الأحد، أبريل 17، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء الخامس

التعامل مع المارد



وإذا كان من السهل على أي مواطن أوروبي أو أمريكي غير متعمق في تفاصيل ما سلف أن يظن أن الإسلامَ والعنفَ والإرهابَ هي أمورٌ ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهمًا محددًا للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل انهمار الثروة البترولية قد أصبح في ظل ظروف شرحتها في فقرة سابقة من فصل سابق قادرًا على أن يجعل ( بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام)، والحقيقة أنه فهمٌ ضيقٌ وصغيرٌ ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية، وأن ملايين المسلمين في مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لا يزالون بعيدين كل البعد عن حدةِ وتشددِ وتطرفِ وعنفِ ودمويةِ هذا المذهب الصغير في قيمته الفكرية والذي لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية وأضيف وبكل الصدق "على الإسلام والمسلمين"، وأعني هنا المسلمين الذين عرفهم العالم في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة– ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعلِ حكامٍ طغاةٍ مستبدين (وفاسدين) في ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسةً سهلةً للفهمِ الوهابي للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.


أيضًا، لست بحاجةٍ لأن أُلفت انتباه القارئ المحايد إلى أن وجودَ نصوصٍ في القرآن يمكن أن تستعمل كدليلٍ على عنفِ الإسلام هو أمرٌ لا أهمية له : فمن جهةٍ، هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروفٍ وملابساتٍ معينةٍ، فالعبرةُ ليست بالنص وإنما بالعقل الذي يتعامل مع النص . كذلك فإن هناك نصوصًا قرآنية أخرى عديدة تدعوا لنقيض العنف والعدوان على المختلفين دينًا ومذهبًا بل و تحض على التعامل معهم بعدلٍ وإنسانيةٍ . كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين على الجانبِ الآخرِ أن يقولوا إن في أسفار التوراة بوجه عام وفي سفر يشوع بن نون بوجهٍ خاص ما يحض أيضًا على العنفِ والدمِ – وهو ما لا ينبغي أن تتجه إليه العقول .


إن المهمةَ السامية في هذا المجـال هـي مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنساني للإسلام والذي كان هو دائمًا "الأغلبية" ومقاومة الفهم المتشدد والمتطرف بل و الدموي الذي أنتجته (وهذا أمر طبيعي) العزلةُ وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية واختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانيًا ومتسامحًا وإيجابيًا . وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف السعودي/ الوهابي

لم يعد من الممكن له أبدًا أن يستمر فهو حلف يرسخ فكرًا ظلاميًا متطرفًا معاديًا للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهي التعددية. على كل، فأنا ممن يدعون أنه لا توجد ظواهر إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الاجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفًا جوهره احتمال انزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الانهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مرورًا بعدم الكفاءة وانهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن اتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي سيؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاَّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكًا لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الانتشار الكبير.


إن عدم انشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والذي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحًا – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جدًا من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي

ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.

وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية واكتشاف البترول كانت أشياءٌ كثيرةٌ في الدنيا قد تغيرت:

- أولاً : تحققت ثروة هائلة سمحت بالإنفاق ببذخٍ على الفهم الوهابي للإسلام في الداخل والخارج. وهو ما أدى لحدوث تأثيراتٍ لا تنكر على فهمِ الكثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام؛ إذ اقتربت عقولُ العديد منهم لنموذج الفهم الوهابي للإسلام.
- ثانيًا : تعرضت مصرُ لتراجعٍ كبيرٍ في كل مستوياتها منذ الستينيات بما في ذلك تراجع مُناخها الثقافي العام وتغلغل النفوذ الوهابي داخل مؤسسة الأزهر العريقة؛ ثم جاءت هزيمةُ يونيه 1967 لتفتح المجال واسعًا أمام المجموعات المتأثرة في مصرَ بالفهم الوهابي للإسلام لكي تتحول إلى تياراتٍ سياسيةٍ نشطة ذات توجهات متشددة بل و متطرفة بل و حاملة للمدفع والبندقية.
- ثالثًا : ارتكب الغربُ بوجهٍ عام والولاياتُ المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص أخطاءً عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها غض النظر عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام في العالم العربي والإسلامي والتعامل مع تياراتٍ تنتمي للفهم الوهابي للإسلام بغرضِ تحقيق أهدافٍ محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان.


وهكذا يكون السؤال حول "مستقبل العقل المسلم" هو ذات السؤال حول "مستقبل المجتمعات المسلمة" – هل هو مستقبل في ظل الحريات والديمقراطية والإزدهار والتقدم .. أم مستقبل سيشهد نقيض كل ذلك؟ .. والإجابة عن هذا السؤال تحدد الإجابة عن السؤال حول مستقبل العقل المسلم : أهو طريق الإسلام الوسطي أم طريق الإسلام الوهابي؟ إن الإسراع في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي هو الضمانة الوحيدة للتقليل من الشعبية غير العقلانية لفكر الجماعات الإسلامية في العالم. فإذا شعرت شعوب المجتمعات الإسلامية بمتعة الحرية والمشاركة وواكب ذلك تحسن ملحوظ في الاقتصاد والظروف الحياتية مع إصلاح تعليمي ملموس – فإن شعوب المجتمعات الإسلامية سينخفض إعجابها غير العقلاني بالجماعات الإسلامية وستدرك تلك الشعوب أن الخير والصواب لا يمكن أن يتوفرا على يد أشخاص مثل قادة هذه التيارات بذهنيتهم المتسمة بالتعصب والبداوة وضيق الأفق وعدم المعرفة بمعظم معطيات العصر.
إن اليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد هي مكونات البيئة المثلى لازدياد شعبية التيارات السياسية الدينية. إذ أننا نكون في حالة يتواجد فيها "أمل" (وإن كان مستحيل التحقيق) في مواجهة "يأس كبير". والحقيقة أن المتأسلمين لا يمكن أن يكونوا على درجة عالية من الكفاءة. فهم أصحاب "حلم" (وهم؟!) ووعود كبيرة واعتقاد (لا أساس له) أن لديهم وصفة "فيها البركة" (!؟؟) ولكنني كقائد إداري لمؤسسة كبيرة لسنوات عديدة لا أعرف ما هي مصادر كفاءتهم. إن "التقدم" ظاهرة إدارية عصرية تتحقق للمسيحي واليهودي والمسلم والبوذي إذا توفرت عناصرها – وعناصر التقدم سياسية/إدارية/اقتصادية/تعليمية إنسانية بلا دين ولا جنسية.
و كنتيجة لليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد يعيش العقلاءُ في منطقتنا اليوم وبين أرجلهم ومن حولهم قطعان من المخربين. أما العقلاء، فتعريفهم عندي أولئك الذين يريدون أن يعيشوا وأن يحسّنوا نوعية الحياة لأنفسهم وللآخرين معهم ومن بعدهم . أما المخربين، فهم أولئك الذين يصرون (تحت شعارات يرفعونها وتبدو للسذج نبيلة) على إعاقة الحياة وعملية تواصلها وتواصل تجويدها وتحسين نوعيتها . وأول المخربين، هم أولئك الذين يخلطون (بخبث لا بحسن نية) الدين بالسياسة، فيدعون أن الله معهم وأنهم – لذلك- يملكون وصفة (روشتة) علاج لأمراض واقعنا كلها . وهو زعم ساذج وبدائي ولا أساس له من المنطق أو التجربة التاريخية . فالتاريخ الذي يصفونه بالمجيد لم يكن أكثر من تاريخ إنساني كان عامرًا بالصراعات والدم (مقتل ثلاثة من أربعة خلفاء راشدين ... وجرائم بني أمية بدءًا من مقتل الحسين وأنصاره إلى آخر السلسلة المعروفة من حكامهم وحكمهم الذي وصفه ابن خلدون

بأنه ما كان إلا ملكًا عضوضًا) ... ثم جرائم معظم الخلفاء العباسيين بدءًا من أوليهما – السفاح وأبي جعفر المنصور

الذين قتلا من ساعدهما على الوصول للحكم – إلى هارون الرشيد بطل مجزرة البرامكة... إلى المأمون الذي أمر بضرب أحمد بن حنبل "ضرب التلف" لاختلافه معه في قضية فلسفية محضة (قضية خلق القرآن أم أبديته)... إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية...

ولا يضحكني شيء أكثر من زعم "أول المخربين" أن نهجهم سيأتي بالبركة الإلهيـة ... فتنجح أعمالهم . وقد تناسى هؤلاء أن البركة (كل البركة) لم تفد المسلمين يوم موقعة أحد حيث انهزموا رغم وجود أقوى أسباب البركة وسطهم وهو الرسول (ص) . وهى حادثة فارقة في تاريخ المسلمين إذ تثبت أن الله (كما كتب الوليد بن رشد بروعة) قد وضع قوانين الحياة وجعلها تعمل ... ومن بين قوانين الحياة أن ينتصر في الحروب من هو أكفأ، و ليس من "يتخيل أن البركة معه" .

ولولا أمية الكثيرين من أبناء مجتمعاتنا وضحالة علم معظم المتعلمين، لكان من الجلي للكل أن "أول المخربين" لا يمكن أن يكونوا أكفاء . فللكفاءة مصدران هما "العلم" و "الإدارة الحديثة" ... ومن غير المتصور أن يتحلى "هؤلاء" ببعض (ناهيك عن الكثير) من مقومات الكفاءة هذه ... ويكفي أن ننظر إليهم ونسمع (ونقرأ) كلامهم ... (يقول أرسطو : "تكلم حتى أراك") .



وإلى جانب "أول المخربين" يقف حسن نصر الله

الذي يصر على تدمير لبنان (أحد أجمل بقاع عالمنا العربي) بسبب تبعيته المطلقة والعمياء لنظام حكم القرون الوسطى في إيران . ومن أكثر ما يحزنني أن يكون معظم الأحياء على سطح الأرض يرون جسامة وفداحة خطأ حسن نصر الله يوم 12 يوليو 2006 (بل يقر هو أيضًا بذلك الخطأ في حديث له مع واحد من أكثر المثقفين العرب إمعانًا في التخريب) ولا يعني ذلك عند شعوبنا وضع هذا الشخص على رأس قائمة المخربين . إن النتيجة العملية الوحيدة لحرب حزب الله لإسرائيل في صيف 2006 هى انتقال "ميليشيا حزب الله وزعيمها" من القتال مع إسرائيل إلى القتال مع لبنان ولبنانيين آخرين أكثر انتماء للعصر من ميليشيات "السيد" المستند بالكلية على "حائط طهران" .

وإلى جوار من ذكرت من المخربين، تأتي "حماس" (الإخوان المسلمون فرع غـزة – كما كانوا يسمون منذ عشرين سنة) . فمن لحظة مجيئهم للسلطة أكدُّوا للبشرية خطورة هذا الفصيل بتصرف غاية في قصر النظر . جاءت حماس بسنةٍ جديدة هى عدم احترام الحكومات الإسلامية لما سبق و أقرته حكومات سابقة . ويزيد من فداحة الخطأ – هنا- معرفتي (المؤكدة) أنه لا يوجد زعيم من زعماء حماس إلاَّ ويؤكد في أحاديثه وحواراته الخاصة أن وجود إسرائيل حقيقة مؤكدة . فلِمَ إذن يتم إيذاء ملايين الفلسطينيين من أجل "وهم" ليس إلاَّ ؟! الجواب : لأننا بصدد "مخربين" لا "رجال حكم مسئولين" .


وفي طهران , يحكم مخربون قد يأخذون البشرية لحرب كونية بسوداوية فكرهم وانعزالهم عن حقائق الواقع ورفعهم شعارات لا تمت للعصر ولا للحضارة ولا للمدنية بصلة . ومخربوا إيران طغمة لا ترى أن من أهم مهامها العمل على تحسين ظروف حياة الشعب الإيراني، وإنما التحول الذي لا تتوفر أيَّ من شروطه لقوة عظمى !..

هل اكتملت قائمة المخربين ؟ .. قطعًا لا .. ففي واشنطن مخربون لم يجيدوا عملاً واحدًا بدءوه منذ سنة 2001 . وبصرف النظر عن صواب أو خطأ ما أقدموا عليه , فإن ما أقدموا عليه مورس بأشد درجات الغلط و الخطأ وانعدام المعرفة والرؤية .



وفي القدس وتل أبيب مخربون آخرون لم يدركوا قط أن الزمن (الذي يحاولون كسبه) إنما يعمل ضدهم ... كما أنهم لم يدركوا قط حجم مساهمتهم في إطلاق مارد المتأسلمين من قمقمه ...وربما يدركوا ذلك – بعد فوات الأوان .


عالم مجنون هو الذي نعيش وسطه ... عالم حاشد بالمخربين الذين يحملون نار حقد هائلة في منطقة كلها مواد قابلة للاشتعال : البترول والدين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق