الخميس، أبريل 28، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - شارع اسماعيل صبرى


- مع التطور الذي شهدته الإسكندرية خلال النصف الأول من القرن العشرين وضع مشروع التهطيط العام لتحسين المدينة عام 1921م، قام بوضعه كبير مهندسي بلدية الإسكندرية حينئذ "ماكلين"، وكان التخطيط يشمل العديد من المشروعات الحضارية الطموحة والضرورية لكي تتلاءم المدينة مع مستحدثان العصرالحديث وتستطيع استيعاب الزيادات المطرودة في عدد سكان المدينة حينئذ ، وكان من ضمن تلك المشروعات العملاقة مشروع إنشاء طريق الكورنيش بالإسكندرية

، والذي بدأ العمل به حتى تم الإنتهاء منه بالكامل ليفتتح رسمياً عام 1934م في عهد محافظ الإسكندرية "حسين صبري باشا"

والذي تم في عهده (1925 - 1937م) إنجاز العديد من المشروعات الهامة الأخرى كإنشاء مبنى "محطة مصر"

و"إستاد البلدية"

وإنشاء مستشفى "الحميات" و"المواساة"

وغيرها ، ومع البدء في تنفيذ مشروع الكورنيش كانت الضرورة الملحة في ربط الميناءين الغربي والشرقي

بشارع رئيسي يخترق منطقة بحري والحي التركي وغيرها من مناطق الإسكندرية القديمة .
- وبالفعل تم شق طريق عريض يصل ما بين منطقة "باب الكراستة " بجوار بوابات الميناء الغربي من جهة ، وطريق الكورنيش الجديد

حيث الميناء الشرقي القديم للمدينة من جهة أخرى

، وذلك خدمة للتجارة وأغراض النقل ولتحقيق سهولة الاتصال ما بين أجزاء المدينة الأصلية وباقي أجزاء المدينة وليطلق العامة على الشارع مسمى "الشارع الجديد" (بخلاف شارع السكة الجديدة الشهير)،

ليصبح ذلك الشارع من أهم الشوارع بحي الجمرك والذي يطلق عليه أهل الإسكندرية مجازاً أسم حي "بحري" تمييزاً لهعن باقي مناطق الإسكندرية ولكونه يطل على البحر من الجهتين الشرقية والغربية،

وليصبح ذلك الشارع الجديد رابطاً ما بين واجهتي ذلك الحي وللآن وحيث أطلق على ذلك الشارع الجديد مسمى شارع "إسماعيل صبري".


- المتصفح لسيرة صاحب تلك التسمية "إسماعيل صبري باشا" يجده بالفعل شخصية جديرة حقاً بأن تخلد في تاريخ الإسكندرية ، فإذا ما نحينا جانباً كونه كان محافظاً للإسكندرية في الفترة من عام 1896م وحتى عام 1899م (وهو أمر له اعتباره)، فإن القيمة الحقيقية في هذا الرجل العظيم تتبع عن كونه أحد أهم شعراء الوطنية في مصر في التاريخ الحديث والمعاصر حيث يمثل الشاعر "إسماعيل صبري" أحد فرسان الشعر الحديث الخمسة الذين اضطلعوا بإرساء قواعده وإقامة دعائمه وهم الشعراء العظماء "محمود سامي البارودي" و"أحمد شوقي" و"خليل مطران"

و"حافظ إبراهيم"، وكان أهتمامه منصباً على قضايا وطنه الذي عشقه فقام بتوظيف موهبته في خدمة تلك القضايا الوطنية لذا استحق تكريم السكندريين الذي كان في الوقت ذاته محافظاً لمدينتهم ، وذلك بإطلاق اسمه على الشارع الجديد منذ شقه وفتحه عام 1934م في إطار تنفيذ مشروع إنشاء كورنيش الإسكندرية .


- ولد "إسماعيل صبري" في 16 فبراير عام 1854م بالقاهرة ونشأ فيها حيث ألتحق بمدرسة "المبتديان" عام 1866م ، ثم بمدرستي "التجهيزية" و"الإدارة" (مدرسة الحقوق فيما بعد) حيث أتم دراسته عام 1874م، ثم ألتحق بالبعثة المصرية بفرنسا حيث نال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية "أكس" عام 1878م، ويرجع الفضل في حصوله على تلك البعثة إلى "علي باشا مبارك"

، وعقب العودة إلى مصر ألتحق بالمناصب القضائية المختلفة حيث نال العديد من الرتب والمناصب حتى تم تعيينه محافظاً للإسكندرية في أول مارس عام 1896م، وأستمر في منصبه حتى الخامس من نوفمبر عام 1899م حينما أختير ليشغل منصب وكيل نظارة الحقانية (وزارة العدل) ليستمر في منصبه حتى اعتزاله الخدمة نهائياً في 28 فبراير عام 1907م بناء على طلبه ليتفرغ للشعر والأدب .
- ويسجل التاريخ لذلك الرجل العظيم "إسماعيل صبري" العديد من المواقف الوطنية المشهودة ، وبخاصة مع أعتناقه لمباديء الزعيم "مصطفى كامل" باعث الوطنية المصرية الحديثة ، حيث أعلن تأييده له ولمبادئه وتشجيعه لذلك علناً دون تحرج أو خوف وهو ما كان يغضب بالطبع الإنجليز ومندوبهم اللورد "كرومر"

، حيث يشهد التاريخ له عدة مواقف مشرفة كان أشهرها عندما طلبت منه سلطات الأحتلال عام 1896م منع الزعيم "مصطفى كامل" من إلقاء خطبته الهامة بتياترو "زيزينيا" الشهير

عندما كان يشغل منصب محافظ الإسكندرية، فما كان منه إلا الرفض مؤكداً على أن "مصطفى كامل" سوف يلقي خطبته دون وقوع ما يعكر صفو الأمن ويخل به، وهو ما حدث بالفعل، وكذلك تكررت مواقفه الشجاعة مرة أخرى أثناء توليه منصب وكيل نظارة الحقانية حينما حاول اللورد "كرومر" مقابلته من أجل مفاوضته ليوافق على ترشيحه رئيساً للنظار (رئيساً للوزراء) ، فما كان منه إلا الرفض لتلك المقابلة حتى لا يساوم على القضية الوطنية في مقابل هذا المنصب الكبير الذي كان يسعى له الكثيرين .
- وفي أعقاب الرحيل المبكر للزعيم "مصطفى كامل" أختير "إسماعيل صبري باشا" على رأس اللجنة المشكلة لتشييد أول تمثال لتخليد ذكرى ذلك الزعيم الوطني

، وليصبح أول تمثال يقيمه الشعب المصري لتخليد زعيم وطني مصري منذ آلاف السنين ، ولتستمر مواقفه المشرقة حيث كان أعتزاله الخدمة قبل بلوغه سن المعاش بسنوات بمثابة رسالة أحتجاج صامتة على حادثة "دنشواي" ومحاكماتها الجائرة التي تمت عام 1906م لتنم عن مدى ظلم المستعمر وأعوانه ، وبخاصة مع شغله في تلك الأثناء لمنصب وكيل وزارة الحقانية في تلك الفترة.


- هذا هو السياسي الوطني "إسماعيل صبري"، أما عن الشاعر "إسماعيل صبري" فقد ظهرت موهبته الشعرية منذ نعومة أظفاره حيث ظلت تنمو وتزدهر طوال حياته لتصبح شاعريته ووطنيته عنوان مجده وموضع فخاره وكان معاصروه يلقبونه بلقب "شيخ الشعراء" و"اعترف له بفضله ذلك في مجال الشعر زملاءه من الشعراء العظام "شوقي"

و"مطران" و"حافظ " وغيرهم ، فنجد شاعر النيل "حافظ ابراهيم " في رثاءه يقول :
لقـد كنت أغشـاه في داره وناديه فيها زها وازدهر
وأعرض شعري على مسمع لطيف يحس نبو الوتـر
كما رثاه أمير الشعراء "أحمد شوقي بك" بأبيات تنم عن مدى تقديره لزعامته في الشعر من قوله :
أيام أمرح في غبارك ناشئا تهج المهار على غبار خصاف
أتعلم الغايات كيف ترام في مضمار فضل أو مجال قواف
- وتتجلى في شعر "إسماعيل صبري" الوطني والقومي روح الحب الخالص للوطن مع الأستمساك بمعاني العزة والكرامة والشمم والإباء ، وكذا تعبيره عن شعور مواطنيه وترجمة آمالهم وآلامهم حيث يتحدث في شعره عن الحرية والإستقلال والمطالبة بالدستور والدعوة إلى ضرورة إصداره ليحمل آمال المصريين في الجلاء والديمقراطية ، كما نبني العديد من القضايا الوطنية حيث تناول حادث "دنشواي" وكلك قضية الوحدة الوطنية ما بين عنصري الأمة

، وتنديده بالأحتلال والظلم والإستعمار ورصده للأمتيازات الأجنبية ومظالمها والتغني بعظمة مصر وتاريخها ، كما لم يفته رثاء الزعماء كمصطفى كامل وغيرها من موضوعات وطنية تنم عن مدى أهتمامه بالقضايا القومية والوطنية .
- ولم يخلو شعره من بلاغة وموسيقى بالرغم من غرض شعره الأساسي من خدمة القضايا الوطنية ، فيؤثر عنه بيتان شهيران لما يحويان من الجناس حيث يقول :
قرعت الباب حتى كل متنى فلمـا كلمتنـى كلمتنـى
فقلت لها أاسماعيل صبري فقالت لي إسماعيل صبرا
- هذا هو "إسماعيل صبري" الذي أرتبط اسمه بالإسكندرية محافظاً وطنياً لا عميلاً خائناً لقضايا وطنه حيث خدم قضيته بمواقفه وكلماته المنظومة مجدداً في الشعر العربي فعاش كريم الخلق ، صادقاً أبياً وفياً لوطنه وأصدقائه معتزاً بكرامته صريحاً محباً للحق ، بعيداً عن الزهو والخيلاء، وظل على هذه الأخلاق الكريمة حتى توفي في 21 مارس عام 1923م ليخلف كنوز من الشعر والوطنية ، والفضائل النفيسة أضفت على اسمه هالة من المجد والخلود، فأستحق أن تسطر له الإسكندرية المدينة التي عاش فيها حاكماً وطنياً متواضعاً صفحة من صفحات تاريخها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق