الخميس، أبريل 28، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - شارع اسماعيل صبرى


- مع التطور الذي شهدته الإسكندرية خلال النصف الأول من القرن العشرين وضع مشروع التهطيط العام لتحسين المدينة عام 1921م، قام بوضعه كبير مهندسي بلدية الإسكندرية حينئذ "ماكلين"، وكان التخطيط يشمل العديد من المشروعات الحضارية الطموحة والضرورية لكي تتلاءم المدينة مع مستحدثان العصرالحديث وتستطيع استيعاب الزيادات المطرودة في عدد سكان المدينة حينئذ ، وكان من ضمن تلك المشروعات العملاقة مشروع إنشاء طريق الكورنيش بالإسكندرية

، والذي بدأ العمل به حتى تم الإنتهاء منه بالكامل ليفتتح رسمياً عام 1934م في عهد محافظ الإسكندرية "حسين صبري باشا"

والذي تم في عهده (1925 - 1937م) إنجاز العديد من المشروعات الهامة الأخرى كإنشاء مبنى "محطة مصر"

و"إستاد البلدية"

وإنشاء مستشفى "الحميات" و"المواساة"

وغيرها ، ومع البدء في تنفيذ مشروع الكورنيش كانت الضرورة الملحة في ربط الميناءين الغربي والشرقي

بشارع رئيسي يخترق منطقة بحري والحي التركي وغيرها من مناطق الإسكندرية القديمة .
- وبالفعل تم شق طريق عريض يصل ما بين منطقة "باب الكراستة " بجوار بوابات الميناء الغربي من جهة ، وطريق الكورنيش الجديد

حيث الميناء الشرقي القديم للمدينة من جهة أخرى

، وذلك خدمة للتجارة وأغراض النقل ولتحقيق سهولة الاتصال ما بين أجزاء المدينة الأصلية وباقي أجزاء المدينة وليطلق العامة على الشارع مسمى "الشارع الجديد" (بخلاف شارع السكة الجديدة الشهير)،

ليصبح ذلك الشارع من أهم الشوارع بحي الجمرك والذي يطلق عليه أهل الإسكندرية مجازاً أسم حي "بحري" تمييزاً لهعن باقي مناطق الإسكندرية ولكونه يطل على البحر من الجهتين الشرقية والغربية،

وليصبح ذلك الشارع الجديد رابطاً ما بين واجهتي ذلك الحي وللآن وحيث أطلق على ذلك الشارع الجديد مسمى شارع "إسماعيل صبري".


- المتصفح لسيرة صاحب تلك التسمية "إسماعيل صبري باشا" يجده بالفعل شخصية جديرة حقاً بأن تخلد في تاريخ الإسكندرية ، فإذا ما نحينا جانباً كونه كان محافظاً للإسكندرية في الفترة من عام 1896م وحتى عام 1899م (وهو أمر له اعتباره)، فإن القيمة الحقيقية في هذا الرجل العظيم تتبع عن كونه أحد أهم شعراء الوطنية في مصر في التاريخ الحديث والمعاصر حيث يمثل الشاعر "إسماعيل صبري" أحد فرسان الشعر الحديث الخمسة الذين اضطلعوا بإرساء قواعده وإقامة دعائمه وهم الشعراء العظماء "محمود سامي البارودي" و"أحمد شوقي" و"خليل مطران"

و"حافظ إبراهيم"، وكان أهتمامه منصباً على قضايا وطنه الذي عشقه فقام بتوظيف موهبته في خدمة تلك القضايا الوطنية لذا استحق تكريم السكندريين الذي كان في الوقت ذاته محافظاً لمدينتهم ، وذلك بإطلاق اسمه على الشارع الجديد منذ شقه وفتحه عام 1934م في إطار تنفيذ مشروع إنشاء كورنيش الإسكندرية .


- ولد "إسماعيل صبري" في 16 فبراير عام 1854م بالقاهرة ونشأ فيها حيث ألتحق بمدرسة "المبتديان" عام 1866م ، ثم بمدرستي "التجهيزية" و"الإدارة" (مدرسة الحقوق فيما بعد) حيث أتم دراسته عام 1874م، ثم ألتحق بالبعثة المصرية بفرنسا حيث نال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية "أكس" عام 1878م، ويرجع الفضل في حصوله على تلك البعثة إلى "علي باشا مبارك"

، وعقب العودة إلى مصر ألتحق بالمناصب القضائية المختلفة حيث نال العديد من الرتب والمناصب حتى تم تعيينه محافظاً للإسكندرية في أول مارس عام 1896م، وأستمر في منصبه حتى الخامس من نوفمبر عام 1899م حينما أختير ليشغل منصب وكيل نظارة الحقانية (وزارة العدل) ليستمر في منصبه حتى اعتزاله الخدمة نهائياً في 28 فبراير عام 1907م بناء على طلبه ليتفرغ للشعر والأدب .
- ويسجل التاريخ لذلك الرجل العظيم "إسماعيل صبري" العديد من المواقف الوطنية المشهودة ، وبخاصة مع أعتناقه لمباديء الزعيم "مصطفى كامل" باعث الوطنية المصرية الحديثة ، حيث أعلن تأييده له ولمبادئه وتشجيعه لذلك علناً دون تحرج أو خوف وهو ما كان يغضب بالطبع الإنجليز ومندوبهم اللورد "كرومر"

، حيث يشهد التاريخ له عدة مواقف مشرفة كان أشهرها عندما طلبت منه سلطات الأحتلال عام 1896م منع الزعيم "مصطفى كامل" من إلقاء خطبته الهامة بتياترو "زيزينيا" الشهير

عندما كان يشغل منصب محافظ الإسكندرية، فما كان منه إلا الرفض مؤكداً على أن "مصطفى كامل" سوف يلقي خطبته دون وقوع ما يعكر صفو الأمن ويخل به، وهو ما حدث بالفعل، وكذلك تكررت مواقفه الشجاعة مرة أخرى أثناء توليه منصب وكيل نظارة الحقانية حينما حاول اللورد "كرومر" مقابلته من أجل مفاوضته ليوافق على ترشيحه رئيساً للنظار (رئيساً للوزراء) ، فما كان منه إلا الرفض لتلك المقابلة حتى لا يساوم على القضية الوطنية في مقابل هذا المنصب الكبير الذي كان يسعى له الكثيرين .
- وفي أعقاب الرحيل المبكر للزعيم "مصطفى كامل" أختير "إسماعيل صبري باشا" على رأس اللجنة المشكلة لتشييد أول تمثال لتخليد ذكرى ذلك الزعيم الوطني

، وليصبح أول تمثال يقيمه الشعب المصري لتخليد زعيم وطني مصري منذ آلاف السنين ، ولتستمر مواقفه المشرقة حيث كان أعتزاله الخدمة قبل بلوغه سن المعاش بسنوات بمثابة رسالة أحتجاج صامتة على حادثة "دنشواي" ومحاكماتها الجائرة التي تمت عام 1906م لتنم عن مدى ظلم المستعمر وأعوانه ، وبخاصة مع شغله في تلك الأثناء لمنصب وكيل وزارة الحقانية في تلك الفترة.


- هذا هو السياسي الوطني "إسماعيل صبري"، أما عن الشاعر "إسماعيل صبري" فقد ظهرت موهبته الشعرية منذ نعومة أظفاره حيث ظلت تنمو وتزدهر طوال حياته لتصبح شاعريته ووطنيته عنوان مجده وموضع فخاره وكان معاصروه يلقبونه بلقب "شيخ الشعراء" و"اعترف له بفضله ذلك في مجال الشعر زملاءه من الشعراء العظام "شوقي"

و"مطران" و"حافظ " وغيرهم ، فنجد شاعر النيل "حافظ ابراهيم " في رثاءه يقول :
لقـد كنت أغشـاه في داره وناديه فيها زها وازدهر
وأعرض شعري على مسمع لطيف يحس نبو الوتـر
كما رثاه أمير الشعراء "أحمد شوقي بك" بأبيات تنم عن مدى تقديره لزعامته في الشعر من قوله :
أيام أمرح في غبارك ناشئا تهج المهار على غبار خصاف
أتعلم الغايات كيف ترام في مضمار فضل أو مجال قواف
- وتتجلى في شعر "إسماعيل صبري" الوطني والقومي روح الحب الخالص للوطن مع الأستمساك بمعاني العزة والكرامة والشمم والإباء ، وكذا تعبيره عن شعور مواطنيه وترجمة آمالهم وآلامهم حيث يتحدث في شعره عن الحرية والإستقلال والمطالبة بالدستور والدعوة إلى ضرورة إصداره ليحمل آمال المصريين في الجلاء والديمقراطية ، كما نبني العديد من القضايا الوطنية حيث تناول حادث "دنشواي" وكلك قضية الوحدة الوطنية ما بين عنصري الأمة

، وتنديده بالأحتلال والظلم والإستعمار ورصده للأمتيازات الأجنبية ومظالمها والتغني بعظمة مصر وتاريخها ، كما لم يفته رثاء الزعماء كمصطفى كامل وغيرها من موضوعات وطنية تنم عن مدى أهتمامه بالقضايا القومية والوطنية .
- ولم يخلو شعره من بلاغة وموسيقى بالرغم من غرض شعره الأساسي من خدمة القضايا الوطنية ، فيؤثر عنه بيتان شهيران لما يحويان من الجناس حيث يقول :
قرعت الباب حتى كل متنى فلمـا كلمتنـى كلمتنـى
فقلت لها أاسماعيل صبري فقالت لي إسماعيل صبرا
- هذا هو "إسماعيل صبري" الذي أرتبط اسمه بالإسكندرية محافظاً وطنياً لا عميلاً خائناً لقضايا وطنه حيث خدم قضيته بمواقفه وكلماته المنظومة مجدداً في الشعر العربي فعاش كريم الخلق ، صادقاً أبياً وفياً لوطنه وأصدقائه معتزاً بكرامته صريحاً محباً للحق ، بعيداً عن الزهو والخيلاء، وظل على هذه الأخلاق الكريمة حتى توفي في 21 مارس عام 1923م ليخلف كنوز من الشعر والوطنية ، والفضائل النفيسة أضفت على اسمه هالة من المجد والخلود، فأستحق أن تسطر له الإسكندرية المدينة التي عاش فيها حاكماً وطنياً متواضعاً صفحة من صفحات تاريخها .

الأربعاء، أبريل 27، 2011

كتاب سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء الثامن ( كشف اللثام )


يُرَدد كثيرون في واقعِنا المصري مُلاحَظَتين يكادُ يكون من المُستحيل نفي وجودِ أيٍ منهما وهما : أولاً انتشار معالمِ التدينِ في واقعِنا مقارنةً بحالِنا منذُ قرنٍ من الزمانِ . والمُلاحظةُ الثانيةُ هى انتشارُ التوترِ وعُنف السلوك وعدوانيتهِ وتراجُع دماثة الأخلاق في التعامُلِ بين أفرادِ المُجتمعِ . ومن البديهي أن هناك تناقُضًا واضحًا بين طبيعةِ المُلاحظتين . فإذا كانت غلبةُ معالمِ التدين على الناسِ والسلوك والمُفرداتِ والمُناخِ الثقافي العامِ لم تمنع من تردي مستويات الخُلق والسلوك والمُعاملات بين الناسِ، فإن ذلك يعني بداهةً أن التدينَ (أو بالتحديد "هذا الفهم للتدينِ") ليس في صالحِ المُجتمعِ . ولا يدحض ذلك، أن هناك العديدِ من الأمثلةِ الأخلاقيةِ الرائعةِ بين المُتدينين (بهذا الشكل من التدين)؛ ولكنني أتكلمُ عن ظاهرةٍ عامةٍ وليس عن حالاتٍ فرديةٍ . والمخرجُ من هذا التناقُضِ هو في الاعتقاد بأن ما يُسمى بالتدينِ ليس تدينًا، وهذا ما أعتقده يقينًا وعلى أساسٍ من طولِ مُتابعةٍ ودراسةٍ وتحليلٍ . فالذي انتشر في واقعِنا هو الزي النسائي المُسمى بالزي الإسلامي
واللحى وخواتم الزواج البيضاء فى أصابع الرجال وعلامة السجود على جباه الرجال والعديد من المؤثراتِ المكتوبةِ والصوتيةِ والسمعيةِ التي تحملُ زخمًا من "ذهنيةِ الطقوس" . وإذا كان من حق البعض أن يعتبر أن ذلك تدينًا، فإن من حق البعض الآخر (مثل كاتب هذه السطور) أن يزعُم أنه لا علاقة لكل تلك المعالمِ والصخبِ والمظاهرِ بالتدين . فالتدينُ يتعلق بالخُلُق الرفيع وأن يكون الإنسانُ مُفيدًا للمُجتمعِ وللآخرين ومُتسمًا بصفاتٍ أخلاقيةٍ راقيةٍ مثل العطاء والتسامُح
والعون للآخرين والإخلاصِ في العملِ وإتقانهِ أما المعالمُ السابق ذكرها فظواهرٌ ترجع عندي لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وإجتماعيةٍ وتعليميةٍ وثقافيةٍ ونفسيةٍ من الميسورِ رصدها . وبحسبِ منطقِ المدرسةِ الوضعيةِ في الفلسفةِ (أوجست كونت)
فإنه ليس من حقِ البعض أن يقول إنه "بمزيدٍ من هذا التدين سوف تستقيمُ الصورة"، لأن التجربةَ العملية تؤكد أنه بمزيدٍ من "هذا التدين" قد تزداد الصورةُ استغراقًا في ذاتِ الملامحِ من تدني الأخلاقِ العامة وذيوعِ العُنف والغضب في شتى صورِ السلوكِ . والحقيقةُ أن منبعَ "هذا التدين" يأتي من عدةِ مصادرٍ : فأكثرُ من نصفِ قرنٍ من عدمِ المُشاركةِ السياسيةِ أو من المشاركةِ السياسيةِ الصوريةِ هي من مصادرِ "هذا التدين" الصوري (والطقوسي المظهري) وأكثر من نصفِ قرنٍ من التردي الاقتصادي وتآكل الطبقة الوسطى هو من منابعِ "هذا التدين" ... وخروجُ المنظومةِ التعليميةِ المصريةِ عن سياقِ العصر وهبوطُها لمستوياتٍ متدنيةٍ من الانعزالِ عن التقدمِ والاتسامِ بكل عيوبنا الثقافيةِ وتحرُكنا الحثيث تجاه التقوقعِ والتعصُبِ وعدمِ تفعيلِ العقلِ النقدي كانت ولا تزال من أهم منابع "هذا التدين" ... كما أن أكثر من نصفِ قرنٍ من الأوليجارشيات المتنوعة (أي تحكُم أقلياتٍ مُختَلفةٍ في قيادة المُجتمع سياسيًا واقتصاديًا) هي كذلك من منابع "هذا التدين" ... ويُضاف لكل ما سبق أن ما حاقَ بغير قليلٍ من مكونات المؤسسةِ الدينيةِ من تراجُعٍ في النوعيةِ والمستويات وكذا غزوها برياحٍ فكريةٍ هَبَّت عليها وعلينا من الشرق
كانت (بنفس الدرجة) من منابعِ "هذا التدين"، ويمكن أن يضاف أن خلو الساحة من إمكانية الانتماء لأي شيء غير "هذا التدين" قد أتت "لهذا التدين" بأعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمـع- فالانتماءُ "لهذا التدين" هو الملاذ السيكولوچي لمن ليست أمامه جهةٍ أُخرى لينتمي لها (أمل أو طبقة أو طموح أو حزب أو واقع أفضل أو نموذج ثقافي مُعين) .

كلُ إنسانٍ في الكونِ (باستثناء ثُلةٍ صغيرةٍ من الناسِ تنتمي لأفكارِها هى ولمبادئهـا ولنسقهـا القيـمي) في حاجةٍ لانتماءٍ ما . ويأخذُ هذا الانتماءُ في المُجتمعاتِ المُتقدمةِ ذات المستويات الحياتية الأرقى والأرفع أشكالاً عدة . فهُناك من ينتمي لنجاحاتهِ الخاصة وهُناك من ينتمي لحزبٍ سياسي وهُناك من ينتمي لطبقةٍ مُعينة بثقافتها ونسقها القيمي وهناك من ينتمي لتيارٍ فكري أو ثقافي مُعين . ومن خلالِ هذا الانتماء يُحقق الإنسان إرضاءًا واكتفاءًا لازمين لكل إنسان من بني البشر. ويُمكن استعمال هذا التفسير لفهم إنتماءِ المصريين للحركةِ الوطنية التي قادها سعدُ زغلول منذُ قُرابة تسعين سنة
، كما يُمكن أن تُفَسِر لنا علاقة مُعظَم الشعب المصري بالمشروع الناصري منذُ عقودٍ قليلةٍ
. ففي الحالتين كانت هُناك "جبهةٌ" قابلةٌ لجذبِ قطاعاتٍ واسعةٍ من المُجتمعِ لها وللارتباطِ بها، بصرفِ النظرِ عن مدى نجاح كل منهما في الوفاءِ بعهودهِ وتحقيقِ شعاراتهِ .

عند اختفاء هذه "الجبهات" التي تجذبُ اهتمام وطاقة وولاء وارتباط مُعظم أبناء وبنات المُجتمع، فإن الساحة تكون مفتوحة على مصراعِيها لانتماءٍ آخرٍ هو من جهةٍ الأكثر جاذبية ومن جهةٍ ثانية الأكثر إراحة ومن جهةٍ ثالثة فإن اتسامَه بالعمومياتِ وعدم الدقة في التحديدِ يُناسب المتوسط العام للتكوينِ الثقافيِ لأبناءِ وبناتِ المُجتمع . فبينما يتطلب الانتماءُ (مثلاً) للعقيدة الماركسية درجة وعي وثقافة وذكاء أعلى من المستوى المتوسط
فإن الانجذابَ لجبهةِ الشعاراتِ الدينية لا يتطلب ذلك .

وخُلاصةُ الرسالة هُنا أن جاذبيةَ الشعاراتِ الدينيةِ (والتي هى في اعتقادي سياسية محضة وليست دينية) إنما ترجع لتآكلِ وخفوتِ أدوارِ جبهاتٍ أُخرى تعملُ عملها في مُجتمعاتٍ غير مُجتمعنا كما أنها كانت أكثر فاعلية في مراحل أُخرى من مراحلِ تجربتنا المُعاصرة خلالَ القرنين الأخيرين .

ومن الجديرِ بالتوضيح أن التدينَ الطقوسي (وأكبر الأمثلةِ عليه ما هو معروض في كتابات رجالٍ مثل ابن تيمية
وبن قيم الجوزية وفي كتابات وتطبيقات محمد بن عبد الوهاب والتجارُب المُستقاةِ من مدرستهِ) يشتغلُ على "خارج الإنسان" وليس على "داخل الإنسان" . فهو يشبه نظام المرور الصارم الذي يقولُ للناسِ ما الذي يمكن أن يفعلوه وما الذي ينبغي ألا يقترفوه، وهى مدرسة في التفكير قد تُناسب الجماعات البدائية ذات الحظ النحيل من التعليمِ والثقافةِ والإدراك، ولكنها لا تُناسب المُجتمعات المُعاصرة المُتحضرة والمُتمدنة . وتبدو الجماعات المحكومة بهذا النظام الصارم (مُنضبطةً) "من الخارج"، ولكنها "من الداخل" تكونُ عامرةً بالأخطاءِ والانحلالِ . فهى تُعامل الناس كحيواناتِ السيرك المُدربة بالعصا والعُنف. أما التدينُ بالمعنى الذي يفهمه على سبيل المثال المُسلمون من المتصوفة

والمسيحيين والبوذيين، فإنه يشتغل على "الداخل" ويهتم بتغليب الطبيعة الخيرة في النفس البشرية على جوانب الطبيعة السيئةِ والعنيفةِ والشريرةِ والعدوانيةِ في ذات النفس البشرية . وليس من مُصادفة أن تكونَ المُجتمعات الأكثر صرامة بين المُجتمعات الإسلامية في الضبطِ والربطِ الديني "من الخارج" هى أكثر هذه المُجتمعات انشغالاً (كلما أُتيحَت الفُرصة) بالجنس والنساء واللهو والعبث
، وكُلها مما يحاول النظام ضبطهُ "من الخارج"، ولكن نظرًا لفشله في التعامُل مع "الداخل" فإنه يخلقُ حالةً من الثُنائيةِ والازدواجية وانفصال ما يُقال في العَلَن عما يُفعَل خفيةً بشكلٍ قد لا يكون له مثيل مُشابه في العالم بأسرهِ .

ويعتقد البعضُ في الدولِ التي استشرى فيها "التطرفُ" الذي يستمد شعاراته من الدين الإسلامي أن "فكرًا معينًا" هو الذي يولِّد هذا التيار، وأن الظروفَ المعيشيةِ ليست هي منبع هذا التيار . ويعتقد هؤلاء أنهم على حقٍٍ عندما يضربون الأمثال بمجتمعاتٍ فقيرةٍ إلاَّ أن "تيارَ التطرفِ" (والذي يسمي نفسه بالإسلامي) لم يتعاظم فيها . وفي المقابل، فإن البعض يعتقد أن الظروفَ المعيشيةِ هي "المفرخةُ" الأساسية لفكرِ وتيارِ وحركةِ التطرفِ . ويعتقد أصحابُ هذه النظرة أن الظروفَ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ هي المسئولُ الأول عن المناخِ الذي يُنبت تيار التطرف .



وعادةً ما تكون حكوماتُ العالمِ الثالثِ (حيث يوجد التيار الأصولي المسمى بالحركة الإسلامية) من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترى أن "التطرفَ" فكرةٌ خبيثةٌ يروج لها البعضُ بدوافعٍ ولأغراضٍ سياسيةٍ وأنها لم تنتج عن الظروفِ المعيشية . وعادةً ما يكون المثقفون بوجهٍ عام وأولئك الذين يعطون العناصر الاجتماعية الوزن الأكبر من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترجع التطرفَ للظروفِ المعيشيةِ .

وإذا كنت قد أوليت موضوع الأصولية الإسلامية آلاف الساعات من وقتي وقراءاتي ومتابعتي بما في ذلك المتابعةِ التي يصح أن توصف بأنها "متابعةٌ ميدانيةٌ" – فإنني أَعطي نفسي الحقَ في الاجتهادِ في هذه المسألةِ وأقول إن الحركةَ الأصوليةِ الإسلامية نتجت واستشرت بفعل العاملين الذين يعتقد فريقٌ من المحللين أن أحدهما هو المسئول الأوحد بينما يعتقد فريقٌ آخر أن ثانيهما هو المسئول الأوحد . فالحقيقة – في اعتقادي – أننا يجب أن نميِّز بين "وجود فكر الأصولية الإسلامية" وبين "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" انتشارًا واسعًا في مجتمعٍ من المجتمعاتِ .

أَما "وجود فكر الأصولية الإسلامية" فيرجع لوجودِ المفكرين الذين يؤمنون بالمرجعيةِ الدينية (الإسلامية في هذه الحالة)
كأساسٍ لتنظيمِ المجتمعِ بكل ما تعنيه عبارةُ "تنظيمِ المجتمعِ" من معانٍ ودلالاتٍ . ومما لا شك فيه أنه من الطبيعي أن يوجد في أي مجتمعٍ توجد به أغلبيةٌ سكانيةٌ مسلمة "فكرٌ" يرى أن إصلاحَ حالِ المجتمع وتنظيم شئونه ينبغي أن يكون على أساسٍ من المرجعية الدينية . ولكن من الطبيعي أيضًا أن يكون هذا الفكرُ مجردَ "تيارٍ واحدٍ" ضمن تياراتٍ فكريةٍ أخرى في المجتمع ومن الطبيعي أيضًا أن يكون تيارًا محدودًا إلى جوارِ التياراتِ الأخرى التي تنتمي للحاضرِ والمستقبلِ . أما "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ مجتمعٍ معينٍ فأمرٌ لا يرجع إلاَّ للظروف المعيشية أي للعواملِ الاقتصاديةِ / الاجتماعيةِ والتي يكون تخلفُها داعيًا لأصحابِ الفكرِ المسمى بالإسلامي لكي يروجوا لنظريتهم بصفتها "المنقذ" من براثنِ الواقعِ بما يتسم به من ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ .

وفي اعتقادي أنه من الطبيعي أَن تُكرر حكوماتٌ عديدةٍ في دولِ العالمِ الثالثِ أن التطرفَ ليس إلا ورمًا فكريًا خبيثًا وأنه لا يرجع للظروفِ المعيشيةِ، لأنها ليست بوسعها إلا أن تقول ذلك، لأن اعترافها بأن الظروفَ المعيشيةِ هي التي ولدت وأنتجت ودعمت انتشار هذا التيار سوف يجعلها تعترف في نفسِ الوقتِ بفشلها في إدارةِ المجتمع ذلك الفشل المتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذي في ظله أمكن لفكرِ الأصوليةِ (المحدود والمتواضع على المستوى النظري والفكري) أن يقيض له الذيوعَ والشيوعَ بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمع .

وفي اعتقادي، أن وجودَ الفكرِ الأصولي في حد ذاته ليس بذي خطرٍ كبيرٍ . فالفكرُ الأصولي الإسلامي يفتقد لأيةِ قدرةٍ على الانتشارِ وجذبِ الأتباعِ والمؤمنين به بمعزلٍ عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إذ أنه (بكل المعايير) فكر بسيط تجاوزه الزمنُ والعلمُ . وأنا لا أقصد هنا "الدين" وإنما "فكر الأصوليين" وهو عمل بشري لا قدسية له ولا يملك أصحابُه أن يقولوا إنه هو "الدين ذاته" وإنما هو "فهمهم الخاص للدين" .

وفي اعتقادي أن الخطورة تكمن كلها في الظروف المعيشية . ففي ظلِ ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ تخلفت فيها الدولةُ عن تقديمِ أساسياتِ الحياةِ من الرعايةِ الصحيةِ والتعليمِ وسلسلةِ الخدماتِ الأساسيةِ لوجودِ حياةٍ كريمةٍ
، في ظلِ ظروفٍ من هذا النوع يتقدم الأصوليون بسلسلةٍ من الخدماتِ في هذه المجالات ومعها "فكرهم الأصولي" وكأن ما يقدمونه من خدماتٍ هو جزءٌ لا يتجزأ من فكرهم الأصولي – والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين ما يقدمونه من خدمات طبية وتعليمية ومجتمعية وبين فكرهم الأصولي – وإنما هي مكيافيلية سياسية في المقام الأول تلك التي جعلتهم ينتهزون فرصة تردي الظروف المعيشية ويقدمون سلسلة من الخدمات مع تقديم موازٍ لفكرهم الأصولي .

وفي اعتقادي أن مواجهةَ حركاتِ التطرفِ بالأدواتِ والوسائلِ الأمنيةِ (رغم ضروريتها وأهميتها) لا تقدم أيَ حلٍ للمشكلةِ من أساسِها . فالوسائلُ الأمنية هنا تشبه من يقطع فروعَ الشجرةِ مع بقاءِ الجذعِ والجذورِ . وقد يكون قطعُ الفروعِ في أوقاتٍ ومراحلٍ معينةٍ ضروريًا لأبعدِ الحدودِ حتى لا يفقد المجتمعُ ذاته ويسقط في يد الأصوليين الذين لا فرصة معهم لإقامةِ مجتمعٍ مدني أو عصري أو متقدمٍ من أية وجهة نظرٍ ناهيك عن فقدان الأمل نهائيًا في الحرية والديموقراطية وحقوق الآخرين .

ولكن من المؤكد أن التعامل بالوسائلِ الأمنيةِ فقط يسمح بنكساتٍ لا يمكن تجنبها بشكلٍ مطلقٍٍ . وأعتقدُ اعتقادًا جازمًا أن وضعَ الدولةِ لخطةٍ محكمةٍ لكي تقوم بكلِ الخدماتِ التي ينتظرها أبناءُ وبناتُ المجتمعِ منها هو الوسيلةُ الوحيدةُ لحصرِ تيارِ الأصوليةِ في حدودِ الاهتماماتِ الفكريةِ (المتواضعة للغاية) لعددٍ قليلٍ من أبناء المجتمع . وأعني هنا أن سحبَ البساطِ من تحتِ أقدامِ الأصوليين
عن طريقِِ قيامِ الدولةِ بما يقدمه الأصوليون من خدمات يجعل ثمانية أو تسعة من كلِ عشرةِ أشخاصٍ ممن كان من المحتمل انجذابهم لدعوةِ تيارِ الأصوليين ينصرفون عن هذا التيار وشعاراته الجذابة والتي لا تستند على أي فكرٍ عميقٍٍ أو تجاربٍ ناجحةٍ .
وسيبقى واحدٌ أو اثنان تنطلي عليهما تلك الأفكارُ البسيطة والتي لا أساس لها من المنطق أو التجربة، وهو أمر طبيعي، فالخطورة في جذب الاعداد الكبيرة (بفعل الظروف المعيشية) وليس في وجود جيوب صغيرة من المؤمنين بفكر لا يملك بدون الظروف المعيشية المتردية أن يجذب إلا أعدادًا صغيرة من أصحاب الاستعداد الشخصي للميل لأفكارٍ انفعاليةٍ تميل للشطط دون أن يكون لها حظ من العلم أو المنطق أو التجربة الناجحة .

الجمعة، أبريل 22، 2011

صفحات من كتاب سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى ( وهم الاحزاب الدينية )



هناك أكثر من سببٍ منطقيّ وعقلانيّ ووجيهٍ لكي نتجه من خلال التعديلاتِ الدستوريةِ المرتقبة للنصِ الصريحِ على عدمِ جواز تأسيسِ الأحزابِ السياسيةِ على أُسسٍ دينيةٍ . فهناَك أولاً اعتقاد الكثيرين أن ما يضفي كثيرون عليه هالةً من التقديسِ وأعني "الفقه الإسلامي" هو – أي التقديس – أمرٌ لا أساس أو مبرر أو تسويغ له . فالفقه الإسلامي عملٌ بشريٌّ محض . ولعله من المفيد أَن أُشير هنا لأكثر التعريفاتِ استقرارًا وانتشارًا للفقه الإسلامي وهو التعريف الذي يقول : (إن علمَ أصولِ الفقه هو علمُ استنباطِ الأحكامِ العمليةِ من أدلتها الشرعية) . ولا نحتاج لأن نصرف كثير جهدٍ في إثباتِ أن أية "عمليةِ استنباطٍ" هى عملٌ بشري بحتميةِ اللغةِ والمنطقِ . كذلك فإن تعاقبَ الفقهاءِ السنيين الأربعة الكبار (وأتحدث هنا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) وقد عاشوا وماتوا خلال أقل من قرنين وتعاصر منهم الثاني والثالث على الاقل ... إنما يؤكد أننا بصددِ عملٍ بشري، وإلاَّ فكيف يجرؤ "مالك" على وضعِ مذهبٍ فقهيّ مختلفٍ عن مذهبِ أبي حنيفة، لو كان العملُ الذي قام به أبو حنيفة أي شيء عدا كونه عمـلاً بشريًا ؟ ... ناهيك عن أن ثالث فقهاء السنة الأربعة الكبار كان له مذهبان : مذهبه للعراق ومذهبه لمصرَ ... وهو أمر له دلالات بالغة الوضوح، وأهمها أننا بصدد عملٍ بشريٍّ إنسانيٍّ محضٍ (من ألفه إلى يائه) .
وبالتالي , فإن المباديء التي يعتقد البعضُ أنها مباديء الإسلام في نظم الحكم ما هي إلاَّ "اجتهاد" ... وهذا الاجتهاد هو ما ُسمى بالأحكام السلطانية ... ويعرف المتخصصون أن الحكام (سواء حكام حقبة بني أمية أو حكام الحقبة العباسية) كانوا وراء معظم ما كُتب عن الأحكام السلطانية ليضمنوا أن ما سيكتب سيأتي مواتيًا لرغباتهم وفهمهم هم . وهو أمر تكرر في مجتمعات أخرى (وأشير هنا لعلاقة آراء وكتابات المفكر السياسي البريطاني هوبز
بالعرش البريطاني أو بالتحديد بأهواء العرش البريطاني في مسألة تكييف العلاقة بين الحاكم والمحكومين) .

وهكذا , فإن وجودَ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ هو أمرٌ غير منطقي , حيث إن المبادىء التي يُقال إنها "مذهب الإسلام في شئون الحكم" لا تعكس إلا فهم بشر مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون – والأمر كله عمل بشري . وخلاصة القول هنا , أن الإسلامَ لم يقم بوضعِ نظامٍ شاملٍ كاملٍ لقواعدِ ونظم الحكم تصلح لأن تكون بديلاً عن القواعد الدستورية التفصيلية المعاصرة , وذلك لأن هذه ليست هي مهمة أو غاية الإسلام . فالذي يعيب على الإسلام خلوه من النظام السياسي كمن يعيب على الإسلام أنه لم يقدم نظرية متكاملة في علم النفس أو في علم الاجتماع ... أو في علوم الإدارة (!!) . والواقع، أن الإسلام جاء بمجموعةٍ عامةٍ من القواعد الكلية التي من الأفضل والأنفع الاستهداء بها عند وضع القواعد التفصيلية . أما هذه القواعد التفصيلية ( مثال : كل ما جاء بكتاب "الأحكام السلطانية " للماوردي
وبعشرات الكتب المماثلة في الموضوع والعنوان) فإن ذلك عملٌ بشريٌّ محض يعكس اجتهادًا إنسانيًا يترجم هو أيضًا القدرات العلمية والعقلية والمكونات الثقافية ودوافع كاتبها؛ كما يعكس حقائقَ الزمانِ والمكانِ .

وما أُريدُ أن أُركز عليه في هذا الفصل هو أن هناك منطقًا لم يسلط عليه كثيرون الضوء من قبل وهو جدير بنسف وجهةِ النظر التي تدعو لتأسيسِ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيـةٍ ... فلو بدأنا من أن مجملَ القواعدِ التي يسميها البعضُ "نظم الحكم في الإسلام" ما هى إلا استنباطات لرجال عاشوا منذ أكثر من ألف سنة، وأعملوا فكرهم وعقولهم وحاولوا تقديم القواعد التي يظنون أنها ستؤدي (في زمانهم ومكانهم وعلى قدر فهمهم وعلمهم وظروفهم) لإقامةِ نظامِ حكمٍ يعبر عن القيمِ الأساسية التي يدعو لها الإسلامُ ويتوخى شيوعها وذيوعها في المجتمعات الإسلامية – إذا بدأنا من هذا المنطلق، فإننا نكون قد اتفقنا على أن ما يسمى بنظم الحكم في الإسلام هو تعبير عام (غير دقيق) عما كتبه فقهاءٌ مسلمون منذ أكثر من ألف سنة في محاولة (جادة ومحترمة) منهم لإيجادِ نظمِ حكمٍ في مجتمعاتهم تتماشى وتنسجم وتتوافق مع مباديء وقيم الإسلام .

ومعنى هذا، أننا حتى لو سلمنا بأن مؤلفي كل ما وصلنا من كتابات المسلمين الاقدمين عن قواعد ونظم الحكم هى كتابات قيمة وتستلهم "روح الإسلام" (وهذا أقصى ما يستطيع أي صاحب عقل أن يصل إليه) فإن على الجميع أن يؤمنوا بأنه نظرًا لتقاعس المسلمين (لمدة تبلغ الآن قرابة الألف سنة) عن التجديد والإضافة لكتابات الفقهاء الاقدمين في مجال الأحكام السلطانية (وهو ما يعكس من المصطلحات المعاصرة نظم وقواعد الحكم الدستورية والسياسية) ... فإن أي حديثٍ عن الاقتباس من هذه المؤلفات – كما وضعت منذ ألف سنة - قبل حدوث نهضةٍ فقهيةٍ إسلاميةٍ معاصرةٍ تدلي بدلوها في هذا المجال (مجال الأحكام السلطانية بالتعبير القديم الذي يجب أن يتبدل بمصطلح يعبر عن حقائق الزمن) إنما سيكون مثل من يفتح كتابًا وضع في القرن العاشر الميلادي في الطب
والصيدلة ويريد أن يؤسس عليها نظامًا ومؤسسات طبية معاصرة !! ... فإن ذلك سيؤدي – لا محالة – لموت كل المرضى !! وكما قلت في مواضعٍ أُخرى , فكما أن الإسلامَ تكلم عن الدواب والأنعام كوسائل انتقال (ولا عيب في ذلك) فقد تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان) وأيضًا لا عيب في ذلك , وإنما العيب أن يتمسك إنسانٌ بالدوابِ كوسيلةِ انتقالٍ
(كما أراد الوهابيون بقيادة فيصل الدويش في معركتهم مع الملك عبد العزيز
في عشرينيات القرن العشرين عندما رفضوا كلَ مظاهرِ المدنيةِ والحداثةِ مثل السيارة والتليفون والراديو) . وفي اعتقادي أن الذي يتمسك بمصطلح الشورى (وهو مصطلح بسيط يعكس حقائق العصر والجغرافيا ودرجة التقدم) يكون كمن يتمسك بأن وسائل المواصلات يجب أن تكون هى الدواب والأنعام (لأن الإسلام تكلم عن الدواب ولم يتكلم عن السيارة والقطار والطائرة) .ولكن البعض قد يقول "ولماذا لا نستطيع نحن كمسلمين تأسيس أحزاب سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ بينما يوجد العديد من الأحزاب السياسية التي توصف بالمسيحية في أوروبا ولعل أشهرها الحزب الديموقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه السيدة مركيل التي تحكم ألمانيا اليوم ؟
... وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات دساتير كل الدول التي بها أحزابٌ مسيحية وأيضًا مباديء هذه الأحزاب (وأهمها الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني) ولا توجد كلمة واحدة بتلك الدساتير و المباديء تشير إلى أن هذه الأحزاب ستحكم بمباديء دينية أو بمباديء غير قواعد الدستور ... بل إنها (رغم تسميتها بالمسيحية) لا تحمل من هذه الصفة إلا الاسم . فهى أحزاب تمثل أجنحة محافظة تستلهم القيم من المسيحية ولكنها حاكمة ومحكومة ومنضبطة بقواعد الدستور والقوانين الوضعية . ولا أظن أن أنصار حركة مثل الإخوان المسلمين في مصرَ وغيرها يمكن أن يعلنوا أن هدفهم من تحويل حركة الإخوان المسلمين
لحزبٍ سياسيّ هو أن يصلوا لشكلٍ مماثلٍ للحزبِ الديموقراطي المسيحي ؟ (!!) .

وتبقى جزئية هامة وهى اعتقادي الجازم أن الأحزابَ السياسية التي تسمي نفسها بأحزابٍ إسلاميةٍ هى (أحزاب سياسية محضة)، بلا فارق بينها وبين غيرها : فكلهم كيانات سياسية صرف تحاول الوصول للحكم (وهو أمر مشروع) إلا أن البعض يلعب على أوتار عاطفية عندما يسمي نفسه بالإسلامي ... وما هم إلا محض حركة سلفية تعيش على فهم واستنباطات بشر عاشوا منذ أكثر من ألف سنة وتعاملوا مع مسائل عصرهم وزمانهم وحاولوا إيجاد الحلول لها ... وهى حلول كانت ابنة الزمان والمكان ... ولا أدل على ذلك من وضع محمد بن إدريس (الإمام الشافعي)
لمذهب جديد عندما جاء لمصر (لأن مذهبه الأسبق كان مناسبًا لبيئة أخرى هى العراق) ... والكارثة أن يأتي بشر يتميزون بالكسلِ والعطالةِ الفكرية إذ أنهم لم يجتهدوا لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم لمدة ألف سنة، ولكنهم يريدون أن يعيشوا عالةً على فهمِ بشرٍ آخرين حاولوا واجتهدوا منذ عشرة قرون .
وفي اعتقادي أن الحركاتِ التي تسمى بحركات الإسلام السياسي (ومنها حركات الإخوان المسلمين)

تعاني (دون أن تدرك) من إشكاليات فكرية هائلة وذات آثار بالغة القوة (والسلبية) . فالإسلامُ تتطرق لمباديء عليا عن العدلِ والإنصافِ والمساواةِ وفضائل العلم والذين يعلمون (في مقابل : الذين لا يعلمون) بما يمكن أن نسميه "مباديء كلية" (أو ماكرو) . ولكنه (ولكي يبقى صالحًا لأزمنة وأمكنة غير أزمنة وأمكنة فجر الإسلام) لم يأت بأحكام تفصيلية ... أي على مستوى الجزيئات ودقائق التفاصيل والآليات (أي على مستوى الميكرو) . وفي ظل هذا الوضع (الذي لا يقبل بتوصيفنا هذا له أتباعُ حركاتِ الإسلامِ السياسي) فإنهم يبحثون – بجهد جهيد – عن نظام متكامل (عدا المبـاديء الكليـة) ... ونظرًا لعدم وجود هذا النظام المتكامل فإنهم يتمسكون بذات المواضيع (مثل : حرمة فوائد البنوك والنظام العقابي وغيرهم) . والأسلم (والأكثر جلبًا للصلح المفقود بينهم وبين "الإنسانية") أن يعترفوا بأن الإسلام جاء كدينٍ سامٍ وليس ككتابِ اقتصاد أو سياسةٍ أو اجتماعٍ أو علمِ نفسٍ أو كيمياءِ أو طب . ولكن كيف لهم أن يلعبوا لعبة السياسة بعد أن يعترفوا بهذا الاعتراف الذي ندعوهم إليه ؟ ... إنهم إن فعلوا تخلوا عن أقوى مواد الدعاية السياسية التي بأيديهم كما أنهم سيكونون مطالبين بتقديم برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي عدا مسألة "تطبيق أوامر الله" و"الإسلام هو الحل" و"البركة" ... وما لا يوجد لديهم سواه من شعارات عامة مجردة ما يهبط بها الإنسانُ المدقق لمستوى الحياة ومعمل العلم والتجربة والفحص والتدقيق حتى يجد أنها بالونات هائلة ليس بداخلها إلا الهواء : وهو هواء سياسي محض لادين فيه بأي شكل أو أي قدر .

وتبقى مسألة "البركة" ... فكثير من المسلمين الطيبين البسطاء يعتقدون أن وجود أشخاص على رأس المجتمع يحكمون باسم الإسلام هو أمر كفيل بتحقيق الخير والبركة. ولهؤلاء أكرر : إن المسلمين الأوائل (الصحابة من المهاجرين والأنصار) قد هزموا في معركة (موقعة) أُحد وفي وسطهم النبي.
ولو كان النصر (أو النجاح أو التقدم أو الخير) يتحقق بالبركة، لانتصر المسلمون يوم أحد وبين ظهرانيهم البركة كلها (الرسول) . ولكن هزيمة المسلمين (الصحابة من المهاجرين والأنصار ووسطهم النبي) جاءت لتؤكد أن الله كما خلق الخلق، فقد خلق قواعد وقوانين سير الكون (ومنها قوانين الطبيعة) ... ومن بين هذه القوانين : أن من يحارب بدون مؤهلات النصر العلمية والمادية الصرف لابد وأن يهزم (بهذه القوانين انتصر المسلمون بقيادة طارق بن زياد عند غزوهم الأندلس وبذات القوانين انهزم المسلمون بعد عدة عقود في معركة "بو" في جنوب فرنسا
... ولا دخل للبركة في النصر الأول ... ولا دخل للبركة في الهزيمة الثانية) ... وهكذا، فإن من يظن أنه سيحكم باسم الإسلام وأن البركة ستحل (لأنه يحكم باسم الإسلام) فسوف يأخذ النتائج (في كل المجالات) مثل نتيجة معركة (موقعة) أُحد ... فالنصر والتقدم والحكم الناجح يحدث – فقط – بالعلم وحُسن الإدارة وهى كلها أقانيم إنسانية لا دين ولا ملة ولا جنسية لها
. وهى أقانيم لا يوجد دليل واحد على أن من يريدون أن يحكموا مجتمعاتهم باسم الدين يتحلون بها ... بل هناك أدلة وأدلة (مستقاه كلها من خلفياتهم ومحصولهم المعرفي وصلتهم بعالمية العلم والمعرفة وقيم التقدم) على أنهم لا ... ولا يمكن أن يحوزوها .