السبت، يناير 22، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد هيبه - بولكلى


  د خالد هيبه

- في حي الرمل تقع منطقة "بولكلي" ، حيث تمثل جزءاً هاماً من التاريخ المصري الحديث منذ أن احتضنت "بولكلي" المقر الصيفي لإجتماعات مجلس الوزراء المصري لمدة تقارب الأربعين عاماً قبل قيام ثورة يوليو عام 1952م، وهي تمثل فترة من أخصب فترات تاريخ مصر السياسي وأكثرها حيوية وديناميكية شهدت بدايات الحكم الدستوري البرلملني للبلاد ليتوافد على بولكلي العظماء من رجالات مصر وساستها وزعمائها نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الزعماء ورؤساء النظارات والوزارات "محمد باشا سعيد" و"رشدي باشا" والزعيم "سعد باشا زغلول" و"مصطفى باشا النحاس" و"أحمد باشا ماهر" و"النقراشي باشا" وغيرهم الكثير من العظماء والنجباء ممن أنجبتهم مصر في كافة المجالات .
- تقع منطقة "بولكلي" ما بين منطقتي "رشدي" و"مصطفى باشا" من جهة الغرب، ومنطقتي "فلمنج" و"جليم" من جهة الشرق، ويمثل ساحلها على كورنيش الإسكندرية شاطيء من أجمل الشواطيء السكندرية حيث جونه "ستانلي" الساحرة والتي زاد رونقها بريقاً مع تشييد كوبري "ستانلي" بنهاية القرن العشرين

 ستانلى فى النصف الاول من القرن العشرين

، وتمتد منطقة بولكلي عبر مثلث يشمل ثلاث محطات لخط ترام الرمل رأسه في الغرب حيث المحطة الكبرى التي تعرف بمحطة إيزيس حالياً وكانت هي المحطة النهائية لخط ترام الرمل عند إنشاء الخط حينما كانت تعرف باسم  "محطة بولكلي" حيث يتفرع عندها الخط إلى فرعين، خط "باكوس" في الجنوب الشرقي ، وخط "جليم" في الشمال الشرقي ، وتقع قاعدة المثلث ما بين محطة ترام "الوزارة" في اتجاه خط باكوس (وسميت محطة بالوزارة نسبة إلى مبنى المقر الصيفي لمجلس الوزراء والذي يقع في مقابل محطة ترام الوزارة مباشرة) ، وكذا محطة ترام "الهدايا" في اتجاه منطقة جليم ( وذلك نسبة إلى مسجد الهدايا الذي يقع بالقرب من المحطة ) ، ولكن السكندريين يطلقون على "بولكلي" لفظهم المحبب المخفف الدارج "بوكله".

محطة ترام بولكلى عام 1895

- تمثل "بولكلي" محطة هامة من محطات التاريخ السكندري الحديث ، فيذكر المؤرخون أن أول خط حديدي لترام الرمل امتد من محطة الرمل "جهة مسلة كليوباترا سابقاً" إلى منطقة "بولكلي" حيث منحت الحكومة المصرية السيد (إدوارد سان جون فيرمان) في 16 أغسطس عام 1860م امتيازاً لإنشاء هذا الخط، وذلك في إطار تعميرها لمنطقة الرمل ، لتتأسس شركة مساهمة عام 1862م لإنشاء ذلك الخط ليفتتح في 8 يناير عام 1863م لنقل الجماهير بقطار واحد من الإسكندرية "محطة الرمل" إلى محطة "بولكلي" عن طريق "جامع سيدي جابر "، وبقطار مكون من عربة واحدة درجة أولى وعربتان درجة ثانية وعربة درجة ثالثة حيث كان القطار يجر بأربعة خيول تم استبدالها في 22 أغسطس عام 1863م بقاطرة بخارية لتقوم بجر القطار بدلاً من الخيول ولتقطع المسافة ما بين "محطة الرمل" و"محطة بولكلي" في عشرين دقيقة، ولتصبح "بولكلي" المحطة النهائية الرئيسية لخط ترام الرمل وحتى يتم مده بعد ذلك إلى محطة "السراي" حيث تقع سراي الرمل (مكان فندق المحروسة حالياً) والتي انشأها الخديوي البناء "إسماعيل" بعد ذلك لتظل محطة "بولكلي" وللآن (محطة إيزيس حالياً) تحمل ذات السمات لمحطة كبرى رئيسية حيث يتفرع خط ترام الرمل عندها إلى فرعين رئيسيين ، ولاتزال الورش الخاصة بالترام تحتل ذات المنطقة التي شهدت منذ حوالي قرن ونصف بدايات الربط الحديدي الداخلي للترام بمدينة الإسكندرية .

محطة ترام بولكلى عام 1920

- وكما كان لتلك المنطقة الريادة في التوجيه لتعمير منطقة الرمل ومناطق شرق المدينة ، شهدت أيضاً قيام الحكومة المصرية برئاسة "محمد سعيد باشا" رئيس النظار (رئيس الوزراء) بشراء مقراً للوزارة بذات المنطقة "بولكلي" وذلك في 13 يوليو عام 1913م ليصبح مقراً لاجتماعات مجلس النظار طوال أشهر الصيف، حيث كانت العادة قد جرت منذ عهد "محمد علي باشا" أن تنتقل كافة مصالح وهيئات الدولة لتقضي الصيف في الإسكندرية لتصبح مدينة الإسكندرية العاصمة الصيفية لمصر، وفي ذلك يذكر "علي باشا مبارك" في خططه "وللآن الحكومة الخديوية (في زمن الخديوي توفيق) وكذا من سبقهم من العائلة العلوية ، جارية على هذا السنن الذي سنه "محمد علي باشا" من الأنتقال إلى مدينة إسكندرية في زمن الحر ، ويتبع ذلك أنتقال الدواوين فيقيمون ثلاثة أشهر في رأس التين ثم يعودون إلى القاهرة "، وهذا ما كان متبعاً في تلك الفترة ، ومع بداية عهد النظارات في مصر في عصر "الخديوي إسماعيل " كانت المشكلة في تحديد مقر للاجتماعات الصيفية لمجلس النظار وذلك منذ نظارة "نوبار باشا" الأول في أغسطس عام 1878م وحتى تم شراء هذا المقر بمنطقة "بولكلي" ليصبح مقراً للوزارات المصرية المتعاقبة في الصيف ولتشهد "بولكلي" تعاقب الوزراء وزعماء مصر السياسيين في تلك الفتة الخصبة من التاريخ المصري وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952م حيث تم في أعقابها إلغاء مصيف الوزارة بالإسكندرية لأول مرة منذ نشأة النظارات والوزارات المصرية ، وفي ذلك يذكر "الرافعي" "قررت الوزارة (وزارة علي ماهر) بجلسة 24 يوليو إلغاء تصييف الحكومة بالإسكندرية وأنتقالها إلى القاهرة ابتداء من يوم الاثنين 28 يوليو ، وعقد أول اجتماع لمجلس الوزراء بالقاهرة (صيفاً) يوم 30 يوليو سنة 1952م، ومن يومئذ ألغى مصيف الوزارة بالإسكندرية" ، ليبقى المبنى قائماً ببولكلي وللآن حيث يتبع رئاسة مجلس الوزراء ويتبقى المسمى فقط للمكان حيث تسمى محطة الترام الواقعة أمام مبنى المقر ببولكلي باسم "محطة الوزارة" .
- ومسمى "بولكلي" مسمى غريب يختلف الكثيرون حول سبب إطلاقه على تلك المنطقة ، فيرجعه البعض إلى وجود أحد العاملين بالقنصلية الإنجليزية والتي كان يقع مبنى سكن قنصلها بالقرب من ذات المنطقة في "أبو النواتير" جنوباً ( منطقة كفر عبده حالياً) وهو الأمر الذي لم يثبت لنا في أي من المراجع التاريخية الشهيرة ، ولكنه من الثابت تاريخياً أن تلك المنطقة التي يطلق عليها الآن "بولكلي" كانت تقع في ذات المكان الذي كانت تقع فيه مدينة صغيرة تنتمي للعصر البطلمي كانت تسمى "نيكوبوليس" ومعناها النصر " على شاطيء البحر وتبعد عن الإسكندرية بـ 30 غلوة حسبما يذكر سترابون ، وبـ 20 غلوة حسبما يذكر يوسيفوس،

 كوبرى ستانلى

وقد سميت كذلك نسبة إلى الانتصار الذي أحرزه أوكتافيوس أغسطس علي مارك أنطونيو ، وكانت تقام هناك أحتفالات بهذه المناسبة ، مرة كل خمس سنوات" ، ويؤكد ذلك "محمد رمزي" في قاموسه الجغرافي للبلاد المصرية حيث يذكر في الجزء الخاص بالبلاد المندثرة (البائدة) في حديثه عن مدينة نيكوبوليس "وردت في جغرافية استرابون Nicopolis وقال إنها كانت على فرع كانوب الموصل للإسكندرية وكان بها دور كثيرة للملاهي ، ومن هذا الوصف يتبين أن نيكوبوليس كانت واقعة على ترعة المحمودية غربي كوبري حجر النواتيه ، ولكن الأستاذ برشيا لما تكلم عنها في صفحة 73 من كتاب دليل مدينة الإسكندرية ومتحفها اليوناني الروماني قال إن مدينة نيكوبوليس ومعناها مدينة النصر أنشئت في عهد الإمبراطور أوغسطس قيصر تذكاراً لانتصاره على مارك أنطوان ، ثم قال إن هذه المدينة كانت واقعة في المنطقة التي تعرف اليوم ببولكلي في المسافة الممتدة على شاطيء البحر الأبيض ما بين ثكنات مصطفى باشا وبين جليمنوبولو برمل الإسكندرية" ، وهكذا أنتهى حديث "محمد رمزي" ليؤكد لنا أن "نيكوبوليس" هي ذاتها منطقة بولكلي"، بينما يذكر "علي باشا مبارك" في خططه في معرض حديثه عن مدينة الإسكندرية حول ذات المنطقة "ومعنى كلمة نيكوبوليس مدينة النصر واستكشف بها في هذه الأزمنة معبد قريب من المحل المعروف عند الأهالي بقصر قيصر ، والغالب أنه من ضمن النيكوبوليس وكان بعد هذه الناحية ناحية أخرى تسمى بوكليس ، وكانت منازلها منها ما هو على البحر، ومنها ما هو على الخليج الحلو ، وكانت محل تنزه وتفسح ، وكان الخليج المذكور على يمين الخارج من باب كانوب ، بناء على قول استرابون"، ومن هذا يمكننا القول بأن منطقة "بولكلي" الحالية هي ذات المنطقة التي ضمت مدينة "نيكوبوليس" وكذا ناحية بوكليس" والتي يوردها أيضاً " محمد رمزي" في قاموسه الجغرافي فيذكر أنها "كانت شرقي نيكوبوليس بالرمل من ضواحي الإسكندرية"، وهكذا كانت بوكليس" هي ذات المنطقة والتي قد تكون تحول بعد ذلك نطاقها ليتحول على اللسان العربي إلى "بولكلي" أو "بوكله" كما ينطقها السكندريون وللآن ، ولعل ذلك هو الأقرب إلى الصواب لتظل دائماً "بولكلي" أو "بوكله" منذ تأسيس مدينة الإسكندرية في العصر البطلمي وحتى العصر الحديث محلاً للأحداث والتاريخ ولتسطر بذلك صفحة من صفحات التاريخ في الإسكندرية .

الجمعة، يناير 21، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء الرابع


شهد المسلمون خلال القرون الخمسة الهجرية الأولى نشاطًا فكريًا هائلاً فى سائر مجالات الفكر الإسلامي - علم أصول الفقه وعلم الكلام والتفسير والتأريخ - وهو ما تمخض عن ثروة في الآراء والاجتهادات من أقصى اليمين المحافظ كالمدرسة الحنبلية لأقصى درجات التوسع فى التأويل وإعمال العقل بنفس درجة إعمال النقل – وربما أكثر (مثل المفكر العظيم ابن رشد)

؛ وبين هذا وذاك شتى أنواع المدارس .
وقد ساهمت نظم الحكم الأوتوقراطية المغلقة مع نظم التعليم منبتة الصلة بالعصر وكذلك وسائل الاعلام الموجهة ومناخ ثقافة الفهم المتزمت (وأحيانًا المتطرف) للدين لنشوء حالة تحفز بين عقول أعداد كبيرة من المسلمين والعرب لكلمات مثل "التقدم" و"الحداثة". بل يمكن القول إن العوامل التي ذكرتها (وهي عوامل داخلية) مع عوامل أخرى خارجية (مثل مرض "الطفولة الثقافية" في بعض الدول بالغة التقدم) قد أدت بالعقل المسلم والعربي للاعتقاد بأن الدعوة للتقدم والحداثة هي دعوة للتبعية وفقدان الخصوصية الثقافية. ويزيد من تفاقم الحالة، ما يشعر به مسلمون وعرب كثيرون من أن قيم الحضارة الغربية السامية هي للداخل لا للكل. وقد بذلت جهودًا هائلة لأوضح لقرائي في مصر ومنطقة الشرق الأوسط أن "التقدم" ظاهرة إنسانية في المقام الأول. وأن "روشتة التقدم" لا جنسية و لا دين لها: وكان دليلي الأول دائمًا أن الولايات المتحدة واليابان

وماليزيا وتايوان وكوريا الجنوبية هي مجتمعات متقدمة

، وبعضها غربي بحت وبعضها صيني وبعضها مسلم وبعضها ياباني. وقد أفردت العديد من كتاباتي لأوضح لأبناء وبنات مجتمعي أن الزعم بأن التقدم والحداثة هما مقابل حتمي لضياع الهوية والخصوصية الثقافية هو خلط مروع للأوراق. وما أكثر ما رددت: "إنني كرجل مارس تقنيات الإدارة الحديثة على نطاق واسع أعلم يقينًا أن هناك "إدارة ناجحة" و"إدارة فاشلة" ولكنني لا علم لي بإدارة عربية أو صينية أو إفريقية أو فرنسية". لقد تقدمت اليابان تقدمًا مذهلاً خلال خمسين سنة، ولا يزال المجتمع الياباني (لاسيما خارج العاصمة "طوكيو") يابانيًّا صرفًا

. والذي ينكر أن التقدم ظاهرة إنسانية وأن آلياتها أيضًا إنسانية هو إنسان لم تر عيناه "آليات التقدم على أرض الواقع" (وربما يكون ذلك تفسير عدم اهتمام معظم الأكاديميين بهذه الجزئية).


ولا شك أن نظم الحكم الاستبدادية يلائمها المواطن المحلي الصرف والمنبت الصلة بالعالم الخارجي والذي يعتقد أن "الحداثة" هي الوجه الآخر "للتبعية" : فمواطن كهذا لن يؤمن أيضًا بأن "الديمقراطية" ثمرة الإنسانية وأنها "منتج إنساني" و"حق إنساني" وليست بضاعة غربية "للغربيين" – كما أنه سيدرك (وهو أمر غير مرغوب فيه) أن القول بأن لكل مجتمع "نوع خاص من الديمقراطية يناسبه" هو "كلام مغرض إلى أبعد حد" : فمن المؤكد أن هناك صورًا عديدة للديمقراطية .. ولكن من المؤكد أيضًا أنها كلها تتضمن آليات محاسبة تهبط بالحكام من "أفق السادة" إلى "أفق خدمة المجتمع".
ولكن المسلمين ارتكبوا جناية كبرى فى حق أنفسهم وفى حق دينهم عندما توقفوا عن البحث عن مفاهيم وحلول جديدة عندما أعلنوا "قفل باب الاجتهاد" والانكباب على ما أنتجه السابقون من مفاهيم وحلول - رغم أنها كانت ابنة زمانهم وثمرة ظروف عصرهم . وهكذا؛ فإن المسلمين منذ نحو ثمانية قرون فى حالة اجترار لأفكار رجال آخرين اجتهدوا لزمانهم لا لزماننا . وبينما كان رجال الدين - منذ ثمانية قرون – من نوعية ابن رشد الذي كان بقامة مثل قامة أرسطو

؛ فإن رجال الدين اليوم لا يقرأون إلا بالعربية ولا يعرفون علوم ومعارف العصر كما أنهم من بيئات اجتماعية لا تسمح لهم ظروفها بالانفتاح الفكري على إبداعات الإنسانية فى سائر مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانيات .


٤.1
إننا بحاجة لجيل جديد ممن استوعبوا علوم وثقافات ومعارف العصر بقدر معرفتهم بتراث المسلمين السابقين . منذ سبعين سنة؛ كان شيخ الأزهر فى مصر - الدكتور مصطفى عبد الرازق - أستاذًا سابقًا للفلسفة - وأين ؟ ليس فى جامعة الرياض أو جامعة صنعاء؛ وإنما فى جامعة السوربون !!

لقد جمعتني الظروف بعدد من رجال الفاتيكان؛ وكنت دائما أتحسر : لماذا يحفل الفاتيكان برجال دين على هذا المستوى التعليمي والثقافي والمعرفي الموسوعي في شتى مجالات المعرفة

؛ بينما رجال الدين عندنا لا يعرفون أى شىء عن الثمار العظيمة للإبداع الإنساني فى عشرات المجالات التي تنضوي تحت فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات المختلفة . فى مؤتمر منذ بضع سنين رأيت من يعتبره البعض أكبر الفقهاء والدعاه الإسلاميين المعاصرين (وهو المصري المتجنس بالجنسية القطرية والذي هرب من مصر إبان أزمة صدام الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر في سنة 1954)

وهو يستعمل أكثر من مترجم ولا يدخل فى أي نقاش يتعلق بالأفكار والتيارات الحديثة فى العديد من المجالات؛ بينما كان رجال الفاتيكان يصولون ويجولون بأربع أو خمس لغات وفى كافة المجالات المعرفية - ولا أكتم القول إننى شعرت يومها بالخجل منه فقد كان بدائيًا فى كافة المجالات والتصرفات وكأنهم أتوا بإنسان بدائي من أحراش جزيرة بورنيو . نريد جيلاً من رجال الدين درس الأديان الأخرى والتاريخ الإنسانى والآداب العالمية والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس ويجيد عددًا من اللغات (لغات الحضارة) ... وحتى يحدث هذا؛ فسيظل مستوى رجال الدين عندنا على ما هو عليه الآن من البدائية والسذاجة والضحالة والانعزال عن مسيرة التمدن والإنسانية ... قبل إن أبلغ العشرين علّمني المسرح اليوناني والفلسفة اليونانية القديمة راهب كان يرأس الدير الدومينيكي فى العباسية بالقاهرة وهو الأب جورج قنواتي

؛ وعلّمني راهب آخر ما جعل البعض اليوم يظن - وهو غير حقيقي - إنني متخصص أكاديميًا في الديانة اليهودية . ولم أر فى حياتي رجل دين إسلامي موسوعي المعرفة . والخلاصة أنه كما أننا متخلفون فى سائر العلوم والمجالات؛ فإننا متخلفون لأبعد آماد التخلف فى علوم الدين الإسلامي وحالنا فى الدين الإسلامي كأحوالنا فى الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات وأبحاث الفضاء - إننا لسنا سوى "عالة" على البشرية - حتى السلاح الذى يستخدمه رجال الجماعات التي تسمي نفسها بالجهادية هو من صُنع الآخرين الذين يعملون ونتكلم نحن فى تفاهات الأمور .

إن عدم ظهور رجال دين من الطراز الذي وصفت معالمهُ فيما سبق من هذا الفصل أي رجال يجمعون بين ذروة علوم الإسلام وذروة علوم العصر، بدون ظهور جيل من هؤلاء، فإن المسلمين ستزداد عزلتهم عن ركب البشرية وستزداد حملات الهجوم عليهم والتخوف والحذر منهم بل أتصور طرد أعداد كبيرة منهم من المجتمعات الأوروبية ومجتمعات أمريكا الشمالية كما قد تتكرر مصادمات مثل صدام الغرب مع طالبان في أفغانستان

وسيصبح المسلمون (أو بالأحرى : ستصبح قطاعات كبيرة من المجتمعات الإسلامية) العدو الأول للحضارة الغربية بل و ربما للإنسانية .

٤.2
ومن المستبعد أن يحدث التطوير المنشود داخل المؤسسات الدينية. فأكبر المؤسسات الدينية الإسلامية في العالم حاليًا (في السعودية وفي مصر بالتحديد) تطرد عناصر التجديد والتغيير البسيط، فما بالك بالتغيير الشامل المنشود . لقد طردت إحدى الجامعات الإسلامية الدكتور / أحمد صبحي منصور

لمجرد رفضه لأن تكون الأحاديث النبوية مصدرًا للأحكام الفقهية . وكان الجدير بها أن تختلف معه اختلافًا علميًا لا يخرج عن دائرة الحوار والجدل ومقارنة الحجة بالحجة . وهو أمر غريب، فقد كان أبو حنيفة النعمان

غير بعيد عن هذا الموقف الذي اتخذه الدكتور / أحمد صبحي منصور . فبينما قبل بعض الفقهاء الأحاديث النبوية، فإن أبا حنيفة قد رد معظم هذه الأحاديث واكتفى ببضعة عشرات منها – وبكلمات أكثر تحديدًا فإننا لو كنا قد وضعنا أمام أبي حنيفة كتابًا مثل صحيح البخاري

لكان قد رفض أكتر من تسعين بالمائة من محتوياته، ولكانت الجامعة الإسلامية قد حكمت بتكفير أبي حنيفة الذي هو أول الفقهاء الأربعة والملقب في التاريخ الإسلامي بالإمام الاعظم . والخلاصة أن أحوال المؤسسات الدينية الإسلامية المعاصرة لا تشي بقدرتها على إفراز رجال من نوع أبي حنيفة النعمان وابن رشد، فهى تزداد انغلاقًا وانكبابًا على المراجع الصفراء ويقتصر دورها منذ قرون على الشرح على المتون ولا يكاد يوجد بين رجالها من طالع ولو كتاب واحد بأية لغة غير العربية . وعليه، فإن التغيير المنشود مرهون بإرادة سياسية تستند على حس تاريخي واستشراف مستقبلي، وهى مؤهلات غير متوفرة بكثرة في المجتمعات الإسلامية . ولكن بدون إرادة سياسية تهدف إلى إجراء عمليات كبيرة داخل بنية الفكر الإسلامي وجعل هذا الفكر منسجمًا مع العصر ومع العلم ومع مسيرة المدنية، فإن المسلمين سيكونون في طريقهم لمواجهة مع البشرية تشبه اصطدام الأجرام في الأفلاك السماوية .

الخميس، يناير 20، 2011

قصيدة شكرا..... لشاعر الحب الاعظم نزار قبانى

بمناسبة عيد ميلادى الثلاثون كان لابد من هذه القصيدة (الشريف الراجحى)



شكرا لحبك..
فهو معجزتي الأخيره..
بعدما ولى زمان المعجزات.
شكرا لحبك..
فهو علمني القراءة، والكتابه،
وهو زودني بأروع مفرداتي..
وهو الذي شطب النساء جميعهن .. بلحظه
واغتال أجمل ذكرياتي..


شكرا من الأعماق..
يا من جئت من كتب العبادة والصلاه
شكرا لخصرك، كيف جاء بحجم أحلامي، وحجم تصوراتي
ولوجهك المندس كالعصفور،
بين دفاتري ومذكراتي..
شكرا لأنك تسكنين قصائدي..
شكرا...
لأنك تجلسين على جميع أصابعي
شكرا لأنك في حياتي..


شكرا لحبك..
فهو أعطاني البشارة قبل كل المؤمنين
واختارني ملكا..
وتوجني..
وعمدني بماء الياسمين..
شكرا لحبك..
فهو أكرمني، وأدبني ، وعلمني علوم الأولين
واختصني، بسعادة الفردوس ، دون العالمين شكرا..
لأيام التسكع تحت أقواس الغمام، وماء تشرين الحزين
ولكل ساعات الضلال، وكل ساعات اليقين
شكرا لعينيك المسافرتين وحدهما..
إلى جزر البنفسج ، والحنين..
شكرا..
على كل السنين الذاهبات..
فإنها أحلى السنين..


شكرا لحبك..
فهو من أغلى وأوفى الأصدقاء
وهو الذي يبكي على صدري..
إذا بكت السماء
شكرا لحبك فهو مروحه..
وطاووس .. ونعناع .. وماء
وغمامة وردية مرت مصادفة بخط الاستواء...
وهو المفاجأة التي قد حار فيها الأنبياء..


شكرا لشعرك .. شاغل الدنيا ..
وسارق كل غابات النخيل
شكرا لكل دقيقه..
سمحت بها عيناك في العمر البخيل
شكرا لساعات التهور، والتحدي،
واقتطاف المستحيل..


شكرا على سنوات حبك كلها..
بخريفها، وشتائها
وبغيمها، وبصحوها،
وتناقضات سمائها..
شكرا على زمن البكاء ، ومواسم السهر الطويل
شكرا على الحزن الجميل ..
شكرا على الحزن الجميل ..


الاثنين، يناير 17، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - حى باكوس


- مع اقتراب ترام الرمل من محطة "أبو شبانة"، وهو أسمها الرسمي الحالي ، أو محطة "باكوس" وهواسمها الأشهر ما بين السكندريين ، ينادى محصل الترام "الكمساري" منبهاً ومداعباً الركاب باقتراب توقف الترام بمحطة "الصين الشعبية"، بينما ينادى البعض الآخر منهم على ذات المحطة بمسمى محطة "العاصمة"

وهو بالفعل اللقب المناسب لتلك المنطقة وهذه المحطة ، فمنطقة وحي "باكوس" بالنسبة للرمل بمثابة العاصمة من الدولة، حيث الكثافة السكانية العالية والأمتدادات العمرانية التي لا تنتهي فجارت على أراضي زراعية كانت يوماً ما تمثل ظهيراً لتلك المنطقة ، وحيث تقع الأسواق الشهيرة لكافة المنتجات والمصنوعات والحاصلات كسوق الخضار وحلقة الأسماك والمخابز ومحلات الجزارة والدواجن ، وكذا محلات الملابس والأحذية والأدوات الكهربائية وتجمعات الصاغة من بائعي الذهب والحلي ، كما تنتشر بمنطقة "باكوس" المقاهي التي تجمع على كثرتها كافة قاطني حي "الرمل" للتلاقي اليومي بإحدى تلك المقاهي الشهيرة .
- يرجع تاريخ ونشأة منطقة "باكوس" إلى فترة حكم الخديوي "محمد توفيق باشا" قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بسنوات قلائل ، فمع توجيه العمران جهة ضاحية "الرمل" في عهد الخديوي "إسماعيل" بدأ العمران يدب في تلك المناطق التي كانت حتى تلك الفترة لاتزال تحمل سمات المناطق الريفية حيث تتناثر التجمعات السكانية كالقرى ، ومع الشروع في مد السكك الحديدية لخط ترام الرمل في عهد والي مصر "محمد سعيد باشا" واستكماله وافتتاحه في عهد الخديوي "إسماعيل" عام 1863م ، بدأت تلك المناطق في التحول من النمط الريفي القروي إلى التحول للنمط الحضري ، حيث ارتبط العمران بالمحاور العمرانية الطويلة التي تخترق تلك المناطق ، وبخاصة محور خط ترام الرمل الحديدي

حيث تم مده أولاً من "محطة الرمل" (محطة الإسكندرية)، وحتى محطة "بولكلي" ثم امتد ليصل إلى منطقة "السراي" ليخدم هنالك "سراي الرمل" التي أنشئها "إسماعيل"، بينما كان المحور المؤثر الثاني على عمليات العمران بتلك المناطق هو ذلك الطريق الذي فتحه الخديوي "إسماعيل" ابتداء من منطقة "باب رشيد" (باب شرق حالياً) ليصل شرقاً حتى منطقة "المندرة" (طريق أبو قير أو الحرية وجمال عبد الناصر حالياً)، فضلاً عن محور ترعة "المحمودية" في الجنوب حيث عمرت المناطق الزراعية وازدهرت بعد شق والي مصر "محمد علي باشا" لتلك الترعة منذ عام 1820م .
- ومنذ قيام الخواجة "زيزينيا" باستثمار أمواله بشراء الأراضي بضاحية الرمل ، قام العديد من المستثمرين من أبناء الجاليات الأجنبية المقيمين في الإسكندرية ، وبخاصة في عهد الخديوي "إسماعيل" حيث تملكوا العزب والأراضي الزراعية على ضفاف ترعة "المحمودية" ، كذلك تملكوا مساحات واسعة من الأراضي الفضاء الواقعة على خط ترام الرمل الناشيء بهدف الاستثمار فيها كأراضي للبناء، ومن هؤلاء المستثمرين أحد الشوام الذين قدموا إلى مصر ويدعى "خليل باغوص" ليستقر في الإسكندرية حيث تملك العديد من الأراضي بتلك الناحية التي سميت بعد ذلك "باكوس" نسبة إليه، حيث سماه العامة "باخوس" بدلاً من "باغوص" لتتحول بعد ذلك إلى "باكوس" حيث لا تستسيغ اللهجة المصرية نطق حرف "الغين" كالشائع في اللهجات الشامية وغيرها .
- اشترى "خليل باغوص" الكثير من الأراضي الزراعية بمنطقة الرمل حيث كان ضمن تلك الأراضي ما يقع على خط ترام الرمل في ذات المنطقة التي ابتنى فيها بعد ذلك قصراً لإقامته وعائلته حوالي عام 1880م في عهد الخديوي "توفيق"، وليطلق على المنطقة بأكملها لقب معمرها الأول "باغوص" لتتحول سريعاً على ألسنة العامة "إلى باكوس" حيث تزدهر المنطقة وبخاصة مع وجود العديد من الأنوية العمرانية المجاورة سواء ناحية الجنوب كمناطق "الظاهرية" و"حجر النواتية" أو ناحية الشمال في منطقة "زيزينيا" وحيث أقام الأمير "عمر طوسون" وغيره العديد من القصور والسرايات بعد ذلك .
- ويرحل "خليل باغوص" ليرث نجله "شارل باغوص" كافة أملاكه في منطقة "باكوس" ، فيزداد ازدهار المنطقة وتصبح بمثابة سوق رئيسي لحي الرمل حيث يسمى الطريق الرابط ما بين محطة القطار الواقعة على خط سكك حديد أبو قير في الجنوب وصولاً لخط ترام الرمل في الشمال باسم شارع "محطة السوق" بعد أن أطلق على محطة القطار محطة "السوق" ، وأستمر الوضع كذلك حتى عام 1920م حينما اشترى أحد الأهالي من المقيمين بها وهو الحاج "شعبان بك أحمد أبو شبانة" مؤسس أسرة "أبو شبانة" الشهيرة بمنطقة "باكوس" كافة الأملاك والأراضي من الابن "شارل باغوص" ليقوم بعد ذلك بهدم القصر الشهير الذي شيده "خليل باغوص" أو الخواجة "باكوس" .
- قام الحاج "شعبان أبو شبانة" بتقسيم المنطقة التي كان القصر مشيداً عليها أمام محطة ترام "باكوس" ليعيد تخطيطها على هيئة شوارع وسوق ومحلات تجارية أوقفها للصرف على المسجد الجامع الذي أقامه بذات المنطقة عام 1928م "جامع أبو شبانة" (حيث تم رصد ذلك السوق والمسجد في الرفع المساحي الصادر عام 1935م) ، لتكتمل للمنطقة كافة المقومات لتصبح سوقاً لمنطقة الرمل بأكملها وبخاصة مع تشييد حلقة لبيع الأسماك بذات المنطقة ضمن أملاك عائلة أخرى أشتهرت بذات المنطقة ، وهي عائلة "سيف" والتي أمتلكت الأراضي الواقعة بجوار أملاك عائلة "أبو شبانة" وابتنى مؤسسها مسجداً "مسجد سيف" بمحطة ترام "صفر" التي تلي محطة ترام "باكوس" على خط ترام الرمل ، كذلك تم إنشاء مبنى "الجمعية الزراعية " بشارع "حجر النواتية" بباكوس خلال عقد الثلاثينيات ليصبح سوقاً للمبيع بالجملة للحاصلات الزراعية ( وهو لازال قائماص للآن بذات الشارع)، ومع تزايد العمران بالمنطقة مع بدايات القرن العشرين ورغبة من دعم العمران في تلك المناطق الناهضة قامت الحكومة المصرية بإمداد منطقة "باكوس" بالعديد من الخدمات الحديثة في ذلك الوقت كمكتب للبريد "مكتب بريد باكوس" ومكتب للتلغراف وغيرها ، وانتشر الأجانب بالمنطقة ، وبخاصة من أبناء الطائفة الكاثوليكية (حيث نعتقد أن ذلك نتيجة لكون "خليل باغوص" ينتمي لذات الطائفة الكاثوليكية)، فانتشرت المباني والخدمات الخاصة بتلك الجاليات كالأديرة والمدارس على تنوعها ، ومن تلك المدارس "دير ومدرسة الراهبات للإفرنج الكاثوليك"، ومدرسة "نوتردام دي سيون" (حيث لاتزال قائمتان لليوم ما بين منطقتي باكوس وجليم)، ومدرسة "الفرير للإفرنج الكاثوليك"، ومدرسة "الراهبات للإفرنج الكاثوليك" (وهما الآن تشغلان أجزاء من مدرسة الناصرية الثانوية العسكرية للبنين، ومدرسة زيزينيا الإعدادية للبنات بباكوس)، كذلك تم تشييد كنيسة خاصة لذات الطائفة وهي كنيسة "سان أنطوان للإفرنج الكاثوليك" (وهي لا تزال قائمة للآن بمبناها وبرجها المميز)، كما ضمت ذات المنطقة كنيس خاص باليهود "كنيس ساسون" والذي اندثر ولم يتبقى منه سوى المسمى لذلك شارع الذي كان يقع به "شارع كنيسة ساسون" حيث لازال الشارع يشتهر به وللآن ، وكما هو سائد في تلك الفترة ومع بدايات القرن العشرين ومع وجود كثافة من أبناء الجاليات الأجنبية أنتشرت بالمنطقة العديد من أماكن بيع المشروبات الكحولية ، ولعل ذلك ما دعى الكثيرين للربط ما بين مؤسس المنطقة "باغوص" الذي أشتهر بمسمى "باكوس"، وإله الخمر عند الرومان "باكوس" وهو خلط لا يكاد يخلو من الوجاهة والمنطق .

- إلا أن ذلك الحال لم يدم كذلك كثيراً ، حيث صاحب قيام الحاج "شعبان بك أبو شبانة" ببناء مسجده قام الكثيرون ببناء العديد من المساجد والجوامل بالمنطقة كجامع "الصيني" الذي شيده الحاج "أحمد سالم" على خط الترام بالقرب من محطة "باكوس"، وكذلك جامع "القباني" الذي شيده الحاج "محمد عبد الله القباني" وغيرهم لتبدأ معالم المنطقة الحالية في الظهور والتكون منذ ذلك التاريخ .
- ومع قيام ثوليو يوليو عام 1952م ومع المد القومي الذي صاحب تلك الفترة، بدأ أبناء الجاليات الأجنبية المقيمين في مغادرة مصر حيث تبدل الحال وتحولت المسميات إلى مسميات وطنية بعيداً عن المسميات الأجنبية، فتم تسمية محطة ترام "باكوس" بمحطة ترام "أبو شبانة" نسبة لأقدم العائلات التي سكنت بالمنطقة، وهو المسمى التي لاتزال المحطة تحمله وللآن بالرغم من أستقرار الناس على التسمية الأصلية "باكوس" وحيث تحمل مركبات الترام ذات المسمى للدلالة على الفرع الجنوبي لخط ترام الرمل "خط ترام باكوس" .
- وكانت الإضافة الكبرى لمنطقة "باكوس" مع تأسيس إذاعة الإسكندرية عام 1954م حيث كان البث يتم من المبنى الذي خصص لهذا الغرض بشارع "طوسون" بباكوس (شارع الأمير عمر طوسون، فشارع الإذاعة ، فشارع محمد محمود شعبان بعد ذلك ) ، حيث تم أقتطاع جزء كبير من حديقة قصر الأمير عمر طوسون (مبنى كلية التمريض القديمة حالياً ) ليشرف على تلك الإذاعة ويقوم على تأسيسها الإذاعي "حافظ عبد الوهاب" (الذي قدم بعد ذلك الفنان "عبد الحليم حافظ " حيث منحه اسمه "حافظ") ، وفي عام 1990م كانت التحول الكبير الذي شهده قطاع الإعلام بالإسكندرية على أرض منطقة "باكوس" حيث بدأ البث التليفزيوني للقناة الخامسة "تليفزيون الإسكندرية " ليتحول مبنى الإذاعة بباكوس إلى مقر "إذاعة وتليفزيون الإسكندرية" في ذات المنطقة "باكوس" .
- ومنطقة "باكوس" تتبع الآن دائرة قسم "الرمل" حيث تمثل إحدى شياخاته الأربعة عشر ، وتتبع إدارياً ومالياً حي "شرق الإسكندرية" ، وقد مرت المنطقة بالعديد من التغيرات الإدارية المختلفة ، ففي عام 1897م كانت منطقة "باكوس" تمثل إحدى جهات قسم "الرمل" أيضاً ، ولكن نظراً لأن أغلب جهات ذات القسم كانت ريفية المظهر حينذاك ، ولم يكن العمران قد أمتد إليها بصورة كاملة بعد ، لذلك ألغى قسم "الرمل" التابع للإسكندرية وأصبح مركزاً إدارياً يتبع محافظة البحيرة وذلك في تعداد عام 1907م حيث سمي بمركز "الرملة"، ومع التوسع العمراني الذي شهدته مناطق هذه الضاحية بعد ذلك لتلتحم قرى لرمل بعضها ببعض لتنمو الأحياء داخل ضاحية الرمل ليعاد ضمه مرة أخرى عام 1927م ليتبع محافظة الإسكندرية، ومنذ ذلك التاريخ وللآن ومنطقة "باكوس" تتبع حي "الرمل" الواقع داخل نطاق "الإسكندرية"، وإن كان قد طال حي الرمل كقسم إداري العديد من التعديلات الإدارية بعد ذلك فيما يخص بعض شياخاته ، إلا أن "باكوس" كإحدى أهم شياخات ذلك القسم ظلت ثابتة وللآن حيث تمثل القلب بالنسبة لحي "الرمل"، وإذا كانت حدود شياخة "باكوس" الإدارية تمتد في منطقة محدودة محصورة حول خط ترام الرمل ومحطة ترام "أبو شبانة"، فإن أغلب المناطق والشياخات الإدارية المحيطة والمجاورة كمناطق "المحروسة" و"غبريال" و"أرض سليم اسكندر" و"مربع فرتا والكرامة" وحتى "كوبري الناموس" جنوباً على ترعة "المحمودية" يطلق عليها مجازاً "باكوس" انتماءاً لتلك المنطقة العريقة صاحبة الفضل في تعمير كافة المناطق المحيطة والمتاخمة لها وإن كانت لكل منها تقسيمها الإداري كشياخة مستقلة منفصلة عن شياخة "باكوس" .
- وتعتز منطقة "باكوس" كما تعتز "الإسكندرية" بأن الزعيم الخالد "جمال عبد الناصر " والذي تنتمي أسرته إلى قرية "بني مر" بمحافظة "أسيوط" من مواليد منطقة "باكوس" بحي "الرمل"، حيث شهدت تلك المنطقة ميلاد ذلك الزعيم في 16 يناير عام 1918م بشارع "القنواتي" بباكوس، حيث لازال البيت الذي شهد مولده قائماً

وللآن شاهداً على أيام طفولة الزعيم الذي أستطاع لأول مرة في العصر الحديث توحيد الأمة العربية من الخليج إلى المحيط متحدياً قوى الهيمنة والأستعمار ساطراً تاريخاً مجيداً لأمته ، حيث كان والده الحاج "حسين عبد الناصر" يعمل في تلك الفترة بمصلحة البريد وكان يتنقل ما بين الحين والآخر من مكتب بريد إلى مكتب بريد آخر ليستقر المقام به في تلك الأثناء بمكتب بريد "باكوس" (وهو لازال قائماً وللآن في بشارع الفتح على خط ترام الرمل بباكوس وإن كان قد نقل إلى الناحية المقابلة)، ولتستقر معه أسرته بجوار عمله في منطقة "باكوس" حيث ينجب له في ذلك العام 1918م أشهر أبناء "باكوس" حيث يخطو أولى خطواته في تلك المنطقة وذلك الحي السكندري الشهير ، وليتحول منزل أسرته بشارع "القنواتي" بباكوس مزاراً للتعرف على فترة من أهم فترات حياة ذلك الزعيم العظيم، وهو الأمر الذي تبناه المجلس الشعبي المحلي لمحافظة الإسكندرية ولجنة الثقافة به منذ عام 2003م ليصدر نوصياته بشأن تحويل ذلك المنزل إلى متحف قومي على المستوى اللائق ليوثق ما بين جنباته لتاريخ الزعيم "جمال عبد الناصر" .


- وكما شهدت منطقة "باكوس" ميلاد ذلك الزعيم الخالد، فإنه كان أيضاً محل الميلاد والنشأة للعديد من المشاهير الذين أثروا حياتنا الفكرية والثقافية والفنية، فكما امتلك الامير النبيل "عمر طوسون" العديد من الأملاك بالقرب من هذا الحي حتى أطلق اسمه على شارع الإذاعة التي أنشئت على جزء من حديقة قصره عام 1954م، أنجبت باكوس العديد والعديد من النابهين، ومن هؤلاء الكاتب الساخر الكبير "أحمد رجب" صاحب التعليقات اللاذعة بجريدة الأخبار من خلال يومياته "1/ 2 كلمة " وكذا "الفهامة" بجريدة أخبار اليوم ، ولازال رواد مقهى "السيد متولي" أو كما يسمى بمقهى الإتحاد السكندري أمام محطة ترام باكوس يتذكرون بكل خير وفخر والده المرحوم الحاج رجب الذي أنجب ذلك الفنان المتميز ، كما ينتمي لذلك الحي الإذاعي الكبير "محمد محمود شعبان" أحد أعمدة الإذاعة المصرية وصاحب الشهرة الواسعة بلقب "بابا شارو" (وقد أطلق اسمه على شارع الإذاعة بباكوس تكريماً له في أعقاب وفاته عام 1999م، وكان ذات الشارع يسمى شارع عمر طوسون قبل ذلك) ، كما تلقى تعليمه في ذلك الحي بمدرسة الرمل الثانوية الكاتب الكبير الأستاذ "سعد الدين وهبه" حيث عاش في تلك المنطقة وتأثر بها ليسطر لنا رائعته المسرحية "كوبري الناموس" معبراً عن تلك المناطق الريفية جنوب "باكوس" علىترعة "المحمودية" في تلك الفترة من التاريخ المصري، حيث المعاناة من ذل القهر والفقر والظلم، أما أخر من أنجبتهم "باكوس" من المبدعين فهو رسام الكاريكاتير الموهوب الصاعد الفنان "عمرو فهمي" صاحب البسمة اليومية بجريدة الأخبار ، والذي أستطاع أن يشق طريقه ما بين عظماء عرش فن الكاريكاتير المصري من خلال موهبته وإبداعاته ، لتستمر الدوحة المثمرة بمنطقة "باكوس" في إمداد الحياة المصرية بالمبدعين والعظماء في كافة المجالات ولتسطر بعراقتها وتاريخها صفحات مشرقة من صفحات التاريخ في الإسكندرية .

الخميس، يناير 13، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - أبو قير


- مع نهاية الساحل الشرقي لمدينة الإسكندرية تقع ضاحية أبو قير ، لتمثل محدداً عمرانياً على الساحل كبداية لسلسلة رائعة من الشواطيء تبدأ من شاطيء أبو قير بالإسكندرية فالمعمورة والمنتزه ، وتمتد بعد ذلك في إتجاه الغرب عبر كورنيش المدينة وضواحيها في العجمي فالساحل الشمالي الغربي وصولاً إلى حدود مطروح .
- و"أبو قير" ضاحية مستقلة أشتهرت بأستخداماتها الحربية للدفاع عن الإسكندرية نظراً لطبيعة تكوينها الجغرافية وحيث قلعتها واستحكاماتها العسكرية حيث تشغل أبو قير رأس خليج تكون منذ آلاف السنين عندما كان أحد فروع النيل القديمة المندثرة يصب في تلك المنطقة وهو الفرع المعروف باسم "الفرع الكانوبي"، حيث كان مجراه يصب في البحر المتوسط عند منطقة "أبو قير" فيما اشتهر بعد ذلك بالفتحة الكانوبية ، والتي حددها رجال وعلماء الحملة الفرنسية في بحثهم لتاريخ جغرافية مصر القديمة ودراساتهم القيمة حول ذلك، وهو ما صححه العالم المصري الشهير "محمود باشا الفلكي" بعد ذلك في دراسته القيمة حول مدينة الإسكندرية ومحاولته التحديد الدقيق لمجرى الفرع الكانوبي والفتحة الكانوبية .
- وضاحية "أبو قير" ذات تاريخ ممتد منذ العصور البطلمية ، حيث كانت تسمى في تلك العصور "مدينة كانوب" حيث كان بها معبد الإله "سيرابيس" الذي شيد هنالك منذ أوائل العصر البطلمي بالإسكندرية كما كانت تمثل أحد أهم الأماكن التي يرتادها الآلاف من الرجال والنساء سنوياً للأحتفال بالأعياد التي يصفها البعض حيث كان يسودها المجون الجامح في زمن الوثنية الإغريقية ، وبالقرب من أبو قير أو "كانوب" كانت تقع مدينة "هيراكليوم" حيث كانت تقع عند رأس خليد أبو قير وليطلق عليها اسم معبدها الذي كان مخصصاً لهرقل، وكما أجرى علماء الحملة الفرنسية دراساتهم حول تلك المنطقة مع نهاية القرن الثامن عشر ، كان "محمود باشا الفلكي" أول مصري يحاول تحديد مواقعها بكل دقة وذلك خلال فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
- ظل اسم كانوب "كانوبوس" ملازم لتلك المنطقة، حتى حملت اسم " ابو قير" منذالقرن الثالث الميلادي حيث أنتسب إلى أحد القديسين الشهداء الذين جاهدوا في نشر المسيحية بمصر ودفن بهذه المنطقة وكان يدعى "القديس قير" "Sainte Cyr” ، وقد عرف هذا القديس باسم "الانبا كير" ، كما أطلق عليه "أبا كير"، وهو طبيب ناسك استشهد في خلال فترة الاضطهاد الديني الروماني عام 312م في الإسكندرية، ولد "أبا كير" بمدينة الإسكندرية في النصف الأخير من القرن الثالث الميلادي في أسرة مسيحية حيث تعلم الطب بالإسكندرية ومارس مهنته كطبيب في ذات الوقت الذي كان متعلقاً فيه بالمسائل الدينية التي كانت محور الأحداث في تلك الفترة حيث شارك في مناهضة سياسة الإمبراطور الروماني "دقلديانوس" أثناء فترة حكمه الجائر (284 - 305م) ، وهو العصر الذي اضطهد فيه مسيحي مصر رغبة منه في إثناءهم عن ديانتهم السماوية تلك إلى الوثنية التي كان يعتنقها ، فذبح منهم الآلاف وبخاصة في مدينة الإسكندرية العاصمة وضاحيتها "كانوب" (أبو قير) وسمي ذلك العصر "عصر الشهداء"، ونظراً للدور الذي قام به "أبا كير" في مقاومة مظالم الإمبراطور وأوامره ألقي القبض عليه من ناسك آخر يدعي "يوحنا" كان أبا كير قد تعرف عليه ليعملا معاً في مناهضة الإمبراطور ، حيث نما ذلك إلى حاكم الإسكندرية "سريانوس" فقام بمطاردتهما ليتم القبض عليهما حيث تم قطع رأسيهما بصورة سريعة مباغتة ليقوم الشعب باخذ جسدي الشهيدين ليتم دفنيهما معاً في كنيسة "القديس مرقص" (كنيسة سان مارك) بالإسكندرية، وبعد استشهاديهما بعدة سنوات وفي أثناء فترة تولي الإمبراطور "قسطنطين" مقاليد الحكم في الإمبراطورية الرومانية عام (396 - 327م) اعتنق الديانة المسيحية ، وجعلها الديانة الرسمية للدولة الرومانية لينقل الحال راساً على عقب، فتحول الصراع ضد الوثنية بعدما كان قائماً ضد المسيحية وزاد هذا الصراع مع تولي الإمبراطور "تيودوسيوس" حيث اشتدت المقاومة في مصر لباقي معاقل الوثنية والتي كانت لاتزال قائمة في معبد "السيرابيوم" القديم بالإسكندرية، بينما كان المعقل الفكري للمسيحية ممثلاً في المدرسة اللاهوتية التي أسسها " القديس مرقص " (سان مارك) بالإسكندرية قبل استشهاده عام 68م ، ولكن الصراع المذهبي الفكري كان غالباً ما يخرج من دائرة الفكر إلى الغوغاء من الجانبين حتى هاجموا معبد السيرابيوم وقاموا بتحطيم تماثيله ، كما نال معبد "السيرابيوم" في كانوب المصير ذاته ليتم تحويله إلى كنيسة بالقرب من كنيسة يطلق عليها مسمى كنيسة الرسل لتتحول بعد ذلك إلى كاتدرائية كبرى عام 576م .
- ومع تولي "كيرلس" البطريركية إسكندرية نقل رفات "أبا كير" ورفيقه يوحنا إلى كنيسة الرسل في كانوب ليؤمها الناس للزيارة والتبرك في محاولة منه للإجهاز تماماً على ما بقي من وثنية قائمة ، حيث كان البعض من العامة لازال يزور ويحج إلى كانوب (أبو قير) ابتغاء طلب الشفاء من الألهة الوثنية كإيزيس وغيرها كما كانوا يفعلون في العهد الوثني البطلمي ، فكان نقل "كيرلس" لرفات القديسان "أباكير" و"يوحنا" ليتبارك بهما الناس بدلاً من الآلهة الوثنية .
- وبدأت شهرة "أبا كير" في الذيوع فتم إطلاق اسمه على كنيسة الرسل القائمة وأخذ الناس يفدون إليها ابتغاء التبرك وطلباً للشفاء من أمراضهم ، كما ذاعت القصص والحكايات عن عجائب ذلك الشفاء ، ومع احتلال الفرس مصر قاموا بتخريب تلك الكنيسة عام 619م حيث يقال أنه قد نقلت رفات "أباكير" و"يوحنا" إلى روما وذلك كما سبق وتم نقل رفات شهيد الإسكندرية الآخر "القديس مرقص" (سان مارك) إلى فينيسيا ، ليبقى للمنطقة فقط مسمى "أبا كير" ، والذي تحول مع استخدام العربية كلغة اساسية للبلاد ليصير "أبو قير" في أعقاب الفتح العربي الإسلامي لمصر حيث اندثرت المنطقة نتيجة اندثار الفرع الكانوبي للنيل والذي كان يصب عندها .
- ومع تدهور أحوال الإسكندرية في خلال العصور الإسلامية المتعاقبة بعد نقل مقر الحكم والعاصمة منها إلى الفسطاط ثم القاهرة ، تحول النشاط الاقتصادي والتجاري إلى كلا من مدينتي "فوه" و"رشيد"، لتتدهور أحوال منطقة "أبو قير"، لتعود مرة أخرى إلى أضواء التاريخ بقدوم الحملة الفرنسية على مصرفي أول يوليو من عام 1798م، حيث اتخذ "نابليون بونابرت" قائد الحملة من "أبو قير" وخليجها مقرا لتصبح مرسى لأسطوله حتى تحطم بها بعد ذلك ليغرق في خليجها على يد الأسطول الإنجليزي بقيادة القائد الشهير "نيلسون" (حيث سميت أكبر الجزر القريبة من خليج أبو قير باسمه وللآن)، وذلك بعد أقل شهر من قدوم الحملة في أول أغسطس عام 1798م فيما عرف بموقعة "أبو قير البحرية" والتي كانت لها دور كبير في إنهاء طموحات "نابليون" العسكرية في مصر والشرق بعد ذلك ، ولتؤدي منطقة أبو قير بعد ذلك دوراً كبيراً بدءاً من تلك الفترة والتي شهدت أيضاً عدة معارك صاخبة ما بين الجيشان الحليفان حينذاك "الإنجليزي والتركي" من جهة ، والجيش " الفرنسي " من جهة أخرى حتى تم إرغام الحملة الفرنسية على ترك مصر في أعقاب عدة معارك كان أشهرها معركة "كانوب" أوما يطلق عليها بمعركة "أبو قير البرية" في 21 مارس عام 1801م، لتزداد أهمية "أبو قير" كخط دفاعي أمامي عن الإسكندرية ومصر بعد ذلك التاريخ وبخاصة مع أهتمام والي مصر "محمد علي باشا" وخلفاءه من الولاة بتحصيناتها دفاعاً عن الإسكندرية ، ولتبدء العناية بها كضاحية تشغل موقعاً استراتيجياً هاماً مع مد خط السكك الحديدية إليها في عام 1876م في عهد الخديوي "إسماعيل" من خلال الخط الرابط ما بين "الإسكندرية" و"مدينة رشيد" غرباً ، لتصبح إحدى أهم مصايف الإسكندرية يؤمها المصطافين والباحثين عن الهدوء والسكينة حيث شواطئها الخلابة وجزرها السياحية الرائعة ومنها "جزيرة نيلسون" (نسبة إلى قائد الأسطول البريطاني) وغيرها ولتضاف إليها عام 1922م ناحية "المعمورة" من الواجهة المالية ولتتبع مركز "كفر الدوار" بمديرية "البحيرة" ويصير مسماها في جداول وزارة المالية منذ ذلك التاريخ "المعمورة وأبو قير" وذلك لأشتراكيهما في زمام واحد ، وفي أعقاب ثورة يوليو عام 1952م تم تعديل حدود الإسكندرية مرة أخرى، ففي ابريل عام 1955م ضمت "أبو قير" إلى الإسكندرية ضمن ما تم ضمه إليها من نواحي خصماً من مركز "كفر الدوار" حيث ضمت لقسم "المنتزه" والذي تم إنشاءه في ذات العام كقسم إداري جديد ليضاف إلى أقسام محافظة الإسكندرية ولتتبعه ضاحية "أبو قير" من ذلك التاريخ وللآن .
- ومنذ ذلك التاريخ بدأ الأهتمام المتصاعد بالضاحية كمصيف هام حيث تم إنشاء العديد من المعسكرات القومية الخاصة بالشباب على شواطئها، ما يتم في عقد السبعينات من القرن العشرين إنشاء الأكاديمية العربية للنقل البحري بها "الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا" لتصبح التفعيل الأوحد لعمل عربي مشترك ، وليزداد الزحف العمراني إليها كمنطقة سكنية ، كما يشرع في البدء بالبحث في أسرار كنوزها الغارقة في المياه في تلك الفترة والتي كان قد بدأها العالم الأمير "عمر طوسون" لتتكشف لنل المزيد من الآثار البطلمية والرومانية وغيرها ، وكذا آثار أسطول نابليون الغارق في مياهها لتظل "أبو قير" دائماً تمثل صفحة من أهم صفحات التاريخ في الإسكندرية .

الثلاثاء، يناير 11، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - حى السراى



في منطقة ساحلية من أجمل مناطق حي "الرمل" بالإسكندرية وعلى خط الحديدي لترام الرمل تقع محطة ترام "السراي" ، حيث لا ملامح لأية سرايات أو حتى أطلال لذلك سوى ذلك الاسم الفخيم "السراي" وقد لا يعي الكثيرون لماذا يطلق على تلك المحطة التي تسبق المحطة الرئيسية الشهيرة في خط ترام الرمل محطة "سيدي بشر" مسمى محطة "السراي" والتي وإن كانت لتلك المنطقة سمات مميزة لها ، فإن السمة الأساسية لها هو الهدوء والرقي حيث مازالت بعض آثار الماضي القريب من فيلات وحدائق قائمة ببعض الشوارع الداخلية بالمنطقة ، ولكن مع ذلك لا أثر بالمنطقة لسرايا أو حتى لقصور فخيمة .
- يرجع مسمى تلك المنطقة بالفعل إلى وجود سراي كبيرة هامة ، كانت من أولى السرايا التي بنيت في منطقة "الرمل" على الإطلاق ، فحتى عام 1858م وعلى الرغم من التطور الذي شهدته الإسكندرية في عهد الوالي "محمد علي باشا" وخلفاءه من الولاة "عباس" ومن بعده "سعيد" ، إلا أن ضاحية "الرمل" لم تكن سوى صحراء تنتشر فيها الكثبان الرملية المتصلة وتتناثر فيها واحات صغيرة فقيرة يأوى إليها بعض الأعراب في مواسم الإمطار ثم ينتقلون نحو الجهات الرطبة الخضراء جنوباً بمديرية "البحيرة" بحثاً عن مراع لأغنامهم وأبلهم ، وكان وراء تلك الكثبان قرية صغيرة تسمى "الرملة" يعمرها قليل من السكان ، وكانت الحكومة المصرية تعتبر تلك المنطقة من المناطق العسكرية التي لا يجوز لغير أهلها الأنتشار فيها إلا بإذن خاص من السلطات ، وكانت تقوم في تلك المنطقة فضلا عن قرية "الرملة" أو كما أطلق عليها "الرمل" عدة قرى أخرى صغيرة هي قرى "الحضرة" و"السيوف" و"المندرة" إضاف إلى منطقة "أبو قير" المشهورة تاريخياً وفي نهايات عهد والي مصر "محمد سعيد باشا" وبدايات عهد الخديوي المتفرد "إسماعيل زاد عدد السكان بالإسكندرية من الجاليات الأجنبية والسكان الأصليين على التوازى، كما زاد بالتالي عدد سكان تلك القرى الواقعة شرق المدينة ، ونتيجة لتلك الزيادات بدأ التطلع إلى التوسع نحو الشرق حيث الأراضي المتسعة الرخصية الثمن ، وبخاصة مع مد خط السكك الحديدية ما بين القاهرة والإسكندرية

والذي مر بجهة "الرمل" وبالقرب من قراها ، فضلاً عن توافر مياه الشرب بعد مد ترعة "المحمودية" ومع البدء في تركيب "وابور مياه" رئيسي بالمدينة بعد أن صرح والي مصر "محمد سعيد باشا" بذلك عام 1858م لتنقية المياه وتوصيلها للمنازل ، كل ذلك أدى إلى زحف العمران تدريجياً نحو الشرق حتى بدأت تلك القرى الصغيرة في الألتحام بالمدينة الأصلية وضاحية الرمل ، فكان الأمتياز الذي تم منحه للسير "إدوارد سان جون فيرمان" في 16 أغسطس عام 1860م، ليتم تأسيس شركة خاصة بذلك في 16 أبريل عام 1862م تنازل لها السير "فيرمان" عن حق الإمتياز مقابل منحه 30% من الأرباح ليتم في سبتمبر من ذات العام مد أول قضبان حديدية بجهة (مسلة كليوباترا) ميدان "محطة الرمل" حالياً ليتم افتتاحه في 8 يناير عام 1863م لينقل المواطنين بقطار واحد من الإسكندرية (محطة الرمل حالياً) إلى محطة "بولكلي" الحالية.
- ومع تولي الخديوي "إسماعيل" سدة الحكم عام 1863م كان له الفضل الأكبر في تعمير حي "الرمل" حيث كانت بداية الخطى المتسارعة لتشييد عدد من القصور كان أهمها على الإطلاق "سراي الرمل"
التي شيدها "إسماعيل" في موقع على ربوة تطل على ساحل البحر في منطقة محطة "السراي" الحالية كما قام "إسماعيل" بتعمير المنطقة المجاورة لها بالكامل حيث قام بمد شارع كبير يبدأ من منطقة باب رشيد (باب شرقي حالياً) وينتهي إلى حدود "الملاحة" بأول ناحية قرية "المندرة" ليمر بمنطقة "سراي الرمل" (وهو الأساس الذي تكون عليه شارع أبو قير أهم شوارع الإسكندرية على الإطلاق في العصر الحالي حيث سمي بطريق أبو قير كونه يصل ما بين المدينة الأصلية وصولاً لضاحية أبو قير في أقصى الشرق)، كما غرس على جانبيه الأشجار المظللة فتشجع أفراد أسرته على بناء العديد من السرايات الأخرى بالرمل ومن أشهرهم "مصطفى باشا فاضل" ولي العهد في بدايات عهد الخديوي "إسماعيل" وشقيقه، حيث ابتنى لنفسه سراي ضخمة من منطقة من مناطق حي "الرمل" حملت اسمه بعد ذلك بمسمى "مصطفى باشا" ( والتي استخدمت كثكنات لجيش الاحتلال الإنجليزي بالإسكندرية في أعقاب الأحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م وحتى جلاءهم عنها عام 1947م ، وتشغلها في الوقت الراهن قيادة المنطقة العسكرية الشمالية بمصطفى كامل) .
- وتنتسب بذلك منطقة "السراي" الحالية إلى تلك السراي التي شيدها الخديوي "إسماعيل" لتصبح مقراً لإقامته في "الإسكندرية" لتضاف بذلك إلى القصر الشهيرة في منطقة "رأس التين" ، ولتصبح "سراي الرمل" هي المصيف الرئيسي للخديوي ، حيث يجعل ذلك من تلك الضاحية "الرمل" المصيف الرئيسي للقطر المصري ، حيث أتخذها خلفاء "إسماعيل" مقراً لإقامتهم في الإسكندرية في عهد الخديوي "توفيق" وخلفه الخديوي "عباس حلمي الثاني" والذي أفتتن بالمكان وجعله نزلاً دائماً له حيث مد خط الترام إلى تلك المنطقة وجعلها قاعدة لاستكشافه المناطق المتاخمة ومنها منطقة "قصر المنتزه" التي عمرها الخديوي "عباس حلمي الثاني" عام 1892م حيث شيد القصر وغرس حدائقه، كما مد خط خاص له من محطة "السراي" إلى محطة "المحمدية" (محطة فيكتوريا أو النصر حالياً)

وذلك في عام 1904م، ليصبح خطا خاصا به ، قبل أن يفتتح للجمهور عام 1909م .
- وتظل "السراي" قائمة بالرمل خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين حتى يتم في أعقاب قيام ثورة يوليو عام 1952م تحويلها إلى ثكنة عسكرية ، وليطلق عليها مسمى "طابية السراي" أو "طابية سيدي بشر" بعد أن تم تحصينها خلال فترة الحرب العالمية الثانية ، وكذلك خلال حروب عامي 1956م و 1967م ، ولتصبح إحدى نقاط الدفاع عن مدينة الإسكندرية ولتستمر كذلك حتى يتم حصرها ضمن المناطق الحضارية ذات القيمة الأثرية في الحصر الصادر عن جهاز التخطيط الشامل للمدينة عام 1984م، إلا أنه بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتحرير سيناء عام 1982م، وإنتهاء حالة الحرب ما بين مصر والعدو الإسرائيلي يتم هدم تلك "الطابية" (بقايا سراي الرمل) خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين ليحل محلها فندق خاص بالقوات البحرية (فندق المحروسة)

ويشيد على الربوة المجاورة مجموعة من العمارات الخاصة ليندثر بذلك كل ما تبقى من "سراي الرمل" من الوجود ويتبقى منها فقط المسمى والذكرى
، ليذكر السكندريين بصفحة من صفحات التاريخ المصري الحديث ، كانت الإسكندرية وأحيائها مسرحاً لوقائعه وأحداثه .

الثلاثاء، يناير 04، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى ( نظم التعليم و انتشار ذهنية العنف ) - الجزء الثالث



إن نظمُ التعليمُ مُنبتَّة الصلة بالعصرِ هي حلقةٌ أساسيةٌ من حلقاتِ مسلسل التدمير هذا : فنظمُ التعليم في معظمِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ تكرس العزلة عن مسار الإنسانية (وهو مسار لا جنسية له) وتكرس التعصب وتضع (بشكل غير علمي) أُسسًا دينية لصراعاتٍ هي في الحقيقةِ "سياسية بحتة" وتقدم من الدين ما هو منزوع من إطاره بحيث يكرس عدم التسامح وقبول الآخر والإيمان بالتعددية كما يكرس "المكانة الدونية للمرأة" .. كما تقوم معظم هذه البرامج على خلق "ذهنية الإجابة" وليس "ذهنية السؤال" (في عالمٍ يقوم التقدم فيه على أساس فعاليات "ذهنية السؤال") .. كذلك تخلو برامج التعليم في معظم المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ مما يرسخ في أذهانِ وعقولِ أبناءِ وبناتِ المجتمع أن "التقدمَ" "عمليةٌ إنسانيةٌ" بمعنى أن آلياتِ التقدمِ "إنسانيةٌ" وليست شرقية أو غربية – والدليل على ذلك أن قائمةَ الدولِ الأكثر تقدمًا تضم دولاً غربية/مسيحية (كالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا) ودولاً أخرى تنتمي لخلفياتٍ يابانية أو صينية أو مسلمة (مثل ماليزيا). وفي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، فإن الإنسلاخَ عن مسارِ الحضارةِ الإنسانيةِ يتفاقم. لقد ذكرت في محاضرةٍ لي بجامعة اكسفورد (يوم 16 أكتوبر 2003) إنني طالعت (في الستينات) معظم كلاسيكيات الإبداع الإنساني من هوميروس (قبل الميلاد) إلى "سارتر" (ومرورًا بعشراتِ الأسماءِ واللغاتِ والخلفياتِ) .. طالعتُ كل ذلك (مثل آخرين من أبناء جيلي) باللغةِ العربيةِ .. وهو ما أثمر تواصلاً بيننا وبين الإنسانيةِ وإبداعاتها لا يتصور وجوده اليوم والساحة الثقافية في المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ شبه خالية مما كانت ذاخرةً به من ترجماتٍ فذةٍ لروائعِ الإبداعِ الإنساني. لقد ذهل جمهور المحاضرة عندما قلت لهم إنني (مثل آخرين من أبناء جيلي) قرأنا اسخيلوس وارستوفان ويوروبيدوس وسوفوكليس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وراسين وموليير وفولتير وجان جاك روسو وجل الاعمال الروائية الروسية وفلوبير وبلزاك وبرناردشو وبيرانديللو والبير كامو وستاينبيك وفوكنر وعشرات غيرهم وعيون الفلسفة الألمانية بالعربية في كتب كان مترجموها في الأساس من مصر وسوريا ولبنان وناشروها في الأساس لبنانيون أو مصريون. والرسالةُ هنا هي أن الفجوة بين "عقولِ" أبناءِ وبناتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ وبين روائع الإبداع الإنساني قد ازدادت اتساعًا كما أن هؤلاء أصبحوا "محليين" بدرجةٍ كبيرةٍ جدًا، وهو ما يدعم ثقافة التباعدِ عن الإنسانيةِ وهو ما يناسب للغاية "ذهنية العنف" و"ثقافتها".
١.4
توجد إحصائياتٌ تقول إن رُبعَ المنخرطين في العملية التعليمية / الدراسية في مصرَ اليوم من تلاميذٍ وطلابٍ إنما يدرسون في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ (مدارس ومعاهد وكليات أزهرية) . كما أن هناك إحصائياتٍ أخرى تنخفض بهذا العدد إلى الخُمس . وأخيرًا فقد رأيت إحصائيات تنخفض بهذا العدد إلى السُدس . وبافتراض أن الإحصائية التي تُعبر عن الواقع هي السُدس (أكثر قليلاً من 16%) (وهي أقل الإحصائيات) فإن ذلك يعني أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين تلميذ وطالب يتلقون تعليمهم من البداية إلى النهايةِ في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ . وقد يزداد هذا الرقم إلى أربعة ملايين أو خمسة ملايين إذا أخذنا بالإحصائيات الأخرى . ولا شك أننا هنا أمام ظاهرة تعليمية (ذات أبعادٍ ونعكاساتٍ ونتائجٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ) تستحق التأمل والتحليل (بل والدراسة) .

وهذه الحقيقة تُملي على الناظر فيها سؤالاً بالغ الأهمية : "لماذا!" ... وأعني لماذا يقوم مُجتمعٌ مثل المُجتمع المصري بتوجيه هذه الاعداد الكبيرة لمؤسسات تعليمية دينية ؟... ومع السؤال "لماذا؟" يبرز سؤال آخرٌ : مالذي أوصلنا لهذا الحال !... أهي خطة موضوعة !... أم تداعيات لواقعٍ لا يحكمه التخطيطُ الاستراتيچي وإنما وجود واقع أملته ردود الفعل و البيروقراطية ؟ .

أما عن "لماذا؟" ... فمن الواجب أن نعرف أنه باستثناء السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن السعيد , فإن باقي دول العالم (أكثر من مائتي دولة) لا توجد فيها مثل هذه الظاهرة ولا مثل 10% منها . وبالتالي فإن السؤال يكون : إذا كنا نفعل ذلك , فهل معناه أننا لا نريد أن نكون (تعليميًا وبالتالي ثقافيًا) مثل اليابان وسنغافورة وفرنسا وكندا وأسبانيا وإنما نريد أن نكون (تعليميًا وبالتالي ثقافيًا) مثل السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن ؟ . هل هذا ما نريده ؟ وهل هذا ما صغناه في سياسةٍ إستراتيچيةٍ للتعليم نُدرك معناها ومغزاها وإفرازاتها ؟ .

أغلب الظن أنه لم تكن لنا سياسة استراتيچية تعليمية تهدف لأن يُصبح "ربع" أو "خمس" أو "سُدس" المُنخرطين في العملية التعليمية لدينا من تلاميذ وطلاب المؤسسات التعليمية الدينية . بل أكاد أُجزم أنه لم تكن لدينا مثل هذه السياسة الاستراتيچية التعليمية : لا هي ولاغيرها . وأكاد أَجزم بأننا وصلنا لهذا الحال بفعل تداعيات الأمر الواقع والبيروقراطية . فقد أوجدنا تلك الغابة الواسعة الشاسعة من المؤسسات التعليمية الدينية كرد فعل عشوائي لمشكلات مثل: إيجاد مؤسسات تعليمية قريبة من أبناءِ وبنات سكان المدن الصغيرة والقرى والنجوع ... وأيضًا كمكانٍ لإيواءٍ (تعليميَّ) للتلاميذ الذين لم يكن بوسعهم (ماديًا) أو (تعليميًا) الانخِراط في التعليم العام . وإذا كان الأمر كذلك (وأظن أنه كان كذلك) فإننا نكونُ هنا مُنسجمين مع طريقتنا في التعامل مع أشياء أخرى عديدة .

لقد تكونت لدي (وأنا أُعد لكتابة هذا الفصل) مجموعة من الحقائق المُخيفة . من أهمها أننا أنشأنا تلك الشبكة من التعليم الديني فيما يمكن وصفه بالحل الأدنى لمشكلات الطبقات الأدنى في المجتمع والطوائف الاقل نجاحًا في التحصيل والتعليم . وإذا كان ذلك كذلك , فمعناه (إستراتيچيًا) أننا نضخ أعدادًا كبيرة من المطحونين اقتصاديًا واجتماعيًا والاقل في القدرات التحصيلية داخل منظومة تعليمية دينية ديناصورية الحجم . وأغلب الظن أننا فعلنا ذلك دون أن نبذل أي جهد لاستقراء ودراسة النتائج الاستراتيچية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لمثل هذا الخيار على كل مُجتمعنا وعلى حالِ ومُستقبل هذا المجتمع .

لسنواتٍ طويلةٍ كنتُ أسألُ العشرات بل المئات من صغار الموظفين والعاملين : "هل يذهب أولادكم للتعليم الأزهري؟"... وكان الجواب عادةً ما يأتي بالاستنكار والاستنكاف والرفض . وهو ما أعطاني شعورًا قويًا (وقد أكون مخطئًا) بأن التعليم الديني لدينا هو ملجأ لمن لم يكن أمامه (من حيث القدرات الاجتماعية أو الذهنية) إلا هذا الملجأ الأخير . ومرة أخرى أقول : إذا كان الأمر كذلك , فإن النتائج الاستراتيچية ستكون وخيمة العاقبة . فهل درسنا تلك العواقب أم أننا تركناها لثقافة الارتجال السائدة منذ عقود .

وإذا كان مُجتمعنا قد ضربته خلال العقود الأخيرة موجةٌ عاتيةٌ لفهم بدائي وماضـوي للديـن ... فهل قام بعضنا بدراسة العلاقة بين هذه الموجة وبين الفلول الكبيرة التي درست في المؤسسات التعليمية الدينية وكانت - من الأساس – مؤهلةً للانضواءِ في هذه الموجة من الفهم المحدود والبسيط والماضوي للدين؟

وهل نظر أحدٌ من الدراسين الاستراتيچيين لدينا للظاهرة من زاوية أخرى وتساءل :... ما هو أثر انخراط تلك الاعداد الهائلة من المصريين والمصريات في التعليم الديني على أحوالنا العلمية والتكنولوچية والصناعية والتجارية ؟ وإذا كانت دول أخرى قد توسعت في التعليم الديني بما أوجد في النهاية كادرًا من رجال الدين يَحولون دون انخراط المجتمع في مسيرة التقدم , فإن السؤال يكون : هل نرى كم أصبحنا غير بعيدين عن تلك الحالة ؟ .

وهل تأملنا التعليم الديني لدينا من المنظور التالي : إن قيم التقدم هي مجموعة من القيم التي لا يخلو منها مجتمع ذو حظٍ طيبٍ من الازدهار , ومن أهمها الإيمان بالتعددية والإنسانية والغيرية وعالمية المعرفة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة . وقد قضيت عشرات الساعات أُراجع المقررات والبرامج الدراسية للتعليم الأزهري لا سيما في مجالات النصوص والثقافة والأدب واللغات , فوجدت هذه البرامج والمقررات إما أنها خالية من عملية بذر وغرس تلك القيم خلوًا تامًا , وإما أنها تُقدم وتغرس قيمًا مناقضة. فهل درسنا حجم المشكلة التي نخلقها بأيدينا لأنفسنا عندما نُفرز خريجين وخريجات قد غرست في ضمائرهم وعقولهم قيمًا تناقض قيم التقدم التي كان علينا أن نعمل على غرسها ؟ ومن المهم التذكير بأن التقدم هو أمرٌ مرهون بمجموعةٍ من القيم قبل إن يكون مرهونًا بإمكانات وموارد مادية .

وهل درس أحدٌ (من المنظور السياسي الاستراتيچي) احتمال أن نكون (بتبني هذا الحجم الكبير من المؤسسات التعليمية الدينية) إنما نخدم في النهاية توجهات تُعلن الدولة (وهي في هذا مُحقة تمامًا) أن هذه التوجهات هي أعدى أعداء المجتمع المدني لدينا – وأعني أن نكون نعمل في خدمةِ أعداء المجتمع المدني وأعداء التقدم وأعداء الانخراط في مسيرة إنسانية بل و نقوم كمجتمع - وكدولة - بتمويل كل ذلك . وهل نظر أحد في مجتمعنا لعواقب وجود هذا الحجم من المؤسسات التعليمية الدينية على المناخ الثقافي العام وعلى السلام الاجتماعي وعلى طبيعة مُجتمعنا المصري كمجتمع من مجتمعات البحر المتوسط؟... أم أن كل ذلك لم يحظ بأي اهتمام من أي أحدٍ ومن أي جهةٍ .

١.5
ومن الغريبِ، أن كلَ الكتاباتِ التي تعرضت خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ للعنفِ المتنامي في عددٍ غيرِ قليلٍ من المجتمعاتِ الإسلامية والعربية لم تستعمل مصطلح (الكفاءة) أو مصطلح (عدم الكفاءة) في تحليلِها لهذه الظاهرةِ. ويستوي في ذلك أن يكون الكاتبُ أستاذًا بجامعةٍ عريقةٍ مثل صموئيل هانتنجتون (الاستاذ بجامعة هارفارد)

أو صحفي، فلم يحدث أن طالعت هذه الكلمة المفتاح (Key word) في كل ما طالعته. ويذكرني هذا بما قلته في محاضرةٍ منذ عدة سنوات (لطلاب الماجستير في الإدارة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، إذ ذكرت إنني دونت مائة حديث بيني وبين آخرين عن شخصياتٍ عامةٍ محليةٍ ودوليةٍ عديدةٍ – ولاحظت أيضًا أن كلمة "كفاءة" لم ترد بأي شكلٍ من الأشكالِ في أحاديثِ التقييم المائة - رغم أن صنعَ المشكلاتِ (عند رجلِ إدارةٍ مثلي) ينبع من (عدمِ الكفاءةِ) وأن صنعَ النجاحِ بشتى صورِه ينبع من (الكفاءة). وفي اعتقادي أن يأسَ وقنوطَ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمعات الإسلامية والعربية والذي يوّلد "الغضب" ثم "العنف" في حالاتٍ كثيرة يكون بسبب أوضاعٍ نجمت من كون مجتمعاتهم تدار بكوادرٍ بشريةٍ اختيرت لولائها وانصياعها وليس لكفاءتها، إذ أن الكفاءةَ (بالمعنى المعروف في علوم الإدارة الحديثة) لا تشغل بال أي نظامٍ سياسي أوتوقراطي.

بين أتباعِ كل دينٍ مساحةٌ للتشددِ وداخل مساحةِ التشددِ هامشٌ للتطرفِ وداخله مساحةٌ للغلو في التطرفِ. ويمكن لمؤرخي الأديان أن يعرضوا على القراء هذه المساحات والتي تتصل بالطبيعةِ البشريةِ أكثر من اتصالِها بالأديان في حدِ ذاتِها: فلا يوجد دين يحضُ على العدوانِ على الآخرين ولا يوجد دين يشجع العنفَ واستعمالَه في حقِ الأبرياءِ ولا يوجد دين يعطى البعضَ حقوقًا لا يمكن تصور أن تكون لبشرٍ. ويمكن لعددٍ من المؤرخين المصريين أن يعرضوا للقراء صورًا من أتباعِ عددٍ من المذاهبِ الباطنيةِ التي أفرز بعضُها صورًا بالغة التطرفِ، فمن بين أتباع الصحابى الجليل المشهود له بعظيم الخلق والعلم على بن أبي طالب خرجت مجموعةٌ تؤثمه لرأيٍّ سياسيٍّ رآه وهو قبول التحكيم في معركةِ صفين، وهؤلاء هم أَصل فرقةِ الخوارج التي تشعبت في التأثيم والتجريم والتحريم. وهناك القرامطة الذي قاموا بخطف الحجر الأسود وإبعاده عن مكانه المقدس عند كل المسلمين لسنين عديدة. وفي أواخرِ القرنِ الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر وجدت فرقة أخرى أصبحت رمزًا للتشددِ والتضييقِ والتأثيمِ والتجريمِ والتحريمِ اكتست توجهاتُها بثقافةِ البداوةِ مع ثقافةِ القبليةِ الموغلةِ في المحافظةِ. وفي مواجهةِ هذه الفرقة كان هناك (إسلام مصر) المعتدل والراقي وصاحب التراث العتيد في قبول التعددية وآثارها. وكانت النتيجةُ أن قامت مصرُ خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرن التاسع عشر بمواجهةٌ حربيةٌ عارمة بين (مذهب الغلو الصحراوي) و (إسلام مصر) عندما أرسل محمد على جيشهَ بقيادةِ ابنه طوسون
في البداية ثم بقيادة ابنه العظيم إبراهيم بعد ذلك ليقوم بتصفيِةِ دولة الغلو والتطرف وذيوع التأثيم والتجريم والتحريم. ولم تكن هذه المعركة بين جيشين وإنما كانت في حقيقتها حربًا بين (فهمٍ صحراويٍّ متطرفٍ للإسلام) و (إسلام مصر الحضاري العظيم) ... وانتهت المعركة بهزيمة نكراء لقوى التعصب والغلو والتطرف... والتي نزلت إلى (ما تحت الأرض) لتعود بعد ذلك في أدبيات تيارٍ سياسيٍّ يزعم أنه (الإسلام) ويرى معظم المصريين أنه (فهم محدود وضيق ومتطرف إلى أبعد الحدود للإسلام).

وهدفُ هذا الفصل هو دعوة المصريين قاطبةً لأن يعتزوا بالنموذج الذي قدمته مصرُ للإسلام: نموذج السماحة والإيمان بأن التعدديةِ هي ملمحٌ من ملامحِ الحياةِ والقبول بآثارِ ونتائج الإيمان بالتعددية... وعدم إطلاق صفة الكفار على المسيحيين واليهود لأن هؤلاء ببساطة (أهل كتاب) حسب التعبير القرآني، والإيمان بأن العدوان على الآخرين "جريمة" مثل العدوان على المسلمين... وهدف هذا الفصل أن يدعو كلَ مصريٍّ ومصريٍّة لعدم خلط الأوراق : فالمصريُّ المعتدل بطبيعته لا يمكن أن يدفعه استنكارُه للعدوان على الفلسطينيين ولا يدفعه الغضبُ من عدمِ عدالةِ عددٍ من سياساتِ الولايات المتحدة لكي يكفر بنموذجه الحضاري للإسلام ويؤمن بالنموذج المخالف لركائز طبيعته الحضارية والثقافية، فالعنف وقتل الأبرياء والعدوان على أرواحهم وأموالهم واستحلال العنف غير المبرر على الآخرين والرجوع بالمجتمع لظلام عصور ما قبل التاريخ ... ومعاملة المرأة كالدواب... وتحريم منتجات العلم والحضارة الإنسانية كل ذلك يخالف كليةً التوسطية المصرية والاعتدال المصري وباختصار فإنه يخالف إسلامَ مصرَ ومسيحيتها في نفسِ الوقت وبنفسِ القدر (وهنا، فإنني أدعو القراء لتأمل الفارق بين موقف طالبان القائل بأن المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين يُعتبرون (كفارًا) بل إن طالبان تجزم بأن "الشيعة" كلهم أيضًا (كفار)... وليقارن القراء هذا الموقف بفهم المصريين المعتدل أن المسيحيين واليهود (ولا شك أيضًا الشيعة) ليسوا (كفارًا) وإنما المسيحيون واليهود (أهل كتاب) أما (الشيعة) فإخوة في الإسلام وإن اختلفت الآراء معهم في مسائل ولكن من المستحيل وصفهم بالكفار...

إن أهم مهامنا الثقافية في الحاضر والمستقبل إن نعمل جاهدين على الرجوعِ الكليِّ لفهمِ المصريين للدين والذي استمر قرونًا طويلة والعودة بالكلية لإسلام مصرَ الذي ينفر من كل نماذج التطرف والغلو (وأهمها الفكر الذي أنتج الدمار الأفغانستاني) بقدر نفورِه من العنفِ والظلمِ والفظاظةِ التي تأتى من جهاتٍ أخرى قد تكون متقدمةً علميًا ولكنها بحاجة لمزيدِ من الرقى إنسانيًا ... وفي كل الأحوال : فإنه لا يوجد مبررٌ واحدٌ يجعل مصريًا واحدًا أو مصرية واحدة يقبل النموذج الأهوجَ لفرقةٍ من فرق الإسلام السياسى هي التجسيد الواضح لما في الطبيعة البشرية من قدرةٍ (في ظل أي دين أو ثقافة أو حضارة) على إفرازِ أشكالٍ بالغةِ الغلو من الفظاظةِ والتطرفِ والميلِ الجارفِ للعنفِ والرجوع بالمجتمعاتِ لدرجاتٍ بالغةِ الغرابةِ من التخلف والبدائية.

وإذا كان التطرفُ من طبائعِ البشرِ وليس من طبائعِ المسلمين (إذ أنه وجد تاريخيًا في كل الأديان وفي ظل كل الحضارات والثقافات) فإن الحقيقة تبقى متجسدةً في أن المجتمعاتِ التي تعمل على خلقِ طبقةٍ وسطى واسعةِ وذات شروطٍ حياتيةٍ (سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ ) طيبةٍ تكون أَكثرَ تحصنًا أمام التطرف الذي يمكن أن تقل معدلات تواجده ولكنها لا تختفي مادامت البشريةٌ موجودةً على ظهرٍ الأرضٍ.

كذلك ينبغي على أبناء الوجه النبيل للإسلام المصري (والموجود أيضًا في العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى) أن يدركوا أن استعمالَ اسم الإسلام هو "حيلةٌ سياسيةٌ" لا أكثر ولا أقل: فعندما يقول أسامة بن لادن إنه لن يتوقف طالما بقيت الأحوالُ في فلسطين على ما هي عليه، فإن العاقلَ لا يملك إِلاَّ أن يوافق على رد الفلسطينيين العقلاء عندما قالوا: ومنذ متى كانت فلسطين هي قضيته؟ إنه باختصار شديد يضفي بعدًا نبيلاً على "حركةٍ سياسيةٍ بحتة" … ونفس الشئ يقال على العديد من التوجهات داخل "معسكر التطرف" الذي يسمى أصحابه أنفسهم بالإسلاميين، وهم في الحقيقة أصحاب مشروع سياسي صرف ركائزه خلطة من القبلية والبدائية والبداوة – وأن هذا المشروع يحتاج لأداةِ ترويجٍ …ولن يجد أصحابُ هذا المشروع أَداةَ ترويجٍ أفضل من مصطلح (المشروع الإسلامي)… والحقيقة أن كلَ مجموعاتِ التطرف والتي تتسمى باسم الإسلام هي مجموعاتٌ سياسيةٌ هدفها الوصول للحكم وتنفيذ مشروعها القائم على ركائز من القبلية والبدائية والبداوة وكراهة سيكوباتية للعلم والتقدم والحضارة (وكل ذلك الذي يكرهونه "إنساني" في المقام الأول). ومرة أخرى: فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدنية لا تخلق هذه المجموعات ولكنها تعطيها فرصًا أعظم وأكبر للترويج لمشروعها (السياسي) الذي سيعيد أي مجتمعٍ يُنكب بها لظروفِ ما قبل التاريخ كما أعادت "طالبان" أفغانستان إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير: فالظروف الحياتية للشعب الأفغاني أكثر من بائسة… ونظم الخدمات العامة والصحية شبه منعدمة، ووضع المرأة مزرٍ ومؤسف وخلال عقد واحد من الزمان سيكون كل نساء أفغانستان "أُميات"، والتعليم العصري للأطفال شبه غائب، وعدد الأفغان الذين قتلوا أو شوهوا على يد الأفغان (خلال ربع قرن للآن) أضعاف الذين قتلوا أو أصبحوا من ذوي العاهات على يدِ أيةِ قوةٍ أجنبيةٍ … وأي خلافٍ في الرأي يقود للإعدام…ونظرة واحدة لظروف الحياة المعيشية في أفغانستان تنبئ بما ستؤول إليه أمور وأحوال أية أُمةٍ يحكمها متطرفون جمعوا خلاصة التطرف والجهل والظلامية والفظاظة في سبيكة واحدة هي سبيكة يشمئز منها المصريُّ المسلم قبل غير المسلم لتعارضها الكلي مع فهمِه للدينِ والإنسانيِة والحضارِة.
٢

وإذا كانت "ذهنيةُ العنفِ" في نظري هي ثمرةَ عواملٍ داخليةٍ، فإن إقحامَها في موضوعِ "صراع الحضارات" هو (في اعتقادي) من قبيل "أدب الخيال" أكثر من كونه "تحليلاً فكريًا أو سياسيًا"… ولا أستبعد من ذلك عمل ذائع الصيت مثل كتاب صموئيل هانتنجتون . ولابد هنا من كلمة عن هذا الكتاب لارتباطه الوثيق بموضوع "ذهنية العنف" . لقد طالعت المقالَ الذي نشره هانتنجتون في أكتوبر 1992 بعنوان "صدام الحضارات؟" ثم جعله كتابًا أصدره في العامِ التالي (1993) بنفس العنوان ولكنه بدون علامة استفهام (والمعنى في غير ما حاجةٍ لشرحٍ). وقد حقق الكتابُ من الانتشارِ وإثارةِ الجدلِ والحوارِ ما لم يحققه كتابٌ آخر خلال تلك الفترة (وأستثني بالطبع الاعمال الروائية ذائعة الصيت) . ورغم استحالة أن أُصدر أحكامًا مثل التي صدرت (على نطاقٍ واسعٍ في العالم الإسلامي والعربي) عن المؤلفِ ونواياه وأهدافِه ودوافعِه - رغم استحالة إصداري لأحكامٍ كهذه – إلا أن ذلك لا يحول بيني وبين القول بإنني وجدتُ في الكتاب ما أعتقد أنها ثلاث غلطات كبرى:
أما الأولى، فهي أنه تكلم عن "الإسلامِ وفق الفهم الوهابي" وكأنه "الإسلام". والحقيقة أن الفهمَ الوهابي لم يكن تيارًا أساسيًا في الإسلامِ حتى إبرام الحلف الذي أُبرم بين محمد عبد الوهاب ومحمد بن سعود في النصف الثاني من القرن الثامن عشر . وقبل ذلك كانت هناك أفكار مماثلة للفهمِ الوهابي للإسلام ولكنها كانت هامشيةً بكل ما تعنيه الكلمةُ من معانٍ . أما التيارُ الأساسي في الإسلام (Main Stream Islam) فكان بعيدًا كل البعدِ عن الفهم الوهابي للإسلام وثقافة هذا الفهم – وإذا كانت الدولةُ العثمانية قد مثلت الإسلامَ سياسيًا (وكقوةٍ عظمى) لعدةِ قرون – فإن الدولةَ العثمانية والفهمَ الوهابي للإسلام لم تكن بينهما أية صلة أو علاقة إلا "العداء المطلق". . وقد كنت على استعدادٍ لقبولِ معظمِ ما قاله هانتنجتون عن الصدام قوى الاحتمال بين "الغرب" و"الإسلام" لو أنه استعمل كلمة "الإسلام الوهابي" عوضًا عن "الإسلام" . وأميل للاعتقاد بأن هانتنجتون غيرُ ملمٍ بتاريخِ وعواملِ وظروفِ تعاظم النموذج الوهابي لفهمِ الإسلام .
أما الثانية، فهي أنه لم يقدم أية أدلة قوية عن الصراع المرتقب بين "الغرب" والمجتمعات المنتمية للكونفوشيوسية – وكان هنـا يكتب مـا هـو أقـرب للأدب (وأدب هـ . ج . ويلز بالتحديد) منـه للتحليـلِ والفكرِ السياسي . كما أنه هنا يشبه نعوم تشومسكي الذي يقيم نظريةً سياسيةً على فرضيةٍ لا يوجد دليل واحد على صحتها – فهو يقول (أي تشومسكي) إن الولاياتِ المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تعيش من غير عدوٍ واضحٍ تتعرف على نفِسها من خلالـه ومن خـلال العداء معه – ويضيف أن هذا العدو كان (ما بين 1945 و1990) الكتلة الشرقية (أو الشيوعية) وأن الإسلامَ هو المرشح اليوم لهذا الدور (المسرحي!) . ولم يسأله أحد: وكيف نمت الولايات المتحدة الأمريكية نموها الاعظم ما بين 1500 و1900 دون أي انغماسٍ في الصراعاتِ الخارجيةِ ودون وجود أي عدو واضح لها خلال فترة تكوين واكتمال "الحـلم الأمريكـي"؟؟ وكيف وصل ونستون تشرشل لحافةِ اليأسِ وهو يحاول إقناع الولايات المتحدة (خلال السنتين من 1939 إلى 1941) بضرورةِ دخولِ الحربِ العالميةِ (في جانب الحلفاء) ولم يحقق له النجاح إلاَّ ضربة اليابانيين لبيرل هاربور في سنة 1941 – كيف لم تر الولاياتُ المتحدة العدو (وهي مجبولة حسب تنظير تشومسكي على الاستفادة من وجوده) إلاَّ بشق الأنفس؟!! ...: نحـن هنـا ببساطـة بصـدد "أدباء" لا "مفكرين" …
وأما الثالثة، فهي أنه لم يُفرد للحربِ العالميةِ الثانيةِ أيةَ مساحةٍ لائقةٍ في كتابه. رغم أن الحربَ العالمية الثانية (والتي هي أكبر حالة صدام في تاريخ الإنسانية) كانت بين أطرافٍ معظمها من بوتقة حضارية واحدة (الحضارة الغربية) كما أنها كانت داخل "العالم المسيحي" ولم يذكر أحدٌ (قط) أن "الدين" (كما يعتقد هانتنجتون) كان عاملاً من عوامل هذا الصراع الكبير (والذي كان في الأساس صراعًا بين الفاشية الأوروبية والديمقراطيات الأوروبية).
و أوضح دليل على خطأ الزعم بأن التيارات والجماعات العنيفة (المخاصمة للعصر والحداثة والداعية لعودة درامية للقرون الوسطى) هي"الإسلام" – أوضح دليل على خطأ هذا الزعم هو صورة عدد من المجتمعات الإسلامية الأساسية في مستهلِ القرنِ العشرين مثل مصر وسوريا الكبرى (وكانت تشمل وقتئذ لبنان) وتركيا. كانت تلك المجتمعات "مسلمةً" إلى حدٍ بعيدٍ ولكنها كانت أيضًا من أكثرِ المجتمعاتِ قبولاً للأقلياتِ، وكان بعضها يذخر بعدد لا مثيل له من الاقليات (الإسكندرية وبيروت والقاهرة مثلاً). وكان "قبول الآخر" وقبول "الحداثة" والاقبال على ثمارِ الإبداعاتِ الإنسانيةِ الكبرى واضحًا. في هذه البلدان (يومذاك) كان المثقفون يترجمون هوميروس وروائع المسرح اليوناني القديم وروائع الآداب الأوروبية الحديثة وعيون الفكر الإنساني (مثل ديكارت وجان جاك روسو وفولتير وديدرو ولوك وهوبز وكانط وهيجل وشونبهور ونيتشة .. وغيرهم) وكان الانسجامُ مع موجةِ الحضارةِ العظمى التي بدأت بعصر النهضةِ (الرينيسانس) كاملاً. ومع ذلك، كان مصريو وأتراك وسوريو تلك الفترة المسلمون لا يشعرون بأي تناقضٍ بين كونهم مسلمين وشغفهم بالحداثةِ وإبداعاتِ الحضارةِ الغربيةِ الماديةِ والثقافيةِ على السواء.
وفي هذا الدليل القاطع (المستمد من واقع كان موجودًا وحيًا) على أن الإسلامَ ليس هو جماعات العنف وحملة السيف (الذين يرجعون لنقطةِ انطلاقٍ جيوبوليتيكية شرحتها من قبل) بل و في هذا الدليل الواضح على أنه التيار الذي كان بمثابة التيار الأساسي في الإسلام Main Stream كان أَبعد ما يكون عن "الإسلام المحارب" Militant Islam الذي يعود عقليًا للفهمِ الوهابي للإسلام وانتشار لظروفِ التدهورِ في عددٍ من المجتمعات الإسلامية (نظريتنا التي أوضحناها: "نظام سياسي أوتوقراطي" يؤدي لشلل كلي للحراك الاجتماعي .. بما يؤدي لشيوع "عدم الكفاءة" .. بما يؤدي لانخفاض كل المستويات .. بما يؤدي لليأس والذي في ظلِ نظمٍ تعليمٍ وإعلامٍ متخلفةٍ ينتج "ذهنية العنف" ومناخ ثقافي عام يقبلها هو ما سميته "ثقافة ذهنية العنف".
وباختصارٍ شديدٍ، فبينما كان الإسلامُ غير الوهابي يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ تعيش عصرها في مصر وسوريا ولبنان وتركيا ويتفاعل فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود ومستحدثات العصر، فإن الفهمَ الوهابي للإسلام لا يتصور أن يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ مثل الإسكندرية والقاهرة واسطنبول وبيروت ودمشق وحلب كما كانت تلك المدن في سنة 1900 على سبيل المثال. وعلى النقيض، فإن هذا الفهم النجدي للإسلام يجعل المسلمين (من أتباعه) في "حالة تصادمٍ دائمةٍ" مع الآخرين والعصرِ والحداثةِ .. ولا يُفهم لكلمةِ "الجهاد" معنىً إلاَّ حمل السيف في كلِ وقتٍ – رغم أن المسلمين غير الوهابيين كانوا عبر قرون عديدة يفهمون أن مصطلحَ "الجهاد" يعني استعمال القوة لدرءِ عدوانٍ عليهم. ناهيك عن أن المصدرَ اللغوي للكلمةِ لا علاقة له بالعنفِ المسلح. كذلك، فإن تصورَ اندماج المسلمين في الإنسانية وارد عند الفهم غير الوهابي للإسلام (لاسيما قبيل الذيوع الواسع للثقافة الوهابية خلال القرن الأخير) .. أما حسب الفهم الوهابي (وثقافته) فإن هذا الاندماج "مستحيل" و"مرفوض" ومرادف لمصطلحِ "التبعيةِ" الذي يروجه كلُ من سيطرت الثقافة الوهابية على تفكيرهِ. وإذا كانت لنظريةِ نعوم تشومسكي أن تكون صائبةً، فإنها تكون كذلك بالنظرِ لأصحابِ الفهمِ الوهابي للإسلام – فهم لا يستطيعون الوجود بمعزلٍ عن "عدوٍ كبيرٍ" يكون وجودُهم مرهونًا بوجوده!
وفي كل هذا ما يدحض أن "المنظومة الإسلامية" تؤدي حتمًا للعنفِ والصدامِ مع الآخرين – فتلك (من جهةٍ) خاصية "فصيل واحد" لم يكن له وجود يذكر (خارج صحراء نجد) منذ قرنٍ واحدٍ من الزمان، وتلك من جهة أخرى ليست من نسيج تيار الإسلام غير الوهابي الذي كان هو التيار الأساسي Main Stream في المجتمعات الإسلامية قبل حدوث الزلزالين: زلزال انتشار النموذج العنيف .. وزلزال تدهور مستويات الحياة في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية بالكيفية التي جعلت المناخ العام مناسبًا لفكر النموذج العنيف للإنتشار.
٣
إن إيماني بأن جذورَ "ذهنيةِ العنفِ" في الأساسِ "داخليةٌ" لا يمنعني من التطرقِ لعاملٍ مهمٍ في استفحالِ أمرِ ذهنيةِ العنفِ، وهو عامل خارجي وإن بقى "عامل انتشار" لا "عامل وجود". وأعني الاستعمال السياسي قصير النظر للتياراتِ النابعةِ من ذهنيةِ العنفِ. فقد كان مكتبُ المخابرات البريطانية (MI 6) بالهند وراء الحلف الذي كان يسعى وقتئذ (أوائل القرن العشرين) لتوحيد الجزيرة العربية تحت نظامٍ سياسي يستمد شرعيته من الفهم الوهابي للإسلام. وقد كانت الحركةُ النجدية المعروفة بالأخوان خلال عشرينيات القرن الماضي نموذج واضح لغلاةِ هذا التيـار – وهو ما حدا بالملك عبد العزيز بن سعود (مؤسس الحقبة السعودية الثالثة) للدخولِ في حربٍ معهم لا تهامهم إياه بالخروجِ عن صحيحِ الإسلامِ بسببِ قبولهِ لبعضِ مظاهرِ الحضارةِ الغربيةِ (الإذاعة .. السيارة … التليفون) وائتلاف الإنجليز والقصر في مصر بهدفِ خلقِ كيانٍ سياسي (يستمد شعبيته من شعبية الدين في مصر) يحدث توازنًا استراتيجيًا مع "الوفد" الذي كان يمثل ويقود (بأغلبيةٍ كبيرةٍ) النضال المصري من أجل الدستور والحياة البرلمانية والاستقلال – هذا "الائتلاف" هو أمرٌ معروفٌ لدارسي تاريخ مصرَ المعاصر. وهذه اللعبة (لعبة بعض الساسة بعفريت "ذهنية العنف") هي ما تكرر في مصرَ في سبعينيات القرن العشرين وما كررته الولاياتُ المتحدة الأمريكية في أفغانستان .. وكلها أمثلةٌ واضحةٌ على "عاملٍ خارجي" ساعد "ذهنية العنف" على أن تصل لدرجةٍ من النمو السياسي والعسكري ما كان بمقدورها أن تصل إليها لولا أن البعضَ قد ظن (تحت تأثير ظروفِ الحربِ الباردةِ) أن اللعبَ بهذه الورقةِ مربحٌ لا محالة .. فكما يقول المثل العربي "لا يفل الحديد إلاَّ الحديد". واليوم: فإن الصورةَ تبدو شبه مكتملة: و هي أن نشوءَ ذهنيةِ العنفِ هو أمرٌ مرهونٌ بعواملٍ داخليةٍ هي الأوتوقراطية وشلل الحراك الاجتماعي واختفاء الكفاءة وشيوع اليأس وتدعيم كل ذلك بأدواتِ نظمٍ تعليميةٍ وإعلاميةٍ مُنْبَتَّةُ الصلةِ بالعصرِ .. ثم جاء عاملٌ خارجي هو "أكبر غلطة حسابات في القرن العشرين" لتعطي ذهنيةَ العنفِ فرصةَ النمو السياسي والعسكري لحدود ما كان لها أن تبلغها لو لم يقرر البعضُ أن يستعملها في صراعاته استعمالاً كان يفتقر للحكمةِ وبعد النظرِ ودقةِ الحسابِ في كلِ الحالاتِ.
وهكذا: وجد العالم نفسه بعد القضاء على الفاشية والنازية، ثم القضاء على الشيوعية أمام مجابهة جديدة نجمت عن انتقال مقعد القيادة في عالم المسلمين من التيار الوسطي المعتدل (المصري والسوري والتركي والمغربي قبل قرن من الزمان) إلى سبيكة الوهابية/القطبية/البترودولارية الجديدة التي لا يمكن أن تنخرط في مسيرة الإنسانية والتقدم والتمدن كلاعب ضمن آخرين.
وعندما اغتالت مجموعةٌ متطرفةٌ الرئيس أنور السادات

كان ذلك رمزًا من رموزِ ذيوعِ وشيوعِ ونفوذِ وانتشارِ نموذج الفهم الوهابي للإسلام وبنفس القدر تراجع الفهم المصري/التركي/السوري للإسلام. ثم توالت أحداثٌ مماثلة تكرر الدليل بعد الدليل على أن الفهمَ السعودي للإسلام أصبح متسعًا ومنتشرًا ومؤثرًا في معظمِ المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من نيجيريا إلى الجزائر إلى مصر إلى الجزيرة العربية إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا.

وفي صباح 11 سبتمبر 2001 قام مجموعةٌ من المنتمين للفهمِ الوهابي للإسلام

بهجماتهم في نيويورك وفيرجينيا وغيرهما في أعمالٍ تمثل موقف الفهم الوهابي للإسلام من الآخر بوجهٍ عام ومن الحضارةِ الغربيةِ بوجهٍ خاص.