الثلاثاء، يناير 04، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى ( نظم التعليم و انتشار ذهنية العنف ) - الجزء الثالث



إن نظمُ التعليمُ مُنبتَّة الصلة بالعصرِ هي حلقةٌ أساسيةٌ من حلقاتِ مسلسل التدمير هذا : فنظمُ التعليم في معظمِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ تكرس العزلة عن مسار الإنسانية (وهو مسار لا جنسية له) وتكرس التعصب وتضع (بشكل غير علمي) أُسسًا دينية لصراعاتٍ هي في الحقيقةِ "سياسية بحتة" وتقدم من الدين ما هو منزوع من إطاره بحيث يكرس عدم التسامح وقبول الآخر والإيمان بالتعددية كما يكرس "المكانة الدونية للمرأة" .. كما تقوم معظم هذه البرامج على خلق "ذهنية الإجابة" وليس "ذهنية السؤال" (في عالمٍ يقوم التقدم فيه على أساس فعاليات "ذهنية السؤال") .. كذلك تخلو برامج التعليم في معظم المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ مما يرسخ في أذهانِ وعقولِ أبناءِ وبناتِ المجتمع أن "التقدمَ" "عمليةٌ إنسانيةٌ" بمعنى أن آلياتِ التقدمِ "إنسانيةٌ" وليست شرقية أو غربية – والدليل على ذلك أن قائمةَ الدولِ الأكثر تقدمًا تضم دولاً غربية/مسيحية (كالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا) ودولاً أخرى تنتمي لخلفياتٍ يابانية أو صينية أو مسلمة (مثل ماليزيا). وفي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، فإن الإنسلاخَ عن مسارِ الحضارةِ الإنسانيةِ يتفاقم. لقد ذكرت في محاضرةٍ لي بجامعة اكسفورد (يوم 16 أكتوبر 2003) إنني طالعت (في الستينات) معظم كلاسيكيات الإبداع الإنساني من هوميروس (قبل الميلاد) إلى "سارتر" (ومرورًا بعشراتِ الأسماءِ واللغاتِ والخلفياتِ) .. طالعتُ كل ذلك (مثل آخرين من أبناء جيلي) باللغةِ العربيةِ .. وهو ما أثمر تواصلاً بيننا وبين الإنسانيةِ وإبداعاتها لا يتصور وجوده اليوم والساحة الثقافية في المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ شبه خالية مما كانت ذاخرةً به من ترجماتٍ فذةٍ لروائعِ الإبداعِ الإنساني. لقد ذهل جمهور المحاضرة عندما قلت لهم إنني (مثل آخرين من أبناء جيلي) قرأنا اسخيلوس وارستوفان ويوروبيدوس وسوفوكليس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وراسين وموليير وفولتير وجان جاك روسو وجل الاعمال الروائية الروسية وفلوبير وبلزاك وبرناردشو وبيرانديللو والبير كامو وستاينبيك وفوكنر وعشرات غيرهم وعيون الفلسفة الألمانية بالعربية في كتب كان مترجموها في الأساس من مصر وسوريا ولبنان وناشروها في الأساس لبنانيون أو مصريون. والرسالةُ هنا هي أن الفجوة بين "عقولِ" أبناءِ وبناتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ وبين روائع الإبداع الإنساني قد ازدادت اتساعًا كما أن هؤلاء أصبحوا "محليين" بدرجةٍ كبيرةٍ جدًا، وهو ما يدعم ثقافة التباعدِ عن الإنسانيةِ وهو ما يناسب للغاية "ذهنية العنف" و"ثقافتها".
١.4
توجد إحصائياتٌ تقول إن رُبعَ المنخرطين في العملية التعليمية / الدراسية في مصرَ اليوم من تلاميذٍ وطلابٍ إنما يدرسون في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ (مدارس ومعاهد وكليات أزهرية) . كما أن هناك إحصائياتٍ أخرى تنخفض بهذا العدد إلى الخُمس . وأخيرًا فقد رأيت إحصائيات تنخفض بهذا العدد إلى السُدس . وبافتراض أن الإحصائية التي تُعبر عن الواقع هي السُدس (أكثر قليلاً من 16%) (وهي أقل الإحصائيات) فإن ذلك يعني أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين تلميذ وطالب يتلقون تعليمهم من البداية إلى النهايةِ في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ . وقد يزداد هذا الرقم إلى أربعة ملايين أو خمسة ملايين إذا أخذنا بالإحصائيات الأخرى . ولا شك أننا هنا أمام ظاهرة تعليمية (ذات أبعادٍ ونعكاساتٍ ونتائجٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ) تستحق التأمل والتحليل (بل والدراسة) .

وهذه الحقيقة تُملي على الناظر فيها سؤالاً بالغ الأهمية : "لماذا!" ... وأعني لماذا يقوم مُجتمعٌ مثل المُجتمع المصري بتوجيه هذه الاعداد الكبيرة لمؤسسات تعليمية دينية ؟... ومع السؤال "لماذا؟" يبرز سؤال آخرٌ : مالذي أوصلنا لهذا الحال !... أهي خطة موضوعة !... أم تداعيات لواقعٍ لا يحكمه التخطيطُ الاستراتيچي وإنما وجود واقع أملته ردود الفعل و البيروقراطية ؟ .

أما عن "لماذا؟" ... فمن الواجب أن نعرف أنه باستثناء السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن السعيد , فإن باقي دول العالم (أكثر من مائتي دولة) لا توجد فيها مثل هذه الظاهرة ولا مثل 10% منها . وبالتالي فإن السؤال يكون : إذا كنا نفعل ذلك , فهل معناه أننا لا نريد أن نكون (تعليميًا وبالتالي ثقافيًا) مثل اليابان وسنغافورة وفرنسا وكندا وأسبانيا وإنما نريد أن نكون (تعليميًا وبالتالي ثقافيًا) مثل السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن ؟ . هل هذا ما نريده ؟ وهل هذا ما صغناه في سياسةٍ إستراتيچيةٍ للتعليم نُدرك معناها ومغزاها وإفرازاتها ؟ .

أغلب الظن أنه لم تكن لنا سياسة استراتيچية تعليمية تهدف لأن يُصبح "ربع" أو "خمس" أو "سُدس" المُنخرطين في العملية التعليمية لدينا من تلاميذ وطلاب المؤسسات التعليمية الدينية . بل أكاد أُجزم أنه لم تكن لدينا مثل هذه السياسة الاستراتيچية التعليمية : لا هي ولاغيرها . وأكاد أَجزم بأننا وصلنا لهذا الحال بفعل تداعيات الأمر الواقع والبيروقراطية . فقد أوجدنا تلك الغابة الواسعة الشاسعة من المؤسسات التعليمية الدينية كرد فعل عشوائي لمشكلات مثل: إيجاد مؤسسات تعليمية قريبة من أبناءِ وبنات سكان المدن الصغيرة والقرى والنجوع ... وأيضًا كمكانٍ لإيواءٍ (تعليميَّ) للتلاميذ الذين لم يكن بوسعهم (ماديًا) أو (تعليميًا) الانخِراط في التعليم العام . وإذا كان الأمر كذلك (وأظن أنه كان كذلك) فإننا نكونُ هنا مُنسجمين مع طريقتنا في التعامل مع أشياء أخرى عديدة .

لقد تكونت لدي (وأنا أُعد لكتابة هذا الفصل) مجموعة من الحقائق المُخيفة . من أهمها أننا أنشأنا تلك الشبكة من التعليم الديني فيما يمكن وصفه بالحل الأدنى لمشكلات الطبقات الأدنى في المجتمع والطوائف الاقل نجاحًا في التحصيل والتعليم . وإذا كان ذلك كذلك , فمعناه (إستراتيچيًا) أننا نضخ أعدادًا كبيرة من المطحونين اقتصاديًا واجتماعيًا والاقل في القدرات التحصيلية داخل منظومة تعليمية دينية ديناصورية الحجم . وأغلب الظن أننا فعلنا ذلك دون أن نبذل أي جهد لاستقراء ودراسة النتائج الاستراتيچية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لمثل هذا الخيار على كل مُجتمعنا وعلى حالِ ومُستقبل هذا المجتمع .

لسنواتٍ طويلةٍ كنتُ أسألُ العشرات بل المئات من صغار الموظفين والعاملين : "هل يذهب أولادكم للتعليم الأزهري؟"... وكان الجواب عادةً ما يأتي بالاستنكار والاستنكاف والرفض . وهو ما أعطاني شعورًا قويًا (وقد أكون مخطئًا) بأن التعليم الديني لدينا هو ملجأ لمن لم يكن أمامه (من حيث القدرات الاجتماعية أو الذهنية) إلا هذا الملجأ الأخير . ومرة أخرى أقول : إذا كان الأمر كذلك , فإن النتائج الاستراتيچية ستكون وخيمة العاقبة . فهل درسنا تلك العواقب أم أننا تركناها لثقافة الارتجال السائدة منذ عقود .

وإذا كان مُجتمعنا قد ضربته خلال العقود الأخيرة موجةٌ عاتيةٌ لفهم بدائي وماضـوي للديـن ... فهل قام بعضنا بدراسة العلاقة بين هذه الموجة وبين الفلول الكبيرة التي درست في المؤسسات التعليمية الدينية وكانت - من الأساس – مؤهلةً للانضواءِ في هذه الموجة من الفهم المحدود والبسيط والماضوي للدين؟

وهل نظر أحدٌ من الدراسين الاستراتيچيين لدينا للظاهرة من زاوية أخرى وتساءل :... ما هو أثر انخراط تلك الاعداد الهائلة من المصريين والمصريات في التعليم الديني على أحوالنا العلمية والتكنولوچية والصناعية والتجارية ؟ وإذا كانت دول أخرى قد توسعت في التعليم الديني بما أوجد في النهاية كادرًا من رجال الدين يَحولون دون انخراط المجتمع في مسيرة التقدم , فإن السؤال يكون : هل نرى كم أصبحنا غير بعيدين عن تلك الحالة ؟ .

وهل تأملنا التعليم الديني لدينا من المنظور التالي : إن قيم التقدم هي مجموعة من القيم التي لا يخلو منها مجتمع ذو حظٍ طيبٍ من الازدهار , ومن أهمها الإيمان بالتعددية والإنسانية والغيرية وعالمية المعرفة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة . وقد قضيت عشرات الساعات أُراجع المقررات والبرامج الدراسية للتعليم الأزهري لا سيما في مجالات النصوص والثقافة والأدب واللغات , فوجدت هذه البرامج والمقررات إما أنها خالية من عملية بذر وغرس تلك القيم خلوًا تامًا , وإما أنها تُقدم وتغرس قيمًا مناقضة. فهل درسنا حجم المشكلة التي نخلقها بأيدينا لأنفسنا عندما نُفرز خريجين وخريجات قد غرست في ضمائرهم وعقولهم قيمًا تناقض قيم التقدم التي كان علينا أن نعمل على غرسها ؟ ومن المهم التذكير بأن التقدم هو أمرٌ مرهون بمجموعةٍ من القيم قبل إن يكون مرهونًا بإمكانات وموارد مادية .

وهل درس أحدٌ (من المنظور السياسي الاستراتيچي) احتمال أن نكون (بتبني هذا الحجم الكبير من المؤسسات التعليمية الدينية) إنما نخدم في النهاية توجهات تُعلن الدولة (وهي في هذا مُحقة تمامًا) أن هذه التوجهات هي أعدى أعداء المجتمع المدني لدينا – وأعني أن نكون نعمل في خدمةِ أعداء المجتمع المدني وأعداء التقدم وأعداء الانخراط في مسيرة إنسانية بل و نقوم كمجتمع - وكدولة - بتمويل كل ذلك . وهل نظر أحد في مجتمعنا لعواقب وجود هذا الحجم من المؤسسات التعليمية الدينية على المناخ الثقافي العام وعلى السلام الاجتماعي وعلى طبيعة مُجتمعنا المصري كمجتمع من مجتمعات البحر المتوسط؟... أم أن كل ذلك لم يحظ بأي اهتمام من أي أحدٍ ومن أي جهةٍ .

١.5
ومن الغريبِ، أن كلَ الكتاباتِ التي تعرضت خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ للعنفِ المتنامي في عددٍ غيرِ قليلٍ من المجتمعاتِ الإسلامية والعربية لم تستعمل مصطلح (الكفاءة) أو مصطلح (عدم الكفاءة) في تحليلِها لهذه الظاهرةِ. ويستوي في ذلك أن يكون الكاتبُ أستاذًا بجامعةٍ عريقةٍ مثل صموئيل هانتنجتون (الاستاذ بجامعة هارفارد)

أو صحفي، فلم يحدث أن طالعت هذه الكلمة المفتاح (Key word) في كل ما طالعته. ويذكرني هذا بما قلته في محاضرةٍ منذ عدة سنوات (لطلاب الماجستير في الإدارة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة)، إذ ذكرت إنني دونت مائة حديث بيني وبين آخرين عن شخصياتٍ عامةٍ محليةٍ ودوليةٍ عديدةٍ – ولاحظت أيضًا أن كلمة "كفاءة" لم ترد بأي شكلٍ من الأشكالِ في أحاديثِ التقييم المائة - رغم أن صنعَ المشكلاتِ (عند رجلِ إدارةٍ مثلي) ينبع من (عدمِ الكفاءةِ) وأن صنعَ النجاحِ بشتى صورِه ينبع من (الكفاءة). وفي اعتقادي أن يأسَ وقنوطَ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمعات الإسلامية والعربية والذي يوّلد "الغضب" ثم "العنف" في حالاتٍ كثيرة يكون بسبب أوضاعٍ نجمت من كون مجتمعاتهم تدار بكوادرٍ بشريةٍ اختيرت لولائها وانصياعها وليس لكفاءتها، إذ أن الكفاءةَ (بالمعنى المعروف في علوم الإدارة الحديثة) لا تشغل بال أي نظامٍ سياسي أوتوقراطي.

بين أتباعِ كل دينٍ مساحةٌ للتشددِ وداخل مساحةِ التشددِ هامشٌ للتطرفِ وداخله مساحةٌ للغلو في التطرفِ. ويمكن لمؤرخي الأديان أن يعرضوا على القراء هذه المساحات والتي تتصل بالطبيعةِ البشريةِ أكثر من اتصالِها بالأديان في حدِ ذاتِها: فلا يوجد دين يحضُ على العدوانِ على الآخرين ولا يوجد دين يشجع العنفَ واستعمالَه في حقِ الأبرياءِ ولا يوجد دين يعطى البعضَ حقوقًا لا يمكن تصور أن تكون لبشرٍ. ويمكن لعددٍ من المؤرخين المصريين أن يعرضوا للقراء صورًا من أتباعِ عددٍ من المذاهبِ الباطنيةِ التي أفرز بعضُها صورًا بالغة التطرفِ، فمن بين أتباع الصحابى الجليل المشهود له بعظيم الخلق والعلم على بن أبي طالب خرجت مجموعةٌ تؤثمه لرأيٍّ سياسيٍّ رآه وهو قبول التحكيم في معركةِ صفين، وهؤلاء هم أَصل فرقةِ الخوارج التي تشعبت في التأثيم والتجريم والتحريم. وهناك القرامطة الذي قاموا بخطف الحجر الأسود وإبعاده عن مكانه المقدس عند كل المسلمين لسنين عديدة. وفي أواخرِ القرنِ الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر وجدت فرقة أخرى أصبحت رمزًا للتشددِ والتضييقِ والتأثيمِ والتجريمِ والتحريمِ اكتست توجهاتُها بثقافةِ البداوةِ مع ثقافةِ القبليةِ الموغلةِ في المحافظةِ. وفي مواجهةِ هذه الفرقة كان هناك (إسلام مصر) المعتدل والراقي وصاحب التراث العتيد في قبول التعددية وآثارها. وكانت النتيجةُ أن قامت مصرُ خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرن التاسع عشر بمواجهةٌ حربيةٌ عارمة بين (مذهب الغلو الصحراوي) و (إسلام مصر) عندما أرسل محمد على جيشهَ بقيادةِ ابنه طوسون
في البداية ثم بقيادة ابنه العظيم إبراهيم بعد ذلك ليقوم بتصفيِةِ دولة الغلو والتطرف وذيوع التأثيم والتجريم والتحريم. ولم تكن هذه المعركة بين جيشين وإنما كانت في حقيقتها حربًا بين (فهمٍ صحراويٍّ متطرفٍ للإسلام) و (إسلام مصر الحضاري العظيم) ... وانتهت المعركة بهزيمة نكراء لقوى التعصب والغلو والتطرف... والتي نزلت إلى (ما تحت الأرض) لتعود بعد ذلك في أدبيات تيارٍ سياسيٍّ يزعم أنه (الإسلام) ويرى معظم المصريين أنه (فهم محدود وضيق ومتطرف إلى أبعد الحدود للإسلام).

وهدفُ هذا الفصل هو دعوة المصريين قاطبةً لأن يعتزوا بالنموذج الذي قدمته مصرُ للإسلام: نموذج السماحة والإيمان بأن التعدديةِ هي ملمحٌ من ملامحِ الحياةِ والقبول بآثارِ ونتائج الإيمان بالتعددية... وعدم إطلاق صفة الكفار على المسيحيين واليهود لأن هؤلاء ببساطة (أهل كتاب) حسب التعبير القرآني، والإيمان بأن العدوان على الآخرين "جريمة" مثل العدوان على المسلمين... وهدف هذا الفصل أن يدعو كلَ مصريٍّ ومصريٍّة لعدم خلط الأوراق : فالمصريُّ المعتدل بطبيعته لا يمكن أن يدفعه استنكارُه للعدوان على الفلسطينيين ولا يدفعه الغضبُ من عدمِ عدالةِ عددٍ من سياساتِ الولايات المتحدة لكي يكفر بنموذجه الحضاري للإسلام ويؤمن بالنموذج المخالف لركائز طبيعته الحضارية والثقافية، فالعنف وقتل الأبرياء والعدوان على أرواحهم وأموالهم واستحلال العنف غير المبرر على الآخرين والرجوع بالمجتمع لظلام عصور ما قبل التاريخ ... ومعاملة المرأة كالدواب... وتحريم منتجات العلم والحضارة الإنسانية كل ذلك يخالف كليةً التوسطية المصرية والاعتدال المصري وباختصار فإنه يخالف إسلامَ مصرَ ومسيحيتها في نفسِ الوقت وبنفسِ القدر (وهنا، فإنني أدعو القراء لتأمل الفارق بين موقف طالبان القائل بأن المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين يُعتبرون (كفارًا) بل إن طالبان تجزم بأن "الشيعة" كلهم أيضًا (كفار)... وليقارن القراء هذا الموقف بفهم المصريين المعتدل أن المسيحيين واليهود (ولا شك أيضًا الشيعة) ليسوا (كفارًا) وإنما المسيحيون واليهود (أهل كتاب) أما (الشيعة) فإخوة في الإسلام وإن اختلفت الآراء معهم في مسائل ولكن من المستحيل وصفهم بالكفار...

إن أهم مهامنا الثقافية في الحاضر والمستقبل إن نعمل جاهدين على الرجوعِ الكليِّ لفهمِ المصريين للدين والذي استمر قرونًا طويلة والعودة بالكلية لإسلام مصرَ الذي ينفر من كل نماذج التطرف والغلو (وأهمها الفكر الذي أنتج الدمار الأفغانستاني) بقدر نفورِه من العنفِ والظلمِ والفظاظةِ التي تأتى من جهاتٍ أخرى قد تكون متقدمةً علميًا ولكنها بحاجة لمزيدِ من الرقى إنسانيًا ... وفي كل الأحوال : فإنه لا يوجد مبررٌ واحدٌ يجعل مصريًا واحدًا أو مصرية واحدة يقبل النموذج الأهوجَ لفرقةٍ من فرق الإسلام السياسى هي التجسيد الواضح لما في الطبيعة البشرية من قدرةٍ (في ظل أي دين أو ثقافة أو حضارة) على إفرازِ أشكالٍ بالغةِ الغلو من الفظاظةِ والتطرفِ والميلِ الجارفِ للعنفِ والرجوع بالمجتمعاتِ لدرجاتٍ بالغةِ الغرابةِ من التخلف والبدائية.

وإذا كان التطرفُ من طبائعِ البشرِ وليس من طبائعِ المسلمين (إذ أنه وجد تاريخيًا في كل الأديان وفي ظل كل الحضارات والثقافات) فإن الحقيقة تبقى متجسدةً في أن المجتمعاتِ التي تعمل على خلقِ طبقةٍ وسطى واسعةِ وذات شروطٍ حياتيةٍ (سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ ) طيبةٍ تكون أَكثرَ تحصنًا أمام التطرف الذي يمكن أن تقل معدلات تواجده ولكنها لا تختفي مادامت البشريةٌ موجودةً على ظهرٍ الأرضٍ.

كذلك ينبغي على أبناء الوجه النبيل للإسلام المصري (والموجود أيضًا في العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى) أن يدركوا أن استعمالَ اسم الإسلام هو "حيلةٌ سياسيةٌ" لا أكثر ولا أقل: فعندما يقول أسامة بن لادن إنه لن يتوقف طالما بقيت الأحوالُ في فلسطين على ما هي عليه، فإن العاقلَ لا يملك إِلاَّ أن يوافق على رد الفلسطينيين العقلاء عندما قالوا: ومنذ متى كانت فلسطين هي قضيته؟ إنه باختصار شديد يضفي بعدًا نبيلاً على "حركةٍ سياسيةٍ بحتة" … ونفس الشئ يقال على العديد من التوجهات داخل "معسكر التطرف" الذي يسمى أصحابه أنفسهم بالإسلاميين، وهم في الحقيقة أصحاب مشروع سياسي صرف ركائزه خلطة من القبلية والبدائية والبداوة – وأن هذا المشروع يحتاج لأداةِ ترويجٍ …ولن يجد أصحابُ هذا المشروع أَداةَ ترويجٍ أفضل من مصطلح (المشروع الإسلامي)… والحقيقة أن كلَ مجموعاتِ التطرف والتي تتسمى باسم الإسلام هي مجموعاتٌ سياسيةٌ هدفها الوصول للحكم وتنفيذ مشروعها القائم على ركائز من القبلية والبدائية والبداوة وكراهة سيكوباتية للعلم والتقدم والحضارة (وكل ذلك الذي يكرهونه "إنساني" في المقام الأول). ومرة أخرى: فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدنية لا تخلق هذه المجموعات ولكنها تعطيها فرصًا أعظم وأكبر للترويج لمشروعها (السياسي) الذي سيعيد أي مجتمعٍ يُنكب بها لظروفِ ما قبل التاريخ كما أعادت "طالبان" أفغانستان إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير: فالظروف الحياتية للشعب الأفغاني أكثر من بائسة… ونظم الخدمات العامة والصحية شبه منعدمة، ووضع المرأة مزرٍ ومؤسف وخلال عقد واحد من الزمان سيكون كل نساء أفغانستان "أُميات"، والتعليم العصري للأطفال شبه غائب، وعدد الأفغان الذين قتلوا أو شوهوا على يد الأفغان (خلال ربع قرن للآن) أضعاف الذين قتلوا أو أصبحوا من ذوي العاهات على يدِ أيةِ قوةٍ أجنبيةٍ … وأي خلافٍ في الرأي يقود للإعدام…ونظرة واحدة لظروف الحياة المعيشية في أفغانستان تنبئ بما ستؤول إليه أمور وأحوال أية أُمةٍ يحكمها متطرفون جمعوا خلاصة التطرف والجهل والظلامية والفظاظة في سبيكة واحدة هي سبيكة يشمئز منها المصريُّ المسلم قبل غير المسلم لتعارضها الكلي مع فهمِه للدينِ والإنسانيِة والحضارِة.
٢

وإذا كانت "ذهنيةُ العنفِ" في نظري هي ثمرةَ عواملٍ داخليةٍ، فإن إقحامَها في موضوعِ "صراع الحضارات" هو (في اعتقادي) من قبيل "أدب الخيال" أكثر من كونه "تحليلاً فكريًا أو سياسيًا"… ولا أستبعد من ذلك عمل ذائع الصيت مثل كتاب صموئيل هانتنجتون . ولابد هنا من كلمة عن هذا الكتاب لارتباطه الوثيق بموضوع "ذهنية العنف" . لقد طالعت المقالَ الذي نشره هانتنجتون في أكتوبر 1992 بعنوان "صدام الحضارات؟" ثم جعله كتابًا أصدره في العامِ التالي (1993) بنفس العنوان ولكنه بدون علامة استفهام (والمعنى في غير ما حاجةٍ لشرحٍ). وقد حقق الكتابُ من الانتشارِ وإثارةِ الجدلِ والحوارِ ما لم يحققه كتابٌ آخر خلال تلك الفترة (وأستثني بالطبع الاعمال الروائية ذائعة الصيت) . ورغم استحالة أن أُصدر أحكامًا مثل التي صدرت (على نطاقٍ واسعٍ في العالم الإسلامي والعربي) عن المؤلفِ ونواياه وأهدافِه ودوافعِه - رغم استحالة إصداري لأحكامٍ كهذه – إلا أن ذلك لا يحول بيني وبين القول بإنني وجدتُ في الكتاب ما أعتقد أنها ثلاث غلطات كبرى:
أما الأولى، فهي أنه تكلم عن "الإسلامِ وفق الفهم الوهابي" وكأنه "الإسلام". والحقيقة أن الفهمَ الوهابي لم يكن تيارًا أساسيًا في الإسلامِ حتى إبرام الحلف الذي أُبرم بين محمد عبد الوهاب ومحمد بن سعود في النصف الثاني من القرن الثامن عشر . وقبل ذلك كانت هناك أفكار مماثلة للفهمِ الوهابي للإسلام ولكنها كانت هامشيةً بكل ما تعنيه الكلمةُ من معانٍ . أما التيارُ الأساسي في الإسلام (Main Stream Islam) فكان بعيدًا كل البعدِ عن الفهم الوهابي للإسلام وثقافة هذا الفهم – وإذا كانت الدولةُ العثمانية قد مثلت الإسلامَ سياسيًا (وكقوةٍ عظمى) لعدةِ قرون – فإن الدولةَ العثمانية والفهمَ الوهابي للإسلام لم تكن بينهما أية صلة أو علاقة إلا "العداء المطلق". . وقد كنت على استعدادٍ لقبولِ معظمِ ما قاله هانتنجتون عن الصدام قوى الاحتمال بين "الغرب" و"الإسلام" لو أنه استعمل كلمة "الإسلام الوهابي" عوضًا عن "الإسلام" . وأميل للاعتقاد بأن هانتنجتون غيرُ ملمٍ بتاريخِ وعواملِ وظروفِ تعاظم النموذج الوهابي لفهمِ الإسلام .
أما الثانية، فهي أنه لم يقدم أية أدلة قوية عن الصراع المرتقب بين "الغرب" والمجتمعات المنتمية للكونفوشيوسية – وكان هنـا يكتب مـا هـو أقـرب للأدب (وأدب هـ . ج . ويلز بالتحديد) منـه للتحليـلِ والفكرِ السياسي . كما أنه هنا يشبه نعوم تشومسكي الذي يقيم نظريةً سياسيةً على فرضيةٍ لا يوجد دليل واحد على صحتها – فهو يقول (أي تشومسكي) إن الولاياتِ المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تعيش من غير عدوٍ واضحٍ تتعرف على نفِسها من خلالـه ومن خـلال العداء معه – ويضيف أن هذا العدو كان (ما بين 1945 و1990) الكتلة الشرقية (أو الشيوعية) وأن الإسلامَ هو المرشح اليوم لهذا الدور (المسرحي!) . ولم يسأله أحد: وكيف نمت الولايات المتحدة الأمريكية نموها الاعظم ما بين 1500 و1900 دون أي انغماسٍ في الصراعاتِ الخارجيةِ ودون وجود أي عدو واضح لها خلال فترة تكوين واكتمال "الحـلم الأمريكـي"؟؟ وكيف وصل ونستون تشرشل لحافةِ اليأسِ وهو يحاول إقناع الولايات المتحدة (خلال السنتين من 1939 إلى 1941) بضرورةِ دخولِ الحربِ العالميةِ (في جانب الحلفاء) ولم يحقق له النجاح إلاَّ ضربة اليابانيين لبيرل هاربور في سنة 1941 – كيف لم تر الولاياتُ المتحدة العدو (وهي مجبولة حسب تنظير تشومسكي على الاستفادة من وجوده) إلاَّ بشق الأنفس؟!! ...: نحـن هنـا ببساطـة بصـدد "أدباء" لا "مفكرين" …
وأما الثالثة، فهي أنه لم يُفرد للحربِ العالميةِ الثانيةِ أيةَ مساحةٍ لائقةٍ في كتابه. رغم أن الحربَ العالمية الثانية (والتي هي أكبر حالة صدام في تاريخ الإنسانية) كانت بين أطرافٍ معظمها من بوتقة حضارية واحدة (الحضارة الغربية) كما أنها كانت داخل "العالم المسيحي" ولم يذكر أحدٌ (قط) أن "الدين" (كما يعتقد هانتنجتون) كان عاملاً من عوامل هذا الصراع الكبير (والذي كان في الأساس صراعًا بين الفاشية الأوروبية والديمقراطيات الأوروبية).
و أوضح دليل على خطأ الزعم بأن التيارات والجماعات العنيفة (المخاصمة للعصر والحداثة والداعية لعودة درامية للقرون الوسطى) هي"الإسلام" – أوضح دليل على خطأ هذا الزعم هو صورة عدد من المجتمعات الإسلامية الأساسية في مستهلِ القرنِ العشرين مثل مصر وسوريا الكبرى (وكانت تشمل وقتئذ لبنان) وتركيا. كانت تلك المجتمعات "مسلمةً" إلى حدٍ بعيدٍ ولكنها كانت أيضًا من أكثرِ المجتمعاتِ قبولاً للأقلياتِ، وكان بعضها يذخر بعدد لا مثيل له من الاقليات (الإسكندرية وبيروت والقاهرة مثلاً). وكان "قبول الآخر" وقبول "الحداثة" والاقبال على ثمارِ الإبداعاتِ الإنسانيةِ الكبرى واضحًا. في هذه البلدان (يومذاك) كان المثقفون يترجمون هوميروس وروائع المسرح اليوناني القديم وروائع الآداب الأوروبية الحديثة وعيون الفكر الإنساني (مثل ديكارت وجان جاك روسو وفولتير وديدرو ولوك وهوبز وكانط وهيجل وشونبهور ونيتشة .. وغيرهم) وكان الانسجامُ مع موجةِ الحضارةِ العظمى التي بدأت بعصر النهضةِ (الرينيسانس) كاملاً. ومع ذلك، كان مصريو وأتراك وسوريو تلك الفترة المسلمون لا يشعرون بأي تناقضٍ بين كونهم مسلمين وشغفهم بالحداثةِ وإبداعاتِ الحضارةِ الغربيةِ الماديةِ والثقافيةِ على السواء.
وفي هذا الدليل القاطع (المستمد من واقع كان موجودًا وحيًا) على أن الإسلامَ ليس هو جماعات العنف وحملة السيف (الذين يرجعون لنقطةِ انطلاقٍ جيوبوليتيكية شرحتها من قبل) بل و في هذا الدليل الواضح على أنه التيار الذي كان بمثابة التيار الأساسي في الإسلام Main Stream كان أَبعد ما يكون عن "الإسلام المحارب" Militant Islam الذي يعود عقليًا للفهمِ الوهابي للإسلام وانتشار لظروفِ التدهورِ في عددٍ من المجتمعات الإسلامية (نظريتنا التي أوضحناها: "نظام سياسي أوتوقراطي" يؤدي لشلل كلي للحراك الاجتماعي .. بما يؤدي لشيوع "عدم الكفاءة" .. بما يؤدي لانخفاض كل المستويات .. بما يؤدي لليأس والذي في ظلِ نظمٍ تعليمٍ وإعلامٍ متخلفةٍ ينتج "ذهنية العنف" ومناخ ثقافي عام يقبلها هو ما سميته "ثقافة ذهنية العنف".
وباختصارٍ شديدٍ، فبينما كان الإسلامُ غير الوهابي يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ تعيش عصرها في مصر وسوريا ولبنان وتركيا ويتفاعل فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود ومستحدثات العصر، فإن الفهمَ الوهابي للإسلام لا يتصور أن يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ مثل الإسكندرية والقاهرة واسطنبول وبيروت ودمشق وحلب كما كانت تلك المدن في سنة 1900 على سبيل المثال. وعلى النقيض، فإن هذا الفهم النجدي للإسلام يجعل المسلمين (من أتباعه) في "حالة تصادمٍ دائمةٍ" مع الآخرين والعصرِ والحداثةِ .. ولا يُفهم لكلمةِ "الجهاد" معنىً إلاَّ حمل السيف في كلِ وقتٍ – رغم أن المسلمين غير الوهابيين كانوا عبر قرون عديدة يفهمون أن مصطلحَ "الجهاد" يعني استعمال القوة لدرءِ عدوانٍ عليهم. ناهيك عن أن المصدرَ اللغوي للكلمةِ لا علاقة له بالعنفِ المسلح. كذلك، فإن تصورَ اندماج المسلمين في الإنسانية وارد عند الفهم غير الوهابي للإسلام (لاسيما قبيل الذيوع الواسع للثقافة الوهابية خلال القرن الأخير) .. أما حسب الفهم الوهابي (وثقافته) فإن هذا الاندماج "مستحيل" و"مرفوض" ومرادف لمصطلحِ "التبعيةِ" الذي يروجه كلُ من سيطرت الثقافة الوهابية على تفكيرهِ. وإذا كانت لنظريةِ نعوم تشومسكي أن تكون صائبةً، فإنها تكون كذلك بالنظرِ لأصحابِ الفهمِ الوهابي للإسلام – فهم لا يستطيعون الوجود بمعزلٍ عن "عدوٍ كبيرٍ" يكون وجودُهم مرهونًا بوجوده!
وفي كل هذا ما يدحض أن "المنظومة الإسلامية" تؤدي حتمًا للعنفِ والصدامِ مع الآخرين – فتلك (من جهةٍ) خاصية "فصيل واحد" لم يكن له وجود يذكر (خارج صحراء نجد) منذ قرنٍ واحدٍ من الزمان، وتلك من جهة أخرى ليست من نسيج تيار الإسلام غير الوهابي الذي كان هو التيار الأساسي Main Stream في المجتمعات الإسلامية قبل حدوث الزلزالين: زلزال انتشار النموذج العنيف .. وزلزال تدهور مستويات الحياة في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية بالكيفية التي جعلت المناخ العام مناسبًا لفكر النموذج العنيف للإنتشار.
٣
إن إيماني بأن جذورَ "ذهنيةِ العنفِ" في الأساسِ "داخليةٌ" لا يمنعني من التطرقِ لعاملٍ مهمٍ في استفحالِ أمرِ ذهنيةِ العنفِ، وهو عامل خارجي وإن بقى "عامل انتشار" لا "عامل وجود". وأعني الاستعمال السياسي قصير النظر للتياراتِ النابعةِ من ذهنيةِ العنفِ. فقد كان مكتبُ المخابرات البريطانية (MI 6) بالهند وراء الحلف الذي كان يسعى وقتئذ (أوائل القرن العشرين) لتوحيد الجزيرة العربية تحت نظامٍ سياسي يستمد شرعيته من الفهم الوهابي للإسلام. وقد كانت الحركةُ النجدية المعروفة بالأخوان خلال عشرينيات القرن الماضي نموذج واضح لغلاةِ هذا التيـار – وهو ما حدا بالملك عبد العزيز بن سعود (مؤسس الحقبة السعودية الثالثة) للدخولِ في حربٍ معهم لا تهامهم إياه بالخروجِ عن صحيحِ الإسلامِ بسببِ قبولهِ لبعضِ مظاهرِ الحضارةِ الغربيةِ (الإذاعة .. السيارة … التليفون) وائتلاف الإنجليز والقصر في مصر بهدفِ خلقِ كيانٍ سياسي (يستمد شعبيته من شعبية الدين في مصر) يحدث توازنًا استراتيجيًا مع "الوفد" الذي كان يمثل ويقود (بأغلبيةٍ كبيرةٍ) النضال المصري من أجل الدستور والحياة البرلمانية والاستقلال – هذا "الائتلاف" هو أمرٌ معروفٌ لدارسي تاريخ مصرَ المعاصر. وهذه اللعبة (لعبة بعض الساسة بعفريت "ذهنية العنف") هي ما تكرر في مصرَ في سبعينيات القرن العشرين وما كررته الولاياتُ المتحدة الأمريكية في أفغانستان .. وكلها أمثلةٌ واضحةٌ على "عاملٍ خارجي" ساعد "ذهنية العنف" على أن تصل لدرجةٍ من النمو السياسي والعسكري ما كان بمقدورها أن تصل إليها لولا أن البعضَ قد ظن (تحت تأثير ظروفِ الحربِ الباردةِ) أن اللعبَ بهذه الورقةِ مربحٌ لا محالة .. فكما يقول المثل العربي "لا يفل الحديد إلاَّ الحديد". واليوم: فإن الصورةَ تبدو شبه مكتملة: و هي أن نشوءَ ذهنيةِ العنفِ هو أمرٌ مرهونٌ بعواملٍ داخليةٍ هي الأوتوقراطية وشلل الحراك الاجتماعي واختفاء الكفاءة وشيوع اليأس وتدعيم كل ذلك بأدواتِ نظمٍ تعليميةٍ وإعلاميةٍ مُنْبَتَّةُ الصلةِ بالعصرِ .. ثم جاء عاملٌ خارجي هو "أكبر غلطة حسابات في القرن العشرين" لتعطي ذهنيةَ العنفِ فرصةَ النمو السياسي والعسكري لحدود ما كان لها أن تبلغها لو لم يقرر البعضُ أن يستعملها في صراعاته استعمالاً كان يفتقر للحكمةِ وبعد النظرِ ودقةِ الحسابِ في كلِ الحالاتِ.
وهكذا: وجد العالم نفسه بعد القضاء على الفاشية والنازية، ثم القضاء على الشيوعية أمام مجابهة جديدة نجمت عن انتقال مقعد القيادة في عالم المسلمين من التيار الوسطي المعتدل (المصري والسوري والتركي والمغربي قبل قرن من الزمان) إلى سبيكة الوهابية/القطبية/البترودولارية الجديدة التي لا يمكن أن تنخرط في مسيرة الإنسانية والتقدم والتمدن كلاعب ضمن آخرين.
وعندما اغتالت مجموعةٌ متطرفةٌ الرئيس أنور السادات

كان ذلك رمزًا من رموزِ ذيوعِ وشيوعِ ونفوذِ وانتشارِ نموذج الفهم الوهابي للإسلام وبنفس القدر تراجع الفهم المصري/التركي/السوري للإسلام. ثم توالت أحداثٌ مماثلة تكرر الدليل بعد الدليل على أن الفهمَ السعودي للإسلام أصبح متسعًا ومنتشرًا ومؤثرًا في معظمِ المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من نيجيريا إلى الجزائر إلى مصر إلى الجزيرة العربية إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا.

وفي صباح 11 سبتمبر 2001 قام مجموعةٌ من المنتمين للفهمِ الوهابي للإسلام

بهجماتهم في نيويورك وفيرجينيا وغيرهما في أعمالٍ تمثل موقف الفهم الوهابي للإسلام من الآخر بوجهٍ عام ومن الحضارةِ الغربيةِ بوجهٍ خاص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق