الجمعة، يناير 21، 2011

سجون العقل العربى للمفكر الكبير د طارق حجى - الجزء الرابع


شهد المسلمون خلال القرون الخمسة الهجرية الأولى نشاطًا فكريًا هائلاً فى سائر مجالات الفكر الإسلامي - علم أصول الفقه وعلم الكلام والتفسير والتأريخ - وهو ما تمخض عن ثروة في الآراء والاجتهادات من أقصى اليمين المحافظ كالمدرسة الحنبلية لأقصى درجات التوسع فى التأويل وإعمال العقل بنفس درجة إعمال النقل – وربما أكثر (مثل المفكر العظيم ابن رشد)

؛ وبين هذا وذاك شتى أنواع المدارس .
وقد ساهمت نظم الحكم الأوتوقراطية المغلقة مع نظم التعليم منبتة الصلة بالعصر وكذلك وسائل الاعلام الموجهة ومناخ ثقافة الفهم المتزمت (وأحيانًا المتطرف) للدين لنشوء حالة تحفز بين عقول أعداد كبيرة من المسلمين والعرب لكلمات مثل "التقدم" و"الحداثة". بل يمكن القول إن العوامل التي ذكرتها (وهي عوامل داخلية) مع عوامل أخرى خارجية (مثل مرض "الطفولة الثقافية" في بعض الدول بالغة التقدم) قد أدت بالعقل المسلم والعربي للاعتقاد بأن الدعوة للتقدم والحداثة هي دعوة للتبعية وفقدان الخصوصية الثقافية. ويزيد من تفاقم الحالة، ما يشعر به مسلمون وعرب كثيرون من أن قيم الحضارة الغربية السامية هي للداخل لا للكل. وقد بذلت جهودًا هائلة لأوضح لقرائي في مصر ومنطقة الشرق الأوسط أن "التقدم" ظاهرة إنسانية في المقام الأول. وأن "روشتة التقدم" لا جنسية و لا دين لها: وكان دليلي الأول دائمًا أن الولايات المتحدة واليابان

وماليزيا وتايوان وكوريا الجنوبية هي مجتمعات متقدمة

، وبعضها غربي بحت وبعضها صيني وبعضها مسلم وبعضها ياباني. وقد أفردت العديد من كتاباتي لأوضح لأبناء وبنات مجتمعي أن الزعم بأن التقدم والحداثة هما مقابل حتمي لضياع الهوية والخصوصية الثقافية هو خلط مروع للأوراق. وما أكثر ما رددت: "إنني كرجل مارس تقنيات الإدارة الحديثة على نطاق واسع أعلم يقينًا أن هناك "إدارة ناجحة" و"إدارة فاشلة" ولكنني لا علم لي بإدارة عربية أو صينية أو إفريقية أو فرنسية". لقد تقدمت اليابان تقدمًا مذهلاً خلال خمسين سنة، ولا يزال المجتمع الياباني (لاسيما خارج العاصمة "طوكيو") يابانيًّا صرفًا

. والذي ينكر أن التقدم ظاهرة إنسانية وأن آلياتها أيضًا إنسانية هو إنسان لم تر عيناه "آليات التقدم على أرض الواقع" (وربما يكون ذلك تفسير عدم اهتمام معظم الأكاديميين بهذه الجزئية).


ولا شك أن نظم الحكم الاستبدادية يلائمها المواطن المحلي الصرف والمنبت الصلة بالعالم الخارجي والذي يعتقد أن "الحداثة" هي الوجه الآخر "للتبعية" : فمواطن كهذا لن يؤمن أيضًا بأن "الديمقراطية" ثمرة الإنسانية وأنها "منتج إنساني" و"حق إنساني" وليست بضاعة غربية "للغربيين" – كما أنه سيدرك (وهو أمر غير مرغوب فيه) أن القول بأن لكل مجتمع "نوع خاص من الديمقراطية يناسبه" هو "كلام مغرض إلى أبعد حد" : فمن المؤكد أن هناك صورًا عديدة للديمقراطية .. ولكن من المؤكد أيضًا أنها كلها تتضمن آليات محاسبة تهبط بالحكام من "أفق السادة" إلى "أفق خدمة المجتمع".
ولكن المسلمين ارتكبوا جناية كبرى فى حق أنفسهم وفى حق دينهم عندما توقفوا عن البحث عن مفاهيم وحلول جديدة عندما أعلنوا "قفل باب الاجتهاد" والانكباب على ما أنتجه السابقون من مفاهيم وحلول - رغم أنها كانت ابنة زمانهم وثمرة ظروف عصرهم . وهكذا؛ فإن المسلمين منذ نحو ثمانية قرون فى حالة اجترار لأفكار رجال آخرين اجتهدوا لزمانهم لا لزماننا . وبينما كان رجال الدين - منذ ثمانية قرون – من نوعية ابن رشد الذي كان بقامة مثل قامة أرسطو

؛ فإن رجال الدين اليوم لا يقرأون إلا بالعربية ولا يعرفون علوم ومعارف العصر كما أنهم من بيئات اجتماعية لا تسمح لهم ظروفها بالانفتاح الفكري على إبداعات الإنسانية فى سائر مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانيات .


٤.1
إننا بحاجة لجيل جديد ممن استوعبوا علوم وثقافات ومعارف العصر بقدر معرفتهم بتراث المسلمين السابقين . منذ سبعين سنة؛ كان شيخ الأزهر فى مصر - الدكتور مصطفى عبد الرازق - أستاذًا سابقًا للفلسفة - وأين ؟ ليس فى جامعة الرياض أو جامعة صنعاء؛ وإنما فى جامعة السوربون !!

لقد جمعتني الظروف بعدد من رجال الفاتيكان؛ وكنت دائما أتحسر : لماذا يحفل الفاتيكان برجال دين على هذا المستوى التعليمي والثقافي والمعرفي الموسوعي في شتى مجالات المعرفة

؛ بينما رجال الدين عندنا لا يعرفون أى شىء عن الثمار العظيمة للإبداع الإنساني فى عشرات المجالات التي تنضوي تحت فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات المختلفة . فى مؤتمر منذ بضع سنين رأيت من يعتبره البعض أكبر الفقهاء والدعاه الإسلاميين المعاصرين (وهو المصري المتجنس بالجنسية القطرية والذي هرب من مصر إبان أزمة صدام الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر في سنة 1954)

وهو يستعمل أكثر من مترجم ولا يدخل فى أي نقاش يتعلق بالأفكار والتيارات الحديثة فى العديد من المجالات؛ بينما كان رجال الفاتيكان يصولون ويجولون بأربع أو خمس لغات وفى كافة المجالات المعرفية - ولا أكتم القول إننى شعرت يومها بالخجل منه فقد كان بدائيًا فى كافة المجالات والتصرفات وكأنهم أتوا بإنسان بدائي من أحراش جزيرة بورنيو . نريد جيلاً من رجال الدين درس الأديان الأخرى والتاريخ الإنسانى والآداب العالمية والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس ويجيد عددًا من اللغات (لغات الحضارة) ... وحتى يحدث هذا؛ فسيظل مستوى رجال الدين عندنا على ما هو عليه الآن من البدائية والسذاجة والضحالة والانعزال عن مسيرة التمدن والإنسانية ... قبل إن أبلغ العشرين علّمني المسرح اليوناني والفلسفة اليونانية القديمة راهب كان يرأس الدير الدومينيكي فى العباسية بالقاهرة وهو الأب جورج قنواتي

؛ وعلّمني راهب آخر ما جعل البعض اليوم يظن - وهو غير حقيقي - إنني متخصص أكاديميًا في الديانة اليهودية . ولم أر فى حياتي رجل دين إسلامي موسوعي المعرفة . والخلاصة أنه كما أننا متخلفون فى سائر العلوم والمجالات؛ فإننا متخلفون لأبعد آماد التخلف فى علوم الدين الإسلامي وحالنا فى الدين الإسلامي كأحوالنا فى الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات وأبحاث الفضاء - إننا لسنا سوى "عالة" على البشرية - حتى السلاح الذى يستخدمه رجال الجماعات التي تسمي نفسها بالجهادية هو من صُنع الآخرين الذين يعملون ونتكلم نحن فى تفاهات الأمور .

إن عدم ظهور رجال دين من الطراز الذي وصفت معالمهُ فيما سبق من هذا الفصل أي رجال يجمعون بين ذروة علوم الإسلام وذروة علوم العصر، بدون ظهور جيل من هؤلاء، فإن المسلمين ستزداد عزلتهم عن ركب البشرية وستزداد حملات الهجوم عليهم والتخوف والحذر منهم بل أتصور طرد أعداد كبيرة منهم من المجتمعات الأوروبية ومجتمعات أمريكا الشمالية كما قد تتكرر مصادمات مثل صدام الغرب مع طالبان في أفغانستان

وسيصبح المسلمون (أو بالأحرى : ستصبح قطاعات كبيرة من المجتمعات الإسلامية) العدو الأول للحضارة الغربية بل و ربما للإنسانية .

٤.2
ومن المستبعد أن يحدث التطوير المنشود داخل المؤسسات الدينية. فأكبر المؤسسات الدينية الإسلامية في العالم حاليًا (في السعودية وفي مصر بالتحديد) تطرد عناصر التجديد والتغيير البسيط، فما بالك بالتغيير الشامل المنشود . لقد طردت إحدى الجامعات الإسلامية الدكتور / أحمد صبحي منصور

لمجرد رفضه لأن تكون الأحاديث النبوية مصدرًا للأحكام الفقهية . وكان الجدير بها أن تختلف معه اختلافًا علميًا لا يخرج عن دائرة الحوار والجدل ومقارنة الحجة بالحجة . وهو أمر غريب، فقد كان أبو حنيفة النعمان

غير بعيد عن هذا الموقف الذي اتخذه الدكتور / أحمد صبحي منصور . فبينما قبل بعض الفقهاء الأحاديث النبوية، فإن أبا حنيفة قد رد معظم هذه الأحاديث واكتفى ببضعة عشرات منها – وبكلمات أكثر تحديدًا فإننا لو كنا قد وضعنا أمام أبي حنيفة كتابًا مثل صحيح البخاري

لكان قد رفض أكتر من تسعين بالمائة من محتوياته، ولكانت الجامعة الإسلامية قد حكمت بتكفير أبي حنيفة الذي هو أول الفقهاء الأربعة والملقب في التاريخ الإسلامي بالإمام الاعظم . والخلاصة أن أحوال المؤسسات الدينية الإسلامية المعاصرة لا تشي بقدرتها على إفراز رجال من نوع أبي حنيفة النعمان وابن رشد، فهى تزداد انغلاقًا وانكبابًا على المراجع الصفراء ويقتصر دورها منذ قرون على الشرح على المتون ولا يكاد يوجد بين رجالها من طالع ولو كتاب واحد بأية لغة غير العربية . وعليه، فإن التغيير المنشود مرهون بإرادة سياسية تستند على حس تاريخي واستشراف مستقبلي، وهى مؤهلات غير متوفرة بكثرة في المجتمعات الإسلامية . ولكن بدون إرادة سياسية تهدف إلى إجراء عمليات كبيرة داخل بنية الفكر الإسلامي وجعل هذا الفكر منسجمًا مع العصر ومع العلم ومع مسيرة المدنية، فإن المسلمين سيكونون في طريقهم لمواجهة مع البشرية تشبه اصطدام الأجرام في الأفلاك السماوية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق