الجمعة، أبريل 22، 2011

صفحات من كتاب سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى ( وهم الاحزاب الدينية )



هناك أكثر من سببٍ منطقيّ وعقلانيّ ووجيهٍ لكي نتجه من خلال التعديلاتِ الدستوريةِ المرتقبة للنصِ الصريحِ على عدمِ جواز تأسيسِ الأحزابِ السياسيةِ على أُسسٍ دينيةٍ . فهناَك أولاً اعتقاد الكثيرين أن ما يضفي كثيرون عليه هالةً من التقديسِ وأعني "الفقه الإسلامي" هو – أي التقديس – أمرٌ لا أساس أو مبرر أو تسويغ له . فالفقه الإسلامي عملٌ بشريٌّ محض . ولعله من المفيد أَن أُشير هنا لأكثر التعريفاتِ استقرارًا وانتشارًا للفقه الإسلامي وهو التعريف الذي يقول : (إن علمَ أصولِ الفقه هو علمُ استنباطِ الأحكامِ العمليةِ من أدلتها الشرعية) . ولا نحتاج لأن نصرف كثير جهدٍ في إثباتِ أن أية "عمليةِ استنباطٍ" هى عملٌ بشري بحتميةِ اللغةِ والمنطقِ . كذلك فإن تعاقبَ الفقهاءِ السنيين الأربعة الكبار (وأتحدث هنا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) وقد عاشوا وماتوا خلال أقل من قرنين وتعاصر منهم الثاني والثالث على الاقل ... إنما يؤكد أننا بصددِ عملٍ بشري، وإلاَّ فكيف يجرؤ "مالك" على وضعِ مذهبٍ فقهيّ مختلفٍ عن مذهبِ أبي حنيفة، لو كان العملُ الذي قام به أبو حنيفة أي شيء عدا كونه عمـلاً بشريًا ؟ ... ناهيك عن أن ثالث فقهاء السنة الأربعة الكبار كان له مذهبان : مذهبه للعراق ومذهبه لمصرَ ... وهو أمر له دلالات بالغة الوضوح، وأهمها أننا بصدد عملٍ بشريٍّ إنسانيٍّ محضٍ (من ألفه إلى يائه) .
وبالتالي , فإن المباديء التي يعتقد البعضُ أنها مباديء الإسلام في نظم الحكم ما هي إلاَّ "اجتهاد" ... وهذا الاجتهاد هو ما ُسمى بالأحكام السلطانية ... ويعرف المتخصصون أن الحكام (سواء حكام حقبة بني أمية أو حكام الحقبة العباسية) كانوا وراء معظم ما كُتب عن الأحكام السلطانية ليضمنوا أن ما سيكتب سيأتي مواتيًا لرغباتهم وفهمهم هم . وهو أمر تكرر في مجتمعات أخرى (وأشير هنا لعلاقة آراء وكتابات المفكر السياسي البريطاني هوبز
بالعرش البريطاني أو بالتحديد بأهواء العرش البريطاني في مسألة تكييف العلاقة بين الحاكم والمحكومين) .

وهكذا , فإن وجودَ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ هو أمرٌ غير منطقي , حيث إن المبادىء التي يُقال إنها "مذهب الإسلام في شئون الحكم" لا تعكس إلا فهم بشر مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون – والأمر كله عمل بشري . وخلاصة القول هنا , أن الإسلامَ لم يقم بوضعِ نظامٍ شاملٍ كاملٍ لقواعدِ ونظم الحكم تصلح لأن تكون بديلاً عن القواعد الدستورية التفصيلية المعاصرة , وذلك لأن هذه ليست هي مهمة أو غاية الإسلام . فالذي يعيب على الإسلام خلوه من النظام السياسي كمن يعيب على الإسلام أنه لم يقدم نظرية متكاملة في علم النفس أو في علم الاجتماع ... أو في علوم الإدارة (!!) . والواقع، أن الإسلام جاء بمجموعةٍ عامةٍ من القواعد الكلية التي من الأفضل والأنفع الاستهداء بها عند وضع القواعد التفصيلية . أما هذه القواعد التفصيلية ( مثال : كل ما جاء بكتاب "الأحكام السلطانية " للماوردي
وبعشرات الكتب المماثلة في الموضوع والعنوان) فإن ذلك عملٌ بشريٌّ محض يعكس اجتهادًا إنسانيًا يترجم هو أيضًا القدرات العلمية والعقلية والمكونات الثقافية ودوافع كاتبها؛ كما يعكس حقائقَ الزمانِ والمكانِ .

وما أُريدُ أن أُركز عليه في هذا الفصل هو أن هناك منطقًا لم يسلط عليه كثيرون الضوء من قبل وهو جدير بنسف وجهةِ النظر التي تدعو لتأسيسِ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيـةٍ ... فلو بدأنا من أن مجملَ القواعدِ التي يسميها البعضُ "نظم الحكم في الإسلام" ما هى إلا استنباطات لرجال عاشوا منذ أكثر من ألف سنة، وأعملوا فكرهم وعقولهم وحاولوا تقديم القواعد التي يظنون أنها ستؤدي (في زمانهم ومكانهم وعلى قدر فهمهم وعلمهم وظروفهم) لإقامةِ نظامِ حكمٍ يعبر عن القيمِ الأساسية التي يدعو لها الإسلامُ ويتوخى شيوعها وذيوعها في المجتمعات الإسلامية – إذا بدأنا من هذا المنطلق، فإننا نكون قد اتفقنا على أن ما يسمى بنظم الحكم في الإسلام هو تعبير عام (غير دقيق) عما كتبه فقهاءٌ مسلمون منذ أكثر من ألف سنة في محاولة (جادة ومحترمة) منهم لإيجادِ نظمِ حكمٍ في مجتمعاتهم تتماشى وتنسجم وتتوافق مع مباديء وقيم الإسلام .

ومعنى هذا، أننا حتى لو سلمنا بأن مؤلفي كل ما وصلنا من كتابات المسلمين الاقدمين عن قواعد ونظم الحكم هى كتابات قيمة وتستلهم "روح الإسلام" (وهذا أقصى ما يستطيع أي صاحب عقل أن يصل إليه) فإن على الجميع أن يؤمنوا بأنه نظرًا لتقاعس المسلمين (لمدة تبلغ الآن قرابة الألف سنة) عن التجديد والإضافة لكتابات الفقهاء الاقدمين في مجال الأحكام السلطانية (وهو ما يعكس من المصطلحات المعاصرة نظم وقواعد الحكم الدستورية والسياسية) ... فإن أي حديثٍ عن الاقتباس من هذه المؤلفات – كما وضعت منذ ألف سنة - قبل حدوث نهضةٍ فقهيةٍ إسلاميةٍ معاصرةٍ تدلي بدلوها في هذا المجال (مجال الأحكام السلطانية بالتعبير القديم الذي يجب أن يتبدل بمصطلح يعبر عن حقائق الزمن) إنما سيكون مثل من يفتح كتابًا وضع في القرن العاشر الميلادي في الطب
والصيدلة ويريد أن يؤسس عليها نظامًا ومؤسسات طبية معاصرة !! ... فإن ذلك سيؤدي – لا محالة – لموت كل المرضى !! وكما قلت في مواضعٍ أُخرى , فكما أن الإسلامَ تكلم عن الدواب والأنعام كوسائل انتقال (ولا عيب في ذلك) فقد تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان) وأيضًا لا عيب في ذلك , وإنما العيب أن يتمسك إنسانٌ بالدوابِ كوسيلةِ انتقالٍ
(كما أراد الوهابيون بقيادة فيصل الدويش في معركتهم مع الملك عبد العزيز
في عشرينيات القرن العشرين عندما رفضوا كلَ مظاهرِ المدنيةِ والحداثةِ مثل السيارة والتليفون والراديو) . وفي اعتقادي أن الذي يتمسك بمصطلح الشورى (وهو مصطلح بسيط يعكس حقائق العصر والجغرافيا ودرجة التقدم) يكون كمن يتمسك بأن وسائل المواصلات يجب أن تكون هى الدواب والأنعام (لأن الإسلام تكلم عن الدواب ولم يتكلم عن السيارة والقطار والطائرة) .ولكن البعض قد يقول "ولماذا لا نستطيع نحن كمسلمين تأسيس أحزاب سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ بينما يوجد العديد من الأحزاب السياسية التي توصف بالمسيحية في أوروبا ولعل أشهرها الحزب الديموقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه السيدة مركيل التي تحكم ألمانيا اليوم ؟
... وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات دساتير كل الدول التي بها أحزابٌ مسيحية وأيضًا مباديء هذه الأحزاب (وأهمها الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني) ولا توجد كلمة واحدة بتلك الدساتير و المباديء تشير إلى أن هذه الأحزاب ستحكم بمباديء دينية أو بمباديء غير قواعد الدستور ... بل إنها (رغم تسميتها بالمسيحية) لا تحمل من هذه الصفة إلا الاسم . فهى أحزاب تمثل أجنحة محافظة تستلهم القيم من المسيحية ولكنها حاكمة ومحكومة ومنضبطة بقواعد الدستور والقوانين الوضعية . ولا أظن أن أنصار حركة مثل الإخوان المسلمين في مصرَ وغيرها يمكن أن يعلنوا أن هدفهم من تحويل حركة الإخوان المسلمين
لحزبٍ سياسيّ هو أن يصلوا لشكلٍ مماثلٍ للحزبِ الديموقراطي المسيحي ؟ (!!) .

وتبقى جزئية هامة وهى اعتقادي الجازم أن الأحزابَ السياسية التي تسمي نفسها بأحزابٍ إسلاميةٍ هى (أحزاب سياسية محضة)، بلا فارق بينها وبين غيرها : فكلهم كيانات سياسية صرف تحاول الوصول للحكم (وهو أمر مشروع) إلا أن البعض يلعب على أوتار عاطفية عندما يسمي نفسه بالإسلامي ... وما هم إلا محض حركة سلفية تعيش على فهم واستنباطات بشر عاشوا منذ أكثر من ألف سنة وتعاملوا مع مسائل عصرهم وزمانهم وحاولوا إيجاد الحلول لها ... وهى حلول كانت ابنة الزمان والمكان ... ولا أدل على ذلك من وضع محمد بن إدريس (الإمام الشافعي)
لمذهب جديد عندما جاء لمصر (لأن مذهبه الأسبق كان مناسبًا لبيئة أخرى هى العراق) ... والكارثة أن يأتي بشر يتميزون بالكسلِ والعطالةِ الفكرية إذ أنهم لم يجتهدوا لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم لمدة ألف سنة، ولكنهم يريدون أن يعيشوا عالةً على فهمِ بشرٍ آخرين حاولوا واجتهدوا منذ عشرة قرون .
وفي اعتقادي أن الحركاتِ التي تسمى بحركات الإسلام السياسي (ومنها حركات الإخوان المسلمين)

تعاني (دون أن تدرك) من إشكاليات فكرية هائلة وذات آثار بالغة القوة (والسلبية) . فالإسلامُ تتطرق لمباديء عليا عن العدلِ والإنصافِ والمساواةِ وفضائل العلم والذين يعلمون (في مقابل : الذين لا يعلمون) بما يمكن أن نسميه "مباديء كلية" (أو ماكرو) . ولكنه (ولكي يبقى صالحًا لأزمنة وأمكنة غير أزمنة وأمكنة فجر الإسلام) لم يأت بأحكام تفصيلية ... أي على مستوى الجزيئات ودقائق التفاصيل والآليات (أي على مستوى الميكرو) . وفي ظل هذا الوضع (الذي لا يقبل بتوصيفنا هذا له أتباعُ حركاتِ الإسلامِ السياسي) فإنهم يبحثون – بجهد جهيد – عن نظام متكامل (عدا المبـاديء الكليـة) ... ونظرًا لعدم وجود هذا النظام المتكامل فإنهم يتمسكون بذات المواضيع (مثل : حرمة فوائد البنوك والنظام العقابي وغيرهم) . والأسلم (والأكثر جلبًا للصلح المفقود بينهم وبين "الإنسانية") أن يعترفوا بأن الإسلام جاء كدينٍ سامٍ وليس ككتابِ اقتصاد أو سياسةٍ أو اجتماعٍ أو علمِ نفسٍ أو كيمياءِ أو طب . ولكن كيف لهم أن يلعبوا لعبة السياسة بعد أن يعترفوا بهذا الاعتراف الذي ندعوهم إليه ؟ ... إنهم إن فعلوا تخلوا عن أقوى مواد الدعاية السياسية التي بأيديهم كما أنهم سيكونون مطالبين بتقديم برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي عدا مسألة "تطبيق أوامر الله" و"الإسلام هو الحل" و"البركة" ... وما لا يوجد لديهم سواه من شعارات عامة مجردة ما يهبط بها الإنسانُ المدقق لمستوى الحياة ومعمل العلم والتجربة والفحص والتدقيق حتى يجد أنها بالونات هائلة ليس بداخلها إلا الهواء : وهو هواء سياسي محض لادين فيه بأي شكل أو أي قدر .

وتبقى مسألة "البركة" ... فكثير من المسلمين الطيبين البسطاء يعتقدون أن وجود أشخاص على رأس المجتمع يحكمون باسم الإسلام هو أمر كفيل بتحقيق الخير والبركة. ولهؤلاء أكرر : إن المسلمين الأوائل (الصحابة من المهاجرين والأنصار) قد هزموا في معركة (موقعة) أُحد وفي وسطهم النبي.
ولو كان النصر (أو النجاح أو التقدم أو الخير) يتحقق بالبركة، لانتصر المسلمون يوم أحد وبين ظهرانيهم البركة كلها (الرسول) . ولكن هزيمة المسلمين (الصحابة من المهاجرين والأنصار ووسطهم النبي) جاءت لتؤكد أن الله كما خلق الخلق، فقد خلق قواعد وقوانين سير الكون (ومنها قوانين الطبيعة) ... ومن بين هذه القوانين : أن من يحارب بدون مؤهلات النصر العلمية والمادية الصرف لابد وأن يهزم (بهذه القوانين انتصر المسلمون بقيادة طارق بن زياد عند غزوهم الأندلس وبذات القوانين انهزم المسلمون بعد عدة عقود في معركة "بو" في جنوب فرنسا
... ولا دخل للبركة في النصر الأول ... ولا دخل للبركة في الهزيمة الثانية) ... وهكذا، فإن من يظن أنه سيحكم باسم الإسلام وأن البركة ستحل (لأنه يحكم باسم الإسلام) فسوف يأخذ النتائج (في كل المجالات) مثل نتيجة معركة (موقعة) أُحد ... فالنصر والتقدم والحكم الناجح يحدث – فقط – بالعلم وحُسن الإدارة وهى كلها أقانيم إنسانية لا دين ولا ملة ولا جنسية لها
. وهى أقانيم لا يوجد دليل واحد على أن من يريدون أن يحكموا مجتمعاتهم باسم الدين يتحلون بها ... بل هناك أدلة وأدلة (مستقاه كلها من خلفياتهم ومحصولهم المعرفي وصلتهم بعالمية العلم والمعرفة وقيم التقدم) على أنهم لا ... ولا يمكن أن يحوزوها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق