السبت، مايو 28، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د / طارق حجى - السعوديون ( 2 )


ولكن : هل خلت دولة السعوديين (الثالثة) بعد أن استتب لها الأمر وتمكنت من هزيمة أعدائها (من آل الرشيد للهاشميين لفيصل الدويش) من فكر حركة إخوان نجد الذي يقرب من حد الجنون والأمراض النفسية إذ يُقاتلون من أجل إيقاف إستعمال السيارات والتلغراف والراديو ومن أجل تقصير الثوب وحف الشارب وإطلاق اللحية ؟ ...
الحقيقة أن الدول السعودية (الأولى والثانية والثالثة الحالية) لم تكن في أي يوم خالية من رياح السموم التي يبثها أصحاب ذهنية إخوان نجد . وحتى اليوم فإن أي فقيه سعودي عندما يتكلم يكون جليًا أن الإسلام عنده هو الإسلام كما فهمه ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية رغم كون هؤلاء فُقهاء صغار القامة إلى أبعدِ حدٍ عندما يُقارنون بفقهاء مثل أبي حنيفة النُعمان ومالك بن أنس وجعفر الصادق وابن رُشد (المُعَلِم الثاني بعد المُعَلِم الأول أرسطو) .
و بينما يُمكن القول بأن "العمل الفقهي" كان على أشده عند فقهاء مثل أبي حنيفة وابن رشد، فإن "العمل التجميعي" الخالي من إعمال العقل أو أدوات علم أصول الفقه التي جوهرها العقل (مثل الاستحسان عند أبي حنيفة والتأويل عند ابن رشد) كانت سمة المذهب الحنبلي وهو ما أدى إلى توسعهِ (بالغ الإفتئات على العقل) في قبول آلاف الأحاديث وهو ما خلق مناخًا عامًا أساسه الاتباع والتقليد والتبعية وليس إعمال العقل، وهو ما أدى بالمجتمعات الإسلامية لما وصلت إليه اليوم عندما أصبحت خارج التاريخ وخارج مسيرة العلم وخارج مسيرة الإضافة لعناصر الحياة الإنسانية على الأرض . فقد قاد هذا التيار الفقهي العقول المُسلمة لتصبح "عقول تلقي الإجابات" وليست "عقول إثارة الأسئلة"، ناهيك عن ذبول القُدرة على إعمال العقل النقدي الذي هو أساس التقدم البشري .
رغم أن ابن حنبل هو أكثر فقهاء المسلمين عبودية للنص (أو للنقل) وإهمالاً للعقل (قبل أحمد بن حنبل عشرات الآلاف من الأحاديث على خلاف فقيه مثل أبي حنيفة) أما ابن تيمية فهو ثمرة طبيعية لزمانه : زمان تهاوي الدولة الإسلامية وسقوطها تحت سنابك خيول المغول والتتار –
وهو لا يلام على فكره الذي كان مناسبًا للحظتة التاريخية وإنما يلام من أسسوا فقههم على رؤياه في زمان غير زمانه ومكان غير مكانه.
إن مقاومة تعليم البنات في المملكة ومقاومة البث التليفزيوني وعدم التصريح للنساء بقيادة السيارات
وتأثيم الموسيقى والغناء، هى وأيضًا العمل الإجرامي الكبير المُتَمَثِل في الاستيلاء على الحرم المكي مع بداية القرن الهجري الخامس عشر هى كلها دلائل بقاء نفوذ ذهنية الإخوان في المملكة . إن عدم تدريس مادة الرسم والفلسفة في المدارس ليست إلا من ثِمار هذه الذهنية . ومعارضة تعيين امرأة في مجلس الشورى أو في مجلس الوزراء هى أيضًا من ثِمار بقاء هذه الذهنية . وكذلك طوفان الفتاوى العامرة بمعالم هذا الجنون (مثل فتوى ابن باز بعدم كروية الأرض وفتوى تحريم إرسال الزهور للمريض) وهى أمور تحتاج لحسم إداري باتر يُلازمه علاج نفسي .
في يدي فتوى سعودية بأن شراء الزهور وإرسالها للمريض حرام لأنه تقليد جاءنا من بلدان الكفر. إنه مثال واحد (وقد يبدو للبعض بسيطًا)… ولكنه ليس كذلك. إنه يكشف ذهنية كانت ولا تزال تكره كل ما يجيء من الخارج! ولكنها أيضًا متناقضة: فنص فتوى الزهور تقول إن إرسال الزهور للمريض "حرام" لأن ذلك (ليس من هدى المسلمين على مر القرون)!!!
وكأن ركوب الطائرة والسيارة واستعمال الكمبيوتر… بل و استعمال الأسلحة الحديثة في قتلهم لأعدائهم كان (من هدي المسلمين على مر القرون)!! إن أي مسلم (خارج عالم ابن تيميه) لا يمكنه إلا الشعور بالغثيان من تضمين فتوى الزهور (الفتوى 21409 بتاريخ 29/3/1421هـ) كلمات مثل: (وإنما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعفاء الإيمان) وليتصور معي القراء "ذهنية" تعادي الزهور… رمز الخير والجمال والصداقة والبراءة والمحبة في كل الثقافات… بل إن لغات عديدة تستبدل عشرات الكلمات الرائعة الجميلة بكلمات مثل (الورد) و(الزهرة) و(الفل) و(الياسمين)… إلا أن ذهنية القبيلة الرحّالة لا تريد لنا إلا أن نصبح "ثقافة أعداء الزهور"!
ويتساءل الإنسان: إذا كانت هذه هي الذهنية العامة والنظرة لغير المسلمين- أليس من الطبيعي أن يفرز المجتمع (على فترات) أفرادًا يحملون السلاح ويطلقون النار على مظاهر المدنية وعلى الأجانب (الكفار) الذين "ينجسون" تراب جزيرة العرب؟ (رغم أنهم يطلقون النار من أسلحة من ابتكار الكفار!!).
لأن هذه المنطقة (مناطق الداخل في شرق الجزيرة العربية) هى التي صاغت الطرح الإسلامي أو الفهم الإسلامي الذي يسميه الدارسون بالفهم الوهابي للإسلام والذي أنفقت المملكة العربية السعودية على ترويجه ونشره خلال نصف القرن الأخير مئات المليارات بعد أن تأثر بشكل أو بآخر بثلاث مؤثرات خارجية هى : فكر أبي الاعلى المودودي وفكر سيد قطب والمدرسة السرورية التي جاء بها الإخوان المسلمون السوريون , ولكنها مؤشرات لم تغير جوهر الفهم الوهابي للإسلام وإنما دعمته وقوته نظرًا لبساطة فكر محمد بن عبد الوهاب مقارنة بأيٍّ من المدرسة المودودية أو القطبية أو السرورية .
وخلصت في محاضرتي، بأن كراهية الاستعمار ظاهرة قائمة بذاتها-وهي ظاهرة لا يمكن إلا أن توصف بكل الصفات الطيبة-ونقيضها لا يوصف إلا بكل الصفات المشينة والمهينة. أما شعوب المنطقة ذات الخلفية الحضارية، فهم من جهة لا يكرهون الحداثة والتقدم والأجانب ولكنهم يكرهون أن يكون معنى التقدم هو "التغريب"… وهذا أيضًا موقف ليس فقط إيجابيًا بل حكيمًا وكريمًا. أما كراهة مذهب معين ومجتمعات معينة لكل ما هو من الخارج، فحقيقة لا شك فيها-وهي التي جعلت محمد علي يرسل جيشه بقيادة ابنه إلى جزيرة العرب ليحارب هؤلاء "المهووسين" ويأتي (في 1818) بكبيرهم (مأسورًا) ليحاكم ويقضي نحبه…
بل إن هذا هو ما جعل مؤسس الدولة السعودية الثالثة يدخل معهم في حرب (في عشرينات القرن العشرين) لهوسهم السيكوباتي بمحاربة كل مظاهر المدنية.
ومن أخطر الأمور التي حدثت خلال العقود الخمسة الأخيرة أن الذهنية النجدية لم تقم فقط باحتكار إنشاء المراكز والمدارس الإسلامية في شتى بقاع العالم , ولكن أخطبوطها مد أذرعه إلى الكثير من وسائل الاعلام في داخل وخارج المجتمعات العربية والإسلامية كما أنه في نفس الوقت قد مد أذرعه إلى مؤسسات دينية أخرى عريقة في بلدان مثل مصر وتونس والمغرب وسوريا فمحا عنها صفاتها الأصلية وأحل محلها الكثير من معالمه الذهنية . فبعد أن كنا نعرف من خطبة الجمعة في مصر أن المتحدث إما شافعي أو حنفي وكما كنا نعرف من خطبة الجمعة في المغرب أو تونس أن المتحدث مالكي , فقد صرنا نسمع قرع طبول حسب نوتة موسيقية واحدة هي النوتة الحنبلية بتوزيع موسيقي لابن تيمية ولمحمد ابن عبد الوهاب .
ولكن من اللازم (من باب الأمانة العلمية) أن نُفَرِق بين الوهابية وذهنية الإخوان وبين العائلة السعودية . فالحقيقة أن كُتب مُحمد بن عبد الوهاب الـ 19 لا تحُض على شيء مما فعله ولا زال يفعله أصحاب ذهنية إخوان نجد . كما أن العائلة السعودية كانت – في ظروف تاريخية معينة – في مُشاركة مع الوهابيين وفي مرحلة أخرى مع الإخوان ولكنها ليست بالضرورة صاحبةِ هذا الفكر .
وإنني (كدارس للتاريخ السعودي خلال القرون الثلاثة الأخيرة) أعتقد أن البيت السعودي في لحظة مفصلية اليوم مع كل من التيار الوهابي وبقايا ذهنية إخوان نجد . وأعتقد أنه منذُ أن اكتشف البيت السعودي أن السوادَ الاعظم من مُجرِمي حادث 9 سبتمبر 2001 كانوا شبابًا سعوديًا،
فقد أصبح لزامًا عليهم إدراك أن مسئولية كبرى قد أُلقيَت على عاتقهم بوقفة مع التيار الوهابي والإخواني (بمعنى إخوان نجد وليس إخوان مصر) تُماثل وقفة والد كبار أُمراء البيت السعودي الحاليين أي وقفة عبد العزيز آل سعود مع إخوان نجد وفيصل الدويش خلال النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين، وهى الوقفة التي انتهت بحرب هزم فيها الملك عبد العزيز آل سعود الإخوان بقيادة فيصل الدويش رغم دور الإخوان غير المذكور في نجاح مسيرة الأمير الشاب (الملك عبد العزيز آل سعود) .
والمطلوب اليوم من السعوديين المتعلمين والمثقفين أن يدركوا بوضوح أن مشكلتهم هي في المقام الأول والأخير مع "ذهنية" لم يعد لها مكان في أي أرض أو وقت. وليس من اللائق أن يتعايشوا مع فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة.. وغيره. ولا أعرف هل هناك نص قرآني يمنع السعودية من تكوين هيئة فتوى جديدة تنتقى من مذاهب أرقى بكثير من مذهب ابن تيميه وابن حنبل؟… إن قيمة "ابن تيميه" بين الفقهاء وبالمقارنة برجل مثل أبي حنيفة أو ابن رشد
هي كقيمة "الناقة" بالمقارنة بالسيارة الروز رويس كوسيلة مواصلات!
إن البيت السعودي الذي لم يتورط فكريًا في أفكار الوهابية وإخوان نجد مُطالبٌ اليوم (في اعتقادي) بما يلي :
أولاً - القيام بمواجهة مع التيار الذي يُمثله كل الغُلاة في السعودية مواجهة تُشبه مواجهة والدهم للإخوان منذُ ثمانية عقود .
ثانيًا - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في مؤسسة التعليم .
ثالثًا - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في وزارة الأوقاف والدعوة والحج .
رابعًا - إلغاء كل نُظم المطوعين وجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر لمُنافاة ذلك كليًا لمفهوم الدولة الحديثة .
خامسًا - تقليص الميزانية الهائلة التي تنفقها المملكة على رجال الدين (نحو 3 مليار دولار أمريكي) وتوجيه هذه الأموال لمجالات التعليم والصحة (فإن أصحاب الثوب القصير والشارب المحفوف واللحية المُطلقة ليس بوسعهم أداء أي دور في أية دولة حديثة إلا إذا كان المقصود بالدور هو الدور الهدام) .
سادسًا - تشجيع أساتذة الفقه المُعتدلين على وضع برنامج محدد زمنيًا لإدخال مرجعيات حنفية ومالكية وشافعية بدلاً من المرجعيات الحنبلية حتى تصل السعودية لطورٍ لا يكون الفهم الحنبلي فيه هو الفهم الوحيد لسائر الأمور الدينية (وأُكرر أن ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية هُم كانوا بلا شك من أصحاب أقصر القامات الفقهية بين الفُقهاء).
سابعًا - التجاسُر على كسر وهزيمة العناد الإخواني (بالمعنى النجدي) في العديد من المسائل مثل تعيين المرأة وزيرة وتعيين المرأة بمجلس الشورى والسماح للمرأة بقيادة السيارة والسماح للأساتذة الرجال بالتدريس للطالبات وللمُعَلِمات من النساء بالتدريس للطُلاب الذكور في ظل مناخ عصري وليس في ظل المناخ الحالي الذي لا مثيل له على وجه الأرض .
ثامنًا - نظرًا لأن مئات المراكز الإسلامية التي أنشأتها السعودية في معظم بلدان العالم قد تحولت لأوكار للتعصب والتشدد والغلو (ومفارخ للعُنف والدموية والإرهاب)، فلابد من وضع خطة بديلة لتحويل هذه المراكز لنقاط خدمة مُجتمعية وليس لجهات دعوة ظلامية كما هو الحال بشأن مُعظمها اليوم، وهو ما أساء للإسلام والمُسلمين أكبر إساءة خلال العقود القليلة الماضية .
إنني أُعبِر عن هذا الرأي لا من باب العداوة للسعودية وإنما من باب الحرص عليها . فأنا على يقين أن عدم قيام أبناء الملك العظيم عبد العزيز آل سعود بمثل ما قام به والدهم مع إخوان نجد وفيصل الدويش منذُ ثمانين سنة سيؤدي بالمملكة السعودية لمواجهه بالغة الضراوة مع المُجتمعات المُتقدمة . لذلك فإنني أؤمن بأن انهيار النظام السعودي سواءً لمصلحة تيار الغلو أو لمصلحة تيار التجزئة والتقسيم هو أمر بالغ الخطورة الاستراتيجية على كل دول الخليج والشرق الأوسط .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق