الأحد، مايو 22، 2011

صوت المَّوال الشعبي الحزين .. إبحار في مملكة زعيم الأغنية الشعبية .. محمد رشدى ( جزء ثانى )



عرف رشدي بوصفه رائداً للأغنية الشعبية ذات المضامين الاجتماعية التي عبرت عن مشاعر البسطاء والحرفيين. وانطلق محمد رشدي سنة 1962 بهذه الموجة الغنائية التي كانت جديدة تماماً على الغناء العربي بالموال الشهير «أدهم الشرقاوي.
ويذكر شهود عن مدى جماهيرية هذا الموال ان الشوارع كانت تبدو شبه خالية في القاهرة وقت اذاعته في الاذاعة عقب صلاة كل جمعة. وارتفعت بسببه «مبيعات» «الترانزستور» آنذاك، في وقت كان الارسال التلفزيوني في مصر لا يزال في البداية ولم يكن يملك أجهزته سوى قلة محدودة.



 وجاء موال أدهم في أعقاب إصدار الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961 والتي أدخلت مصر الحقبة الاشتراكية سياسياً واقتصادياً. الذى غنى له رشدى " ياابو خالد ياحبيب بكره حتدخل تل ابيب وصدرت توجيهات سياسية للإذاعة المصرية بالتنقيب عن سير الأبطال الشعبيين وتحويلها إلى مادة درامية باستهداف تعميق البطولة في الشعب المصري.
واختار المسؤولون عن الاذاعة محمد رشدي لتقديم «أدهم»، فأنجزه لينطلق بعده إلى نجاحات أكبر،ويقول رشدى عن ذلك " عندما عملت أدهم الشرقاوي كان أول نجاح لي ولم يقف أمامي أحد لأنني ذهبت لسوق الكانتو وبحثت عن كل من غني الموال في مصر وكانت ملحمة أدهم الشرقاوي 85 موالا مطلوب مني ألحنهم وأغنيهم بشكل درامي لصالح العمل نفسه فشغل الموالد جعلني أفهم أسلوب الراوي أو المغني البلدي الذي يروي قصة لذلك عندما حاول المنتج رمسيس نجيب عمل فيلم أدهم الشرقاوي لم يأخذ حدوتة إسماعيل جاد ولكنه كلف مؤلفا آخر وهو مرسي جميل عزيز يكتبها وملحن جديد لذلك محمد الموجي واستطاع أن يؤثر علي عبدالحليم بأن يغنيها في الفيلم وفشل "
ويكون ثلاثياً مع الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، والموسيقار الراحل بليغ حمدي، وكانا في بدايتهما. وأطلق رشدي عليه «ثلاثي الحلم» الذي عمل على اطلاق مدى الاغنية العربية.
وتولى الأبنودي كتابة الاشعار التي نقلت الأغنية إلى أفق جديد وبدأها بأغنية «تحت الشجر يا وهيبة» وهي الاغنية التي لحنها عبدالعظيم عبدالحق واعتبرها النقاد والمؤرخون، فتحا جديداً في عالم الأغنية التي توجهت إلى البنت البسيطة في الريف المصري، تحرضها على إنتزاع حقوقها وخروجها من دائرة الانكسار في التعبير عن الحب والتمسك به في اختياراتها عند الاقتران.
 

وكانت وهيبة بمثابة «السنارة» التي التقطت بليغ حمدي نحو هذا اللون من الغناء ليلحن له من كلمات الأبنودي: «آه يا ليل يا قمر.. والمانجة طابت ع الشجر» و«بلديات داحنا يا حبيبتي بلديات» ولحن له اغنيات عاطفية شعبية ناجحة لشعراء آخرين مثل «مغرم صبايا» و«أنت مين» و«طاير يا هوا».
وجمع رشدي مع الابنودي ملحنين آخرين مثل كمال الطويل في «يا قمر اسكندراني» و«ع الرملة» وقدرا من الحان حلمي بكر، «الله يجازيك يا سفر» و«قدام بيت اللي بحبه».فرضت موجة شعبيات رشدي في الغناء نمطا أجبر مطرباً كبيراً بقامة عبدالحليم حافظ على الالتحاق بهذه الموجة ليقدم «التوبة» «وسواح» و«على حسب وداد» وغيرها



لذلك فقصة صعود محمد رشدى هى قصة صعود مصر إلى قمة مجدها السياسى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.. فبينما كانت معارك الاستقلال الوطنى والقومى بقيادة عبدالناصر تدور على قدم وساق.. كانت مصر تنبت مواهبها الشابة فى يوم فى كل الميادين.. فى السياسة، والاقتصاد، والصحافة، والغناء، والسينما والمسرح والأدب.. وقذفت أرض مصر السمراء بمحمد رشدى من دسوق إلى القاهرة، ليجد نفسه ضمن جيل خطا خطواته الأولى نحو المجد مع ثورة يوليو 1952.. جيل ضم عبدالحليم حافظ وكمال الطويل وصلاح جاهين وأحمد شفيق كامل ومحمد الموجى، ثم بليغ حمدى وعبدالرحمن الأبنودى، وغيرهم من الأسماء الفذة فى تاريخ الكلمة والأغنية العربية،
وكثيرا ما كان رشدى يقول: "هذا الجيل جاء فى موعده مع جمال عبدالناصر".. وبواسطة هذا المجيء القدرى، والتوافق السياسى والنفسى فى حينها بين هذه الأسماء الخالدة، وجمال عبدالناصر كزعيم وطنى قومى، تولدت أجمل الأصوات، وأجمل وأعذب الألحان والكلمات، وأصبح رشدى فى هذه السيمفونية مميزا بلون شعبى اجتماعى فى الغناء لم يسبقه إليه أحد.. فهو الذى جعل الملايين يجلسون بجوار الراديو ليستمعوا ويستمتعوا بصوته وهو يغنى عن بطلهم الشعبى أدهم الشرقاوى، ثم يفاجئ الناس فى الكفور والنجوع بمن يغنى لهم وعنهم، ويأتى بأسمائهم.. وهيبة.. وعدوية.. وصعيدى ولا بحيرى.. وهنادى.. وحسن المغنواتى، وغيرها من الأسماء التى جاءت كأبطال حكايات غزل الأبنودى بعضا منها بشعره الجميل، وقدمها رشدى بصوته المميز الذى يسرق الإعجاب..
كان المناخ مواتيا ودافعا وحماسيا بالشكل الذى يهيئ الفرصة لأن تستقبل الجماهير كل يوم نغمة جديدة وجميلة فى الغناء كما فى السياسة، ولم يحصد هؤلاء غنائم، ولم ينتظروا وقتها الثمن الذى سيحصلون عليه، وفى أشد المعارك كانوا ينامون كما قال رشدى فى استديوهات الإذاعة والتليفزيون لتقديم الأغنيات والألحان التى تؤازر الجنود على الجبهة. لم يتقاض رغم جدارتهم أحد من هؤلاء ملايين الجنيهات كما يحدث اليوم مع عديمى الموهبة إلا من التنطيط وهز الوسط، وإنما كسبوا قلوب الناس ورصيد التاريخ، نعم .. لقد جاء محمد رشدي بغنائه من اعماق الريف المصري .‏
وهذا ما لخصه الشاعر جورج جرداق حين عبر عن رؤيته لغناء محمد رشدي قائلا ( انه فلاح .. حرث الارض, وبذر الحب , وفتح المياه , ووضع فيها قدميه , و اخذ يغني ياليل) .‏
اما احسان عبد القدوس فعبر عن عمق وتميز غناء محمد رشدي حين قال : ( ا نه يمثل اكتمال الشخصية الشعبية المصرية)


كان الشاعر الأبنودي صادقا مع نفسه تماما يوم جاء من بلدته البعيدة قاصدا صوت المطرب الراحل محمد رشدي. لم يكن ذلك متوقعا من شاعر ناشئ اقتحم شعره الجديد أسوار العاصمة القاهرة فوجد آذانا صاغية شغوفة به وبخياله الخصيب ومفرداته الطازجة الغنية بمشاعر حية دافئة بحرارة إنسانية: إنما الذي توقعه المعجبون بذلك الشاعر الشاب الواعد أن يصعد طموحه الفني إلي أصوات شاهقة كأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وغيرهم من نجوم الطرب اللامعين وما أكثرهم في ذلك الزمن الغني بالمواهب. ولقد فوجئنا جميعا آنذاك بأن عبدالرحمن قد انصرف عن كل هؤلاء واتجه إلي محمد رشدي بأغنيات كتبها خصيصا له ليبدأ معه مشوارا كان بالفعل ضروريا لتطوير مفهوم الأغنية الشعبية بل وتصحيح معني الغناء الشعبي من أساسه بعد حقب طويلة من غناء زائف يحمل صفة الشعبي.سوف تزول دهشتك من انتماء الأبنودي إلي محمد رشدي مع أن كبار مطربي ذلك الزمان يخطبون وده عندما تعرف أن محمد رشدي ليس مجرد وعاء يصلح لاحتواء شعر الأبنودي، بل إنه جزء لا يتجزأ من هذا الشعر فإذا كان شعر الأبنودي وهو الناطق باللهجة الصعيدية قد عبر عن تجربة رشدى القادم من شمال الدلتا فإن المرجعية الوجدانية المشتركة بين جميع أبناء الشعب المصري في شماله وجنوبه علي السواء شرط أن يكونوا من الطبقات الكادحة القريبة دائما من عبقرية التراب الذي هو مسحوق أجيال من الحضارة الزراعية فاضت بها أرض مصر صاحبة العهد الوثيق مع الشمس الحانية والقمر المؤنس الودود، يقتبس الورود من التفاح والخوخ والرمان والبرتقال والمانجو لينشرها علي خدود الصبايا. هذه المرجعية الوجدانية أزالت الفروق بين المفردات الصعيدية والدلتاوية. في الخمسينيات كان الحلم عفيا، حين التقى رشدي بعبدالرحمن الابنودي وبليغ حمدي وانطلقت ثورة الاغنية الشعبية من سماء القاهرة لتكتب صفحة لم تكتب من قبل في تاريخ الغناء

صوت محمد رشدي إذن ابن مدينة دسوق في شمال الدلتا كان هو الصوت الوحيد آنذاك بين المتحققين علي الأثير، المؤهل وجدانيا وفنيا لأداء شعر الأبنودي. ولربما كان صوت رشدي ليس من أحلي الأصوات ولا أكثرها شهرة ونفوذا علي الساحة الغنائية في ظل عمالقة أفذاذ كعبدالوهاب والأطرش وحافظ وعبدالمطلب وقنديل وعبدالعزيز وكارم محمود وعبدالغني السيد وإبراهيم حمودة وسيد إسماعيل وإسماعيل شبانة وغيرهم، وكل هذه الأصوات علي قوتها وحلاوتها تستطيع أداء شعر الأبنودي بكفاءة عالية، بل لقد حدث بالفعل أن غني الكثيرون منهم من أشعار عبدالرحمن إلا أنهم جميعا كانت فصائل دم أصواتهم مختلفة عن فصيلة دم هذا الشعر الجديد الطازج في كل مفرداته وصوره وتوجهاته: ولكن لأنه شعر قوي ذو طغيان مباغت فقد بهر الأصوات 'المدنية' التي تربت علي الوجدان الاصطناعي العام في توجهاته تلبية لأغراض الراديو والأسطوانة الباحثين عن 'ذوق عام' مفترض، غاب عنه نبض الشارع وحيوية الحياة اليومية الواقعية وارتباط الأرض بوجدانها الطبيعي النابع من طميها.
حتي شعراء الأغنية من أبناء الريف كمرسي جميل عزيز وفتحي قورة وعبدالفتاح مصطفي قادهم الراديو إلي 'تحسين نسلهم' الشعري بإعادة صياغة الملامح الفولكلورية في 'عبوات' فنية مدروسة تخلو من أي مفردة يلتبس معناها علي الأذن العامة، وصحيح أنهم بمشاركة صلاح جاهين ومأمون الشناوي وحسين السيد قد حٌدثوا الأغنية المصرية وربطوها بالشعر الحقيقي إلا أن شعر الأبنودي كان رافدا من نبض الأرض في بكارته الحوشية الغنية بالعطاء الشعوري. إن الشعور الشعبي عند الأبنودي ليس كما هو عند سابقيه مطبوخا في أكلة وإن كانت شهية إلا أن طعم العناصر المكونة لها مفقود، الشعور في شعر الأبنودي غير مطبوخ علي طريقة الخلط وإضافة التوابل والمشهيات، إنما هو ثمار طازجة نضجت علي أمها نستشعر فيها طعم كل عنصر علي حدة فهذا لحم وهذا دجاج وهذا خس.. الخ. ولهذا فإن الذين غنوا للأبنودي غير رشدي بمن فيهم عبدالحليم كانوا أشبه بأبناء الذوات حين يتقربون إلي الشعب فيلبسون الجلاليب والطواقي علي سبيل الفانتازيا. الوحيد الذي استشعر عمقها الوجداني المصري الأصيل هو الراحل محمد رشدي


يقول رشدى: حين قابلت الابنودى لأول مرة بعد نجاح موال أدهم عام 1962.. قال لى: أنت الوحيد القادر على أشعارى كانت هذه الكلمة هى الافتتاح لعلاقة إمتدت .. عبد الرحمن حتة من عمرى.. كلمته الغنائية زى الالماظ.. ولأن قضيتى فى الغناء هى الكلمة لم أنفصل عنه.. أنا انتصر للكلمة التى تصل إلى قلب الجمهور مباشرة بمضمونها الجاد.. وهو خير من عبر عما أريده
وعلى الجانب الاخر يقول الابنودى عن رحلته بصديق عمره ( جئت للقاهرة ومن (دسوق) بمحافظة كفر الشيخ جاء محمد رشدي . . كنت أعرفه وهو لا يعرفني، فقد استمعت لصوته وأنا في (ابنود) وهو يغني (قولوا لمأذون البلد) و(يا أم طرحة معطرة) فشعرت أنه قريب من قلبي جداً واقترب مني بصوته أكثر وأكثر حينما استمعت إليه وهو يشدو (أدهم الشرقاوي) فاخترق بها صدري وصدور الجميع فكنا نلتف حول الراديو بالعشرات لنستمع له.

ويقول عن اغنية تحت الشجرة يا وهيبة ( أذكر أن الأستاذ الشجاعي لم يبد ارتياحاً لكلماتها وأعادها لي مؤكداً أن الموسيقار منير مراد وغيره من الملحنين رفضوها لكونهم لم يستوعبوا كلماتها فاقترحت عليه أن يعطيها للملحن الصعيدي عبد العظيم عبد الحق لأنه مثلي وسيفهم معناها فاستجاب الشجاعي لطلبي وبالفعل لحنها عبد العظيم عبد الحق ببراعة وأعجب بها الشجاعي وسألني: من الذي في رأيك يمكن أن يغنيها ؟ فأجبته على الفور قائلاً هو شخص واحد فقط الذي غنى أدهم الشرقاوي فقال لي الشجاعي ولكن هذا المطرب تعرض لحادث أتوبيس أثناء سفره للسويس لإحياء حفل هناك حيث أنقلب الاتوبيس وماتت في الحادث المطربة نادية فهمي ولا يستطيع الغناء الآن فقلت له: الحادثة كما أعرف كسرت ذراعه وساقه ولكن هل كسرت صوته؟ فقال لي إذاً عليك أن تذهب وتبحث عنه وتحضره طالما أنك مُصر عليه وعلى الفور توجهت لمعهد الموسيقى العربية لأحصل على تليفونه ولأنني كنت شخصاً مجهولاً أذاقوني الأمرين ورفضوا إعطائي رقم هاتفه وأمام إصراري طلبوه لي هو هاتفياً)

و يقول عن أول انطباع لرشدى عند اتصاله به ( شعر بملل شديد وعدم ارتياح ورفض إعطائي هاتفه وبعد إلحاح شديد مني أعطاني موعداً في مقهى التجارة الشهير بتجمع المطربين والموسيقيين في شارع محمد علي وحينما ذهبت إليه وجدته يعاملني بتعالٍ وأسلوب ضايقني جداً لقد كان جسدي نحيلا جداً وملابسي كانت متواضعة للغاية أي أن منظري ككل يوحي لمن يراني بأنني إنسان معدم فشعر هو أنني دخيل على الشعر وأسعى لفرض نفسي عليه. فما أكثر ما كان يلتقي بهم بهذا الشكل. وحينما شعرت بهذا التجاهل منه وعدم إبداء أي رغبة لديه في الاستماع لي، قلت له بحدة إنني قادم له من عند الأستاذ (الشجاعي) وكان معروفاً بلقب (بعبع الإذاعة) فاعتدل في جلسته وأجلسني واستمع لي وطار فرحاً بالكلمات وأذكر أنني قضيت هذه الليلة معه. حدثته عن نفسي ومعاناتي ولماذا أعجبت به وطلبت منه الهروب من لقب (مطرب الأفراح) الذي كان مشهوراً به ودون أن نشعر صارت بيننا صداقة واستمع للحن عبد العظيم عبد الحق وأعجب به بشدة . . وهكذا بدأنا مشوارنا سوياً حيث حققت الأغنية نجاحاً مدوياً وأصبح اسمانا على كل لسان، ووجدتني فجأة مؤلف أشهر أغنية في مصر كلها ثم تعرفت على الموسيقار الكبير بليغ حمدي في مكتب الشجاعي أيضاً وقدمنا سوياً مجموعة أغنيات لرشدي من تأليفي والحان بليغ حمدي أذكر منها (بلديات) و(وسع للنور) و(بيتنا الصغير) بينما تعاونت مع عبد العظيم عبد الحق في مجموعة الأغنيات التي غناها رشدي في المسلسلات الشهيرة التي أخرجها نور الدمرداش مثل (الرحيل) و(الضحية) و(النصيب) وغيرها. ثم تم اعتقالي بسبب الأشعار السياسية التي كتبتها واعترضت فيها على أشياء عديدة وهاجمت بعض رجال الثورة وبعد الإفراج عني وجدت الجميع يهربون مني ويتهربون من لقائي خوفاً على أنفسهم، ولم أجد سوى محمد رشدي وعبد الحليم حافظ بجانبي


ويقول عن اغنية عدوية ( هذه الأغنية لها حكاية طريفة للغاية حيث رأيت فتاه تعمل خادمة في منزل الفنان عبد العظيم عبد الحق، وكانت صغيرة وعندها ضفائر جميلة فسألتها عن أسمها فقالت (عدوية) وهذه الفتاة هي التي أوحت لي بفكرة أغنية (عدوية) فكتبتها ثم أعطيتها لعبد العظيم عبد الحق ليلحنها وبعد فترة وجدته يرسل لي فذهبت لأجده يعيد لي نص الأغنية دون أن يلحنها وحينما سألته أجابني قائلاً: أنت تقول إن عدوية أهه ضحكتها نهار وانها شمس وأسرار . . وبصراحة كلما حاولت تلحين الكلمات وتدخل عليّ عدوية الحقيقية اصطدم بها فيضيع الخيال الموسيقي فأخذت منه الكلمات وأعطيتها لبليغ حمدي الذي طار بها فرحاً وحصلت على أجر 15 جنيهاً دفعة واحدة من محمد رشدي عنها وكان أجراً ضخماً جداً فكانت أجورنا لا تتجاوز الخمسة جنيهات من الإذاعة وبالفعل حققت الأغنية نجاحاً كبيراً للغاية فاق نجاح (تحت الشجرة يا وهيبة) فقد عبر بها رشدي العالم العربي وأوربا وأمريكا بعد أن كان نجاحه محلياً فقط واستمر بعد هذا مشوارنا سوياً بأغنيات (عرباوي) و(حسن يا مغنواتي) ثم قدمنا أفضل أغنيتين في مسيرتنا الطويلة (ياقمر ياسكندراني) و(أنت مين ياللي أنا مش عارفك). وظل الشارع المصري والعربي يردد ما كتبته له (دنيا غرورة وكدابة . . زي السواقي القلابة) وقدمنا بعد هذا (مجاريح) وتوالى مشوارنا بالعديد من الأغنيات الأخرى (يا ليلة ما جاني الغالي) و(شباكك العالي) و(فنجان قهوة) بالإضافة لأغنيات المسلسلات الناجحة مثل (الصبر في الملاحات) و(حارة المحروسة) وغيرها.

ويقول عن العلاقة الشخصية والانسانية ( طيلة الأربعين عاماً الماضية لم يمض يوم واحد إلا ونطمئن على بعضنا البعض ولم تتوقف زياراتنا سواء في المناسبات أو بدون، وحينما كنت أسافر للخارج دون أن أوصيه ببناتي وزوجتي كان يفعل الواجب وأكثر، والعكس صحيح من جانبي وحينما مررت بوعكة صحية قبل خمسة أعوام وقضيت بغرفة العناية المركزة بمستشفى قصر العيني الفرنسي أياماً عصيبة واستلزم الأمر سفري إلى أمريكا لإجراء جراحة في القلب بعد أن اهتم الرئيس مبارك واتصل بي وهو منزعج بشدة وطلب من رئيس الوزراء اتخاذ اللازم فسافرت، وخلال كل هذا لم يفارقني أبداً رشدي وظل بجانبي ومعي طيلة الوقت يجلس على سريري لهذا مهما فعلت معه اليوم لا أستطيع أبداً أن أرد له جميله وتتساقط الدموع من عين شاعرنا الكبير ويواصل فهو أهم إنسان دخل حياتي.
إذا استعدنا معه مثلا 'يا ليلة ما جاني الغالي ودق عليٌ الباب.. اتبسمت أنا زي العادة وقلت يا باب كداب.. أتاري حبيبي.. بيقول يا حبيبي.. يا مطفي لهيبي افتح دوبني الغياب' هذا النص الذي يشع من علي بعد ألف كيلو متر معلنا أنه للأبنودي لم يكن ليغنيه إلا محمد رشدي.. لأنه كلام اختلط ببقايا الحطب اليابس أمام 'الكانون' ومعطر برائحة الخبيز وهو خارج لتوه من الفرن.
ورشدي نجح حينما غني تلك الكلمات لأنه كان في أعلي مراحل الصدق الفني في حياته.. وكانت بلاده أيضا في أعلي مراحل الصدق الوطني.. كانت النهضة التي تعيشها مصر في ستينيات القرن الماضي مشجعة لفن أصيل مثل ما قدمه محمد رشدي.. كان الرجل رحمة الله عليه عنوان بلاده.. تذكر معه: 'كعب الغزال يا متحني.. خليتلي إيه علشان أغني'.. وحاول التأمل في فن خاص اكتسب خصوصيته من قدرته علي التعبير عما هو عام تذكر 'تحت الشجرة يا وهيبة.. ياما كلنا برتقان' وكيف صاغها العبقري المنسي عبد العظيم عبد الحق لحنا ليفاجأ الفلاح البسيط بأغانيه التي يغنيها وهو عائد من الغيط وقد وضعها فيه زمن الثورة علي موجات الراديو الذي كان معبرا عن الناس.
لكن 'العرباوي' مر بأيام مرة.. عاني من الفشل الكلوي.. وعاني بلده من الفشل الحضاري.. مرض وعاني وتعب.. وفي عز التعب غني.. وكان ألبومه 'دامت لمين' الذي نجح نجاحا مدويا وحاول الرجل ونجح.. لكن دواعي السن.. ودواعي المرض كانت أقوي.. وإرادة الله جاءت أمضي.. ورحل عنا في ذلك المساء الحزين بعد أن صارع مرض الفشل الكلوي لأكثر من عام.


وكان لرشدي أصدقاؤه وفي طليعتهم بليغ حمدي والأبنودي.. وقد شكل ثلاثتهم حالة فريدة في الغناء الشعبي المصري.. يندر أن تتكرر في زمن 'كاريكا' وسعد بأحجامه المختلفة 'الصغير والكبير والمتوسط' وشعراء يكتبون بالخليجي لمطربين يغنون ورائحة النفط تفوح من أفواههم.. ولا عزاء للفلاح المصري أو العامل البسيط الذي ودعه رشدي في أول مايو ثم أعلن الصمت النهائي والحقيقة أن من يستحق المواساة الآن هو الأبنودي الذي فقد بليغ ثم رشدي ليعيش وحدة آلام الفقد.. بعد أن فقد صاحبيه
خمسون عاما والغناء عند محمد رشدي حياة.. والشدو تجربة طاغية الصدق حولت مسارات عبدالحليم حافظ، فايزة ومحرم فؤاد فتركوا اغنيات الحب حسب وداد قلبي مال علي مال الحلوة داير شباكها. فلقد ذكر مرة إن حليم فشل في غناء مواويل أدهم الشرقاوي التي لحنها محمدالموجي له في فيلم من إنتاج رمسيس نجيب إذ كتب المواويل مرسي جميل عزيز. ثم ان حليم اتصل بعبد الرحمن الأبنودي وطلب منه أغانٍ شعبية وقال له: "... بس مش زي بتاعة صديقك رشدي..." وبالفعل كتب له أغنية "توبة".
لكن الخلاف لم يصل حدّ العداء كما أشيع ـ حسب رشدي ـ لكن حدثت منافسة فنية كانت لمصلحة الفن فبعد أغنية "توبة" حصلت على نص "عرباوي" فبدأت يومها أرد على عبد الحليم في الأغاني، وفي تلك الفترة ذهب عبد الحليم إلى مدير الإذاعة المصرية وقال له: "كلما أعمل غنوة رشدي يحرقها لي"، فقرروا توقيف أغنيته لولا كان محمد جلال يومها يدافع عنه.
وقال رشدى عن منافسة عبد الحليم له ان المنافسة خدمته اكثر مما خدمتني فهو الذي كان يقتفي من نجاح عبدالوهاب ومن نجاحي، فبعدما غنيت »ادهم الشرقاوي« غناها هو.. ثم اخذ مجموعة من الشعبيات كانت معدة سلفا لي وغناها.
لكن رشدي كان يصف حليم بقوله إنه "زميل عمري"، دخلنا الإذاعة معاً والامتحان معاً ونجحنا معاً أيضاً".
عاش محمد رشدي في زمن كان يحترم الغناء الشعبي الذي كان بمنزلة الأدب الشعبي، فكان الفنانين في ذلك الوقت من الخمسينات وما بعدها يستدعون روح التراث والفولكلور عبر كتّاب الأغنية أمثال الأبنودي وآخرين، ويتقنون اللحن الذي يستلهم أغنيات الصعيد مثلاً والنوبة والاسكندرية وغيرها. كان زمن الالتزام في كل شيء. عاش في زمن كان فيه المناخ الفني السائد صحياً وغنياً، لا مناخاً تجارياً كما هو سائد اليوم.
رحل محمد رشدي في أحضان زوجته وأولاده أدهم وطارق وسناء، ولسان حاله يقول "دامت لمين".




(خالص الشكر لكل من ساهم ولو بكلمة فى هذا الموضوع ونخص بالشكر كل من الكاتب الكبير خيرى شلبى , أ. سعيد الشحات ,د. أيمن الجندى , أ. عصام عطيه , أ. خالد فؤاد , أ. طارق هاشم , أ. هويدا طه , أ. سحر طه)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق