أخري شاكرا هذه المرة لإجابة طلبه فقد رزقه الله بطفل ولد يقف في ظهره ويسنده في سن الشيخوخة، وعندما أرسلت الشمس أشعتها كاملة وخرج الفلاحون إلي حقولهم وبدأت الحركة والنشاط تدبان مرة ثانية في حواري المدينة، وتوافد الأقارب والأصحاب علي منزل أبو صبرية ليهنئوه بالمولود الجديد الذي أطلق عليه اسم رشدي. فمحمد رشدي هو إسم الشهرة والحقيقي هو رشدى محمد عبد الرحمن الراجحى ونصحه سعد عبد الوهاب بتغييره
ولد لعائلة متوسطة الحال، وارتكزت تنشئته على ثقافة دينية، حيث كان يسكن بجوار مسجد العارف بالله ابراهيم الدسوقي، وهو بهذا ينتمي الى المدرسة التي ترعرع فيها أساطين الغناء في مصر الذين تميزت نشأتهم بحفظ القرآن الكريم، أمثال سلامة حجازي وسيد دوريش وزكريا احمد ..
ارتبط بأمه كثيرا وورث عنها جمال الصوت فيقول : " كانت تأخذنى فى حجرها، وتضمنى على صدرها. تعدد بمواويل حزن عن الزمن.. وضيق الحال.. وتعاسة الظروف.. سمعتها تغنى لسعد زغلول:ياما خدوك على مالطة/ وكل ده و مفيش غلطة/ يا سعد يا نور العين.. اعتبرتنى أمى منذ صغرى رجلها وسندها فى الدهر"، عشق الأب الغناء وأجاد إلقاء المواويل يصطحبنى من يدى ويسير علي مدقات وطرق للقرى المجاورة إلى كل مولد أو سهرة شعبية.. كان وجها معروفا لدى صيتّية الموالد..
أثر مولد الدسوقى فى رشدى كثيرا:" كنت انتظره بفارغ الصبر، لأستمع فيه إلى الألوان الغنائية المختلفة.. كاسترسال المنشدين لقصص الأنبياء والمرسلين، والارتجال فى الموال، ونسج الحكاوى والأساطير عن أبطال شعبين عاشوا فى الواقع، وكذلك فن المناظرة بالموال، يتم بين اثنين، يهاجم كل منهما الآخر، ويكسب من يملك سرعة البديهة والنظم فى الموال.. وتفرد فى هذا اللون الشعبى أسماء هامة كانت رائدة لهذا اللون من الفن الشعبى مثل، محمد الأقرع، ومصطفى عابدين، المسيري، حمامة العطار، وعايدة، وقمبر".

شاهد رشدى فى مولد الدسوقى ألعاب السيرك ومسابقات الرماية، وسباق الخيل، وحياة المجاذيب، واستمع إلى حكايات أولياء الله.. ويعترف: لم أكن أعى معانى إنصاتي، واهتمامى بكل هذه الأجواء. ولما سئل: عما إذا كان هذا قد ترك مخزونا لديه؟.. أجاب: تنبهت فيما بعد حين بدأت رحلتى مع الأغنية الشعبية أن بداخلى مخزونا هاما من الكلمات والتعبيرات النفسية، وطقوس الحياة مع عمال قمينة الطوب التى كان يمتلكها أبى وأعمل فيها وأنا طفل.. ومراكب الصيد التى كانت تنقلنى إلى بيت جدى فى رشيد.. كنت أسمع أغانى الصيادين وما تحمله من معان عن فراق الأهل والأحبة، والبحر الغدار اللى ملوش أمان.. كبر رشدى.. بكى حين استمع لأول مرة فى الراديو لليلى مراد: للتاريخ أسجل أن نغمات صوتى ظهرت عبر أغانى هذه السيدة العظيمة.. بكيت على صوتها فى الراديو.. وحفظت أغانيها عن ظهر قلب.. وعرفتنى دسوق مقلدا لها..
المشهد الثاني
في بلدة رشيد التي تبعد عن دسوق حوالي 50 كيلو مترا عاش محمد رشدي طفولته كأي طفل ولد في مدينة صغيرة كانت الوسعاية هي مكان تجمعه مع إخوته وأصدقائه يلعبون فيها الاستغماية والحجلة ونطة الإنجليز،
كانت ملامح الشقاوة تتنطط من عين محمد رشدي ثم رحل الاب من رشيد إلي دسوق، وفي دسوق وعندما أصبح سن محمد 6 سنوات عمل مع والده في مصنع الطوب وراح محمد إلي المصنع لكن بوادر الغناء كانت قد بدأت تظهر عليه، فكان يغني للعمال ، ثم التحق بمدرسة دسوق الإلزامية، وفي هذه الأثناء كان محمد رشدي يغني للأولاد أغنيات ليلي مراد التي كان يعشق كل أغنياتها،وكان أول من يؤدى نشيد الصباح، حيث بدأت مرحلته الأولى في الغناء، وعندما بدأ صيته يتردد بين أبناء المدينة الراقدة في أحضان النيل من جانب وفى أحضان القطب الديني سيدي إبراهيم الدسوقي ومارس الغناء وهو في المدرسة الثانوية ونظرا لوجود منزل اسرته في ساحة مسجد ابراهيم الدسوقي فقد حفظ القرآن في الكتاب وكان يرفع الاذان بالمسجد وهو ابن التاسعة من عمره.
وفي أحد الأيام أعلن في البلد عن عرض فيلم ليلة ممطرة بطولة نجمته المفضلة ليلي مراد في سينما مصر في دسوق، وكانت التذكرة وقتها بخمسة تعريفة ومن فرط حبه لليلي مراد وحرصه علي حضور هذا الفيلم يوميا كان يذهب فجر كل يوم عند باب السينما ويجمع بقايا التذاكر ويحاول لصقها بطريقة لا تظهر حتي تصبح التذكرة كاملة، كل ذلك لأنه لا يملك ثمن تذكرة دخول السينما، وفي أحد أفراح البلدة غني رشدي بعض أغنيات لأم كلثوم وليلي مراد وأشاد أهل البلدة بصوته وعندما علم الأب بذلك أصفر وجه وأخذته الشهقة ودقت الأم علي صدرها وانزعجت من أن ابنها بدأ يغني في الأفراح والتجمعات والموالد حيث كان مفهوم الأم عن المغنواتي أنه كالشحات يدور علي البيوت بالربابة ليجمع بعض القروش وبقايا الخبز.
المشهد الثالث
ولأن لابد لكل موهبة حقيقية أن تعرف طريقها طالما كان الصدق حليفها، ففي مساء أحدي الليالي استمع إلي محمد رشدي معاون مستشفي دسوق الأميري محمود الدفراوي (عم الفنان محمد الدفراوى)
فقد كان الدفراوي عازفا للعود وعاشقا للغناء وصديقا للشيخ زكريا أحمد فأعجبه صوته وطلب من والد رشدي أن يترك هذا الصبي ليغني فهذا مستقبله ولديه مقدرة تتطور مع الأيام ليصبح مغنيا مشهورا.. وحاول إقناع والد رشدي بأنه سيعيش عيشه جيدة من وراء غناء ابنه وبعد تردد وافق الأب المحب أصلا للغناء، ودخل محمد رشدي في دور الاحتراف الأول عندما دعاه محمود الدفراوي لإقامة بعض الحفلات في المستشفي من أجل أن يجمع له أي مبلغ وذلك بالطبع بعد أن قام بتربية صوته وتعليمه أصول المغني، كان أول ما اشتراه رشدي من حفلات مستشفي دسوق الأميري بدلة اسموكن قديمة وببيون وكان يرتديهما طوال اليوم في عز الحر من الفرحة، وذات يوم حضرت كوكب الشرق أم كلثوم إلي دسوق لتقيم حفلا غنائياتلبية لدعوة احد الاعيان هناك فشاهدت محمد رشدي و طلبوا منها الاستماع الى اغنية انا في انتظارك بصوت رشدي واستمعت إليه وأعجبت بصوته جدا لدرجة أنها قالت لمن حولها خسارة الولد ده. دخلوه معهد ولا حاجة ده صوته ييجي منه.
وقالت له جملتها الشهيرة «روح يا بني انت مطرب»وطالبت الرجل الذي كانت تزوره ان يتبناه لانه سوف يصبح مطربا له شأن كبير كما أشاد كل من استمع له بجمال صوته
المشهد الرابع
حيث قاد الجانب الفنى فى الحملة الدعائية لمرشح الوفد فى دسوق فريد زعلوك لعضوية مجلس النواب والذي رافقه محمد رشدي في جولته الانتخابية ووقف بجواره حتي أنه لحن وغني من أجله أغنية كتبها له منجد بالبلدة اسمه كامل أبو شبل يقول مطلعها صوت الضمير لما يهتف تسمع له الناس ..على وعد بإلحاقه بمعهد الموسيقى العربية فى القاهرة فى حالة نجاحه وهو ما تحقق بالفعل
فحضر للقاهرة في عام 1948 وهو في العشرين من عمره ليلتحق بمعهد فؤاد الموسيقي عام 1949
وكان مطلوبا منه أن يدبر شئونه بثلاثة جنيهات فقط شهريا يحصل عليهم من معهدالموسيقي الذي كان يعطي لكل طالب يدرس بالمعهد مثل هذا المبلغ فقام باستئجار غرفة فقيرة تحت بير السلم لم يكن بها شبابيك ولا يدخلها الهواء والشمس برقم 18 بحارة المغاربة بحي باب الشعرية مقابل جنيه شهريا وعليه أن يدير أموره بالجنيهات المتبقية ،.. ومن أجل الالتحاق بهذا المعهد كان لابد من المرور على لجنة استماع لتقرر قبوله من عدمه..وكانت اللجنة مكونة من صفر علي والدكتور محمود الحفني والد السيدة رتيبة الحفني مغنية الأوبرا السابقة وصاحبة المؤلفات الموسيقية ومصطفى بك رضا رئيس المعهد في ذلك الوقت.
وقد أجازت اللجنة الفنان الراحل ليصبح طالبا في معهد الموسيقى .. وفى المعهد عرف أصول الغناء عندما درس التواشيح على يد الشيخ درويش الحريري والعود على يد منصور عوض .
صندوق زبالة عبدالوهاب

والطريف حقا أن الغرفة الفقيرة التي كان قد استأجرها محمد رشدي بحي باب الشعرية أحضرها له أحد بلدياته اسمه أحمد المنشاوي الذي كان يظن أنه سكرتير الموسيقار محمد عبد الوهاب ولكنه في الحقيقة كان عامل البوفية في مكتب عبد الوهاب وتكررت زيارة محمد رشدي للمنشاوي كان رشدي يجلس في بوفيه مكتب عبد الوهاب، وقام المنشاوي بتحذيره كثيرا ألا يغادر هذا المكان وذات يوم طلب منه رشدي أن يجعله يري مكتب العملاق عبدالوهاب في عدم وجوده فلم يكن يجرؤ علي الاقتراب منه في حضور الأستاذ فحقق له بلدياته الفراش رغبته فدخل رشدي وراح يلمس الجدران والمكتب والأوراق ويتشمم رائحة الأستاذ ثم وقع نظره علي سلة المهملات ووجد بها أوراقا كان عبدالوهاب قد مزقها وألقاها فالتقط رشدي بعضها وراح يقرأها ووجد من بينها كلمات أغنية يقول مطلعها «يا للي انت في بالي والعمر قضيته أغنيلك» فقال للفراش: هل من الممكن أن آخذ هذه الورقة فأكد له الفراش أن الأستاذ طالما ألقي بها هكذا فهي إذن غير مهمة بالنسبة له فقام رشدي بعمل لحن لها، خاصة أنه لا يملك أي نقود ليعطيها لأي ملحن وبالفعل أخذ رشدي كلمات الأغنية وقام بتلحينها وتقدم بها لامتحانات الإذاعة وكانت بعنوان سامع وساكت ليه ومع الأسف لم يصادف رشدي، عبد الوهاب علي الرغم من تكرار زياراته وكانت اللجنة تضم عمالقة كبارا منهم أم كلثوم والسنباطي بل وعبدالوهاب نفسه الذي جن حينما وجده يمتحن بهذه الكلمات وكاد يفتك به وعرف منه القصة فضحك بشدة وتم إجازة صوته مطربا بالإذاعة وراحت الصحف تكتب عنه والمجلات تشيد بصوته وأصبحت صوره تحتل أغلفة المجلات وظل رشدي يتذكر حتي آخر يوم في حياته هذه الواقعة المثيرة التي تسببت في كتابة شهادة ميلاده الفنية
وانطلق كمطرب بالأفراح الشعبية فيجلس في مقهي التجارة الشهيرة بتجمع الموسيقيين والمطربين الشعبيين والراقصات بشارع محمد علي فينتظر «الأوردرات» من قبل وكلاء الفنانين ومتعهدي الحفلات ولم يكن أمامه بديل سوي هذه الأفراح وكذلك الإذاعة التي كانت تعطي 17 جنيها فقط للمؤلف والمطرب والملحن بل والفرقة الموسيقية وكان نصيب رشدي منها ثمانية جنيهات وعليه أن ينتظر حتي يأتي دوره لتسجيل عمل آخر فكان غالبا ما يقوم بتسجيل أغنيتين فقط شهريا ولهذا كله كنا نجد رشدي مشغولا دائما بلقمة العيش إلي جانب الفن ورغم هذا كنا نجد الأجيال السابقة لهم أسوأ حالا وحظا منهم فكنا نري العائلات الكبيرة تتبني المطربين وتقدمهم في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية إلي أن ظهر أغنياء جدد بدأوا مساندة الفن فظهر شكوكو وعبدالمطلب وعبدالعزيز محمود
حتي قامت ثورة يوليو وتبنت الدولة المطربين وانتبهت لأهميتهم ورغم هذا لم ينجح أبناء الجيل القديم في الوصول للثراء من الفن بدليل أن أعلي أجر وصلت له أعظم مطربات القرن الماضي السيدة أم كلثوم بعد النجاح الساحق لأغنيتها الشهيرة «انت عمري» هو ثلاثة آلاف جنيه لها وللفرقة والمؤلف والملحن، ومن هنا نجد مطربنا الراحل في آخر تسجيل تم معه يؤكد " أن الأجيال الجديدة التي جاءت بعد جيلهم هي التي جمعت المال بينما جيله هو والأجيال السابقة كانت المسألة مختلفة تماما فلم يروا الأرقام المتداولة هذه الأيام فقد قاموا بإعطاء الفن بإخلاص ورغم هذا يؤكد أن جيلهم هو الرابح لأن المال ينتهي بينما العمل الجيد يستمر ويعيش "
وبعد أيام من وصوله تبدو له في الأفق بعض الحلول لمشكلته الاقتصادية فقد تعرف إلي الأستاذ حسن نافع الذي يجاور مكتبه مكتب فريد باشا زعلوك ـ الذي أبدي بدوره استعدادا لتقديمه لبديعة مصابني التي كانت يومئذ صاحبة أكبر فرقة استعراضية في مصر وكان العقد المبرم بينه وبينها يحدد قيمة الأجر الشهري بتسعة جنيهات نظير غنائه وتمثيله وكان هذا المبلغ كفيلا بأن يؤمن أيامه.

، ثم تخرج في معهد فؤاد الاول للموسيقى بالقاهرة عام 1949 .. جذبت .. أضواء القاهرة الوافد الجديد إليها، وذاب فى إحياء الحفلات والأفراح الخاصة.. كان حلم كل مطرب في ذاك الوقت أن يغني ولو نصف دقيقة كل شهر في الإذاعة لأنها كانت أكبر وسيلة سريعة يمكن أن تعرف الناس بالمطرب، وفي هذا الوقت ذاع صيت المطرب الشاب محمد رشدي في التجمعات الفنية وعند متعهدي الأفراح والحفلات، وفي حفل نقابة العوالم الذي دعي إليه عدد كبير من مسئولي الإذاعة كان من بينهم علي فايق زغلول ولم يمض عامان إلا وسمعه الإذاعي علي فايق زغلول الذي كان سكرتيرا لتحرير مجلة الإذاعة في ذلك الوقت وعندما علم رشدي بوجود علي فايق زغلول الإذاعي الشهير غني بحماس شديد، وعندما سمعه زغلول تحمس له كثيرا وطلبه في مكتبه في اليوم التالي وقدمه للإذاعة كصوت جديد وخصص له ربع ساعة يوميا يقدم فيه اغانيه مثل المطربين المعتمدين وكانت اولى اغنياته بها يا ناس حبيبي فين للملحن فؤاد حلمي وبعدها قدم "ع الجبين مكتوب" و"محرمين النوم" فشجعه على الالتحاق بالإذاعة واجتاز عام 1951 مع عبد الحليم حافظ اختبارات الإذاعة في لجنة واحدة،

ونجح هو وعبدالحليم حافظ، وقررت الإذاعة منح كل منهما 17 جنيها نظير الأغنية الواحدة شاملة الغناء والتأليف والتلحين . وكانا يمثلان جيلا واحدا وأجاز صوته محمد حسن الشجاعي الذي كان مراقبا للموسيقى والغناء في تلك الفترة،
والملحن الكبير محمد القصبجى , وتقرر أن يسجل أغنية تجيزها لجنة مكونة من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجى.. فقررت منحه ربع الساعة في الإذاعة كل نصف شهر، واعتمدته مطربا وملحنا عندما غنى أغنية قولوا لمأذون البلد التي كانت من ألحانه. وظلت تقدم بصفة دائمة في برنامج "عقبال عندكم" واعتمد بالاذاعة عام 1952 بأغنية "سامع وساكت ليه". .. التي أذيعت في 20 مايو عام1951 ولاقت نجاحا كبيرا وجاءت أغنية قولوا لمأذون البلد لترفع اسمه خاصة بعد أن اندلعت ثورة يوليو وأصبحت الأغنية تتردد يوميا تعبيرا عن فرحة الشعب بقيام الثورة. . من الأم والأب إلى مولد الدسوقي، إلى البيئة الشعبية التى عاش فيها رشدى. تمازجت عوامل التأثير فى تكوين شخصيته إنسانيا وفنيا.. شهما.. طيبا.. حنونا.. فلاحا.. فيقول عن نفسه ( لم تغادر أبدا هذه المرحلة حياتى.. كثيرا ما سألت أختى انشراح..هل سمعتنى أمى وأنا أغنى فى الراديو؟.

المشهد الخامس .. ترمس وصميت مع عبدالحليم 

فى طنطا وفى محطة القطار.. وقف رشدى حاملا عوده، منتظرا القطار الذى سيقله إلى القاهرة.. لم ينقله القطار كوسيلة مواصلات.. وإنما نقله إلى الفضاء الذى سيصعد فيه معلنا ثورة جديدة فى الغناء.. شهدت المحطة أول لقاء بين الاثنين:سمعت من يناديني: يا فنان.. كان العود فى يدى هو الدليل ، التفت إلى مصدر الصوت، لأرى شابا أنيقا، وجهه يحمل مسحة سمار مصرى خالص.. فى عينيه مسحة حزن ولمحات ذكاء فطرى تلحظها بمجرد النظر إليه، وهدوء محبب..سألته: هل تنادينى؟ ضحك: هل فى المحطة فنان غيرك.. ضحكنا. أنا اسمى عبدالحليم شبانة. وأعمل مدرسا للموسيقى هنا فى مدارس طنطا.. جلسنا فى القطار نتجاذب أطراف الحديث وأحلامنا الفنية.. أكلنا الترمس والصميت. وفى محطة القاهرة أعطانى عبدالحليم عنوان سكنه، وألح أن أَمر عليه فى مقهى التوفيقية، مكانه المفضل.
وبدأ الملحنون الكبار يقدمون للفنان الراحل الألحان..فغنى للملحن الكبير محمود الشريف الذي كان سيد هذه المرحلة وغنى لأحمد صدقي.. ثم غنى للجيل الأحدث , وفيه محمد الموجي, من أغنية إلى أخرى.. انتقل رشدى..لكنه لم يكن رشدى الذى يتمناه كان فيه شيء ضايع منى.. أنا معرفش أنا مين.. أغنى وأبكى ولا يصدقنى أحد..كنت سجلت أغنية قولوا لمأذون البلد ونجحت الأغنية وأصبحت يافطتى.وأذكر أن حسن الشجاعى شاهدنى وأنا اسجلها فى أحد البرامج، فنادانى معنفا: شوف يا ابنى.. أنا بقال أبيع جبنة صنف اسمه عبدالوهاب.. وصنف اسمه أم كلثوم.. وبسطرمة اسمها عبدالمطلب.. ومش معقول أبيع اثنين عبدالمطلب، إذا كنت تستطيع أن تكون محمد رشدى سأقف جنبك.. سيبك من التناكة والتأفف بتاع عبدالمطلب
ويؤكد رشدى دائما أنه تأثر بشدة بالمطرب الراحل محمد عبدالمطلب ولا ينسي رشدي يوم نجح في إقناع طلب بزيارته فذهب واشتري بكل ما يملك لحمة ضاني لمعرفته مدي عشق طلب لها وقام بسلقها كما يحب حتي يدفعه لقضاء أطول وقت ممكن معه
وقد ظهر عبد الحليم في حفلات الأندلس ليغني الغناء الجديد الذي يعتمد على الإحساس دون الاعتماد على قوة الصوت، وكانت هناك أصوات قوية مثل عبدالمطلب وعبد الغني السيد وكارم محمود ومحمد قنديل ولم يكن لمحمد رشدي مكان، فالمرحلة ليست مرحلته كان رشدى يذوب تقليدا فى عبدالمطلب عاجزا عن إظهار ما يميزه.. أما عبدالحليم حافظ رمز جيله الخالد فكان يذوب بحثا عما يميزه.. يذكر رشدى واقعة ذات مغزى وتعطى تفسيرا لما قدمه عبدالحليم وكل جيله: كنت وعبدالحليم والملحن فؤاد حلمى فى بيت ملحن اسمه عبدالفتاح بدير.. نزلنا نتمشى فى الشارع فطلب عبدالحليم أن ننتظر أمام محل بقالة لنسمع تسجيل جديد له فى الإذاعة.. استمعنا ثم قلت لعبدالحليم: انت فيك شيء من حليم الرومي ( والد الفنانة ماجدة الرومى ) ،وكان مطرب له شأن فى هذا الوقت وله أغنية شهيرة: هنا تقابلنا سوى.. هنا جمعنا الهوى.
صرخ عبدالحليم فى وجهي: أنا مش شبه حد يا رشدى.. أنا لون..لعبت كلمة أنا لون فى دماغى.. وعدت إلى مسكنى فى بركة الفيل بالسيدة زينب، حزينا لعدة أيام حتى جاءني: يا رشدى أرجوك ما تتضيقش،أنا نفسى كل واحد فينا يكون له لونه الخاص.. رغم لعب أن كلمة أنا لون لعبت فى دماغ رشدى.. لكنه ولمدة 8 سنوات ظل تائها: لا أعرف من أنا..أحببت وتزوجت زواج أول،وانجبت بسهولة.. وقبلت أفراح بسهولة.لا أفهم ما يدور حولى من تحولات اجتماعية وسياسية بمجئ ثورة يوليو 1952.. ليلة الثورة كنت فى الإذاعة لأقدم تسجيلى النصف شهرى.. وبينما أن استعد وجدت ضابط يدخل عرفت منه أنه جمال حماد.. قال لي: الجيش اتحرك فيه ثورة.. لم أع معنى ما يقوله.. كل همى كان تقديم التسجيل حتى أحصل على ال 17 جنيها..ألححت عليه راجيا أن يسمح لى بتقديم التسجيل حتى استجاب وقال لى غنى أغنية مأذون البلد، علشان النهارده أفراح.. ورغم عدم وعى بمعنى الحدث جيدا إلا أننى شعرت وكأننى أخطب الجماهير فارتجلت كلمات جديدة فى الأغنية: يا شايل الشربات.. فرق علينا ودور.. عهد الظلام أهو فات. وجى عهد النور.
أدهم
كان ختام مرحلة توهان رشدى مأسويا فى جانب، ومشرقا فى جانب آخر ففى أحد أيام شهر مايو عام1959 أي بعد زواجه بخمسة أشهر فقط دعي للاشتراك في حفل كبير في مدينة فايد علي شاطيء القناة مع مجموعة كبيرة من الفنانين منهم المطربة نادية فهمي والراقصة سلوي المسيري وعدد من نجوم الفكاهة، ووقعت حادثة في الطريق كسرت فيها ساقه وماتت نادية فهمي وسلوي المسيري .. مات كل من معه ووضعت قدماه فى الجبس وأصيب فى وجهه وبقى مقعدا وتوقف رشدي عن الغناء لأكثر من عامين عاني خلالهما، ساءت أحواله وكاد يعتزل الغناء، لكنها كانت فترة تأمل، وتوقف، وتساؤل، وقراءة.. حتى جاء ختام هذه المرحلة وبدء مرحلة جديدة بإسناد موال أدهم الشرقاوى له يقول: كانت قوانين يوليو الاشتراكية قد صدرت عام 1961، وطلبنى محمد حسن الشجاعى ليبلغنى باختيارى ملحمة أدهم الشرقاوي تأليف محمود إسماعيل جاد وإخراج يوسف الحطاب، وحققت الملحمة نجاحا شعبيا وفنيا كبيرا جعل الناس من جميع الطبقات تلتف حول أجهزة الراديو، كانت ملحمة أدهم الشرقاوي بالنسبة لرشدي ولغيره أيضا فتحا جديدا في الأغنية الشعبية، فهي كانت الأرض البكر التي نسبت إليها الأغاني الشعبية بعد ذلك.
قال الشجاعي:هناك تعليمات سياسية بتحويل سير الأبطال الشعبيين إلى أعمال فنية لتعميق دور البطولة بين أبناء الشعب المصري، وذلك لمواكبة المرحلة السياسية الجديدة،.. تلقف رشدى ما قاله الشجاعى خاصة بعد أن علم منه أن أسماء أخرى كانت مرشحة للموال مثل محمد قنديل،وكارم محمود، وعبدالغنى السيد، ومحمد عبدالمطلب واعتبر أن فرصة حياته جاءته ولابد من اقتناصها..
يقول رشدي: " أخذت الموال الذى وضعه يوسف الحطاب.. وجمعت كل آلاتية الفن الشعبى الذين يجوبون الشوارع.. سمعت منهم كل المواويل الشعبية التى قدموها فى الأفرح والموالد.. واشتريت من سوق الكانتو كل الاسطوانات الموجود عليها الموال لفنانين سابقين.. كنت أبحث لدرجة السرقة عن فكر كل من غنى الموال.. فوجدت فكرا فى أداء فنان اسمه محمد العربي، وسيدة اسمها الحاجة زينب المنصورية.. ويقال عن محمد العربى أن سرادقه لم يكن يقل أهمية عن سرادق أم كلثوم لو قدما الاثنان حفلتيهما فى ليلة واحدة".
آمن محمد رشدى وهو يتصدى لموال آدهم بفلسفة رآها فى الشعب المصرى وظل مؤمن بها طوال حياته: أؤمن أن الشعب المصرى تراثه بداخله.. من الممكن أن يغيب بعض الوقت، أو ينسي، ولكن حين تحركه يتحرك معك.. وهذه إحدى ملكاته الرئيسية.. كنت أبحث فى الموال عما يربط الشعب المصرى بماضيه.
حقق موال أدهم الذى أذيع عام 1962 نجاحا هائلا ساعد عليها الظروف الاجتماعية التى عاشتها مصر مع قوانين يوليو الاشتراكية التى مهدت لأن يكون رشدى مطرب المرحلة الجديدة، ويقال إن الشوارع كانت تكاد تكون خالية بعد صلاة الجمعة موعد تقديم الموال، ويجتمع الناس فى الكفور والنجوع والقرى فى جلسات جماعية حول الراديو ليعرفوا ما الذى يفعله بطلهم أدهم ويستمعوا إلى شجن جملة "ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه".. وتوحدوا معه، الى درجة الانفعال فرحا أو حزنا عليه وكأنه مازال على قيد الحياة.... رفع الموال رشدى الى عنان السماء، وبدأ ابن الناس كما قال عنه العاهل المغربى الراحل الملك الحسن الثانى..

طريقه الحقيقى نحو الناس.. وأدى نجاح الموال إلى ما يمكن تسميته بأدهمة الغناء فى مصر.. والقياس هنا على عبدالحليم حافظ صاحب الأنف الماسية فى شم رائحة النجاح.. فمع الهوس بأدهم/ رشدى.. ركب عبدالحليم الموجة بالغناء فقط لفيلم أدهم بطولة عبدالله غيث، والمثير فى هذه المقارنة أنه رغم جمال ما قدمه عبدالحليم، إلا أن الذى تعلق به الناس تعلقت بأدهم رشدي، وليس أدهم/ عبدالحليم.. ويفسر محمد رشدى هذا: اتهم البعض وقتها عبدالحليم بالاعتداء عليَّ، واستغلال نجاحي، وزاد البعض فى اتهامه لعبدالحليم بأنه يضرب كل من يحاول منافسته. وفى رأيى أن عبدالحليم وقع فى خطأ أنه أسند تأليف الأغانى إلى مرسى جميل عزيز، والألحان لمحمد الموجي، والتوزيع لعلى إسماعيل.. والخطأ هنا أنهم لحنوا.. وأنا لم ألحن، بل نقلت بالضبط ما قاله الناس، وما يرددونه فى كيفية أداء الموال.. فهو سيرة يتغنى بها الناس، دون أداء لحني، وبالتالى عاش الناس معى اللحن الذى أديته بنفس الآلات الشعبية كالأرغول والناي، ولم أستخدم آلات أخرى كما فعل عبدالحليم.. فيما يعنى الالتزام الحرفى بشعبية وفلكلورية الموال.. كما أبقيت على ما نسجه الناس باتهامهم لبدران أقرب أصدقاء أدهم بأنه الذى قتله أنا جيت يا أدهم وجبتلك الفطور ونسيت أجيبلك العشا.. يا خوفى يا بدران ليكون دا آخر عشا.. كان بدران على قيد الحياة وقت إذاعة الموال ورفع قضية أمام المحاكم متهما رشدى بتشويه سمعته.. وعلى شاشة التليفزيون الذى كان فى بداية إرساله تم التصالح فى لقاء بينهما حيث غنى رشدى حسب طلب بدران الموال دون ذكر مقطع الاتهام.
وأصبحت الحاجة ملحة لظهور صوت جديد يعبر عن هذه المرحلة الجديدة وكان هذا الصوت هو محمد رشدي الذي قال عنه إحسان عبدالقدوس: إنه نوع من تعريف ذلك الواقع الجديد الذي تشكل في تلك السنوات.
ومن أقصى الصعيد كان هناك شاعر يأخذ طريقه للقاهرة بحثا عن مكان فيها، وكان هذا الشاعر يجسد نفس المعنى الذي قاله إحسان عبدالقدوس عن محمد رشدي ولم يكن الشاعر سوى عبد الرحمن الأبنودي الذي كان يحمل هو الآخر حسا يعبر عن الواقع الجديد والصوت الشعبي الذي اكتمل.
وتحقق الأسلوب الذي عاش عشر سنوات يبحث عن الفنان الراحل محمد رشدي .. وكانت الأغنية تحت الشجر يا وهيبة من ألحان عبد العظيم عبد الحق،كلمات الابنودي التي اثارت الكثير من الجدل في ذلك الوقت وكأن المجتمع الجديد قد دفع بمطربه وشاعره وملحنه ليعبر عنه فما أن غنى رشدي الأغنية حتى أخذت تتردد في كل ربوع مصر لكنها لم تكن كافية، فالأرض عطشى لهذا الغناء.
وتسلم بليغ حمدي التجربة الجديدة فقدم له "الواد م البحر الاحمر" وغنى محمد رشدي من ألحان بليغ وكلمات الأبنودي أغنية عدوية التى أكدت أسلوب رشدي في الغناء والذي قال عنه كمال النجمي: إنه معن جديد للغناء الشعبي وفرض المعنى الجديد شكله على غناء تلك المرحلة ..فغنى منه عبد الحليم وشادية وفايزة أحمد ونجاة ومعظم الأصوات الموجودة.واطلق عليه بعد ذلك مطرب العمال والفلاحين.. كان يقول عن نفسه انه مطرب آل البيت لشدة عشقه للحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة. وكان على رشدي أن يستمر في تجربته..فغنى من ألحان حلمي بكر أغنية عرباوي وحسن المغنواتي وأصبح حلمي بكر إضافة جديدة في مشوار الفنان الراحل شارك فيها بالكلمات محمد حمزة وحسن أبو عتمان

وعاد بليغ حمدي من جديد ليكون مع الأبنودي ورشدي ثلاثيا يمثل عملية تحول كاملة في الغناء، وتعددت الأغاني والملحنون .. فغنى رشدي لكمال الطويل وعبد العظيم محمد وغيرهما وأصبحت هناك مدرسة في الغناء اسمها مدرسة محمد رشدي التي خرج منها كثير بعد ذلك.
ولم يكن محمد رشدي مجرد مطرب صاحب إمكانيات صوتية لكنه فنان يشارك في الواقع بفنه ليس في مصر فقط ولكن في المنطقة العربية أيضا فشارك في كل المناسبات الوطنية والقومية في مصر وسوريا والمغرب واليمن والجزائر وتونس وليبيا والكويت وغيرها.
ومن جميل الطرائف في مسيرة محمد رشدي انه زار المغرب عام 1972 وغنى في حفلة بمسرح محمد الخامس بالرباط وقدم رشدي ست اغنيات وطلب الجمهور اغنية سابعة ثم ثامنة وكانت الحفلة مقامة في احدى ليالي شهر رمضان فأحس رشدي ان موعد السحور قد اقترب فأراد ان ينبه الجمهور وبطريقة ذكية فأخذ ينشد ( يا عباد الله .. وحدوا الله , اصحى يا نايم , وحد الدايم , سحور يا صايم ) .‏
وتناول الرق من ضارب ايقاع الفرقة .. ونزل عن المسرح يتجول بين الجمهور ينشد والتف حوله الجمهور وخرجوا جميعا من المسرح وطاف مع محمد رشدي في المنطقة المحيطة بالمسرح.‏
والطريف ان مخرج الحفل صور تظاهرة السحور هذه وظل التلفزيون المغربي يذيعها طوال ليالي شهر رمضان في ذاك العام.


(خالص الشكر لكل من ساهم ولو بكلمة فى هذا الموضوع ونخص بالشكر كل من الكاتب الكبير خيرى شلبى , أ. سعيد الشحات ,د. أيمن الجندى , أ. عصام عطيه , أ. خالد فؤاد , أ. طارق هاشم , أ. هويدا طه , أ. سحر طه)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق