الخميس، يناير 13، 2011

صفحات من كتاب الخطط السكندرية للدكتور خالد محمود هيبه - أبو قير


- مع نهاية الساحل الشرقي لمدينة الإسكندرية تقع ضاحية أبو قير ، لتمثل محدداً عمرانياً على الساحل كبداية لسلسلة رائعة من الشواطيء تبدأ من شاطيء أبو قير بالإسكندرية فالمعمورة والمنتزه ، وتمتد بعد ذلك في إتجاه الغرب عبر كورنيش المدينة وضواحيها في العجمي فالساحل الشمالي الغربي وصولاً إلى حدود مطروح .
- و"أبو قير" ضاحية مستقلة أشتهرت بأستخداماتها الحربية للدفاع عن الإسكندرية نظراً لطبيعة تكوينها الجغرافية وحيث قلعتها واستحكاماتها العسكرية حيث تشغل أبو قير رأس خليج تكون منذ آلاف السنين عندما كان أحد فروع النيل القديمة المندثرة يصب في تلك المنطقة وهو الفرع المعروف باسم "الفرع الكانوبي"، حيث كان مجراه يصب في البحر المتوسط عند منطقة "أبو قير" فيما اشتهر بعد ذلك بالفتحة الكانوبية ، والتي حددها رجال وعلماء الحملة الفرنسية في بحثهم لتاريخ جغرافية مصر القديمة ودراساتهم القيمة حول ذلك، وهو ما صححه العالم المصري الشهير "محمود باشا الفلكي" بعد ذلك في دراسته القيمة حول مدينة الإسكندرية ومحاولته التحديد الدقيق لمجرى الفرع الكانوبي والفتحة الكانوبية .
- وضاحية "أبو قير" ذات تاريخ ممتد منذ العصور البطلمية ، حيث كانت تسمى في تلك العصور "مدينة كانوب" حيث كان بها معبد الإله "سيرابيس" الذي شيد هنالك منذ أوائل العصر البطلمي بالإسكندرية كما كانت تمثل أحد أهم الأماكن التي يرتادها الآلاف من الرجال والنساء سنوياً للأحتفال بالأعياد التي يصفها البعض حيث كان يسودها المجون الجامح في زمن الوثنية الإغريقية ، وبالقرب من أبو قير أو "كانوب" كانت تقع مدينة "هيراكليوم" حيث كانت تقع عند رأس خليد أبو قير وليطلق عليها اسم معبدها الذي كان مخصصاً لهرقل، وكما أجرى علماء الحملة الفرنسية دراساتهم حول تلك المنطقة مع نهاية القرن الثامن عشر ، كان "محمود باشا الفلكي" أول مصري يحاول تحديد مواقعها بكل دقة وذلك خلال فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
- ظل اسم كانوب "كانوبوس" ملازم لتلك المنطقة، حتى حملت اسم " ابو قير" منذالقرن الثالث الميلادي حيث أنتسب إلى أحد القديسين الشهداء الذين جاهدوا في نشر المسيحية بمصر ودفن بهذه المنطقة وكان يدعى "القديس قير" "Sainte Cyr” ، وقد عرف هذا القديس باسم "الانبا كير" ، كما أطلق عليه "أبا كير"، وهو طبيب ناسك استشهد في خلال فترة الاضطهاد الديني الروماني عام 312م في الإسكندرية، ولد "أبا كير" بمدينة الإسكندرية في النصف الأخير من القرن الثالث الميلادي في أسرة مسيحية حيث تعلم الطب بالإسكندرية ومارس مهنته كطبيب في ذات الوقت الذي كان متعلقاً فيه بالمسائل الدينية التي كانت محور الأحداث في تلك الفترة حيث شارك في مناهضة سياسة الإمبراطور الروماني "دقلديانوس" أثناء فترة حكمه الجائر (284 - 305م) ، وهو العصر الذي اضطهد فيه مسيحي مصر رغبة منه في إثناءهم عن ديانتهم السماوية تلك إلى الوثنية التي كان يعتنقها ، فذبح منهم الآلاف وبخاصة في مدينة الإسكندرية العاصمة وضاحيتها "كانوب" (أبو قير) وسمي ذلك العصر "عصر الشهداء"، ونظراً للدور الذي قام به "أبا كير" في مقاومة مظالم الإمبراطور وأوامره ألقي القبض عليه من ناسك آخر يدعي "يوحنا" كان أبا كير قد تعرف عليه ليعملا معاً في مناهضة الإمبراطور ، حيث نما ذلك إلى حاكم الإسكندرية "سريانوس" فقام بمطاردتهما ليتم القبض عليهما حيث تم قطع رأسيهما بصورة سريعة مباغتة ليقوم الشعب باخذ جسدي الشهيدين ليتم دفنيهما معاً في كنيسة "القديس مرقص" (كنيسة سان مارك) بالإسكندرية، وبعد استشهاديهما بعدة سنوات وفي أثناء فترة تولي الإمبراطور "قسطنطين" مقاليد الحكم في الإمبراطورية الرومانية عام (396 - 327م) اعتنق الديانة المسيحية ، وجعلها الديانة الرسمية للدولة الرومانية لينقل الحال راساً على عقب، فتحول الصراع ضد الوثنية بعدما كان قائماً ضد المسيحية وزاد هذا الصراع مع تولي الإمبراطور "تيودوسيوس" حيث اشتدت المقاومة في مصر لباقي معاقل الوثنية والتي كانت لاتزال قائمة في معبد "السيرابيوم" القديم بالإسكندرية، بينما كان المعقل الفكري للمسيحية ممثلاً في المدرسة اللاهوتية التي أسسها " القديس مرقص " (سان مارك) بالإسكندرية قبل استشهاده عام 68م ، ولكن الصراع المذهبي الفكري كان غالباً ما يخرج من دائرة الفكر إلى الغوغاء من الجانبين حتى هاجموا معبد السيرابيوم وقاموا بتحطيم تماثيله ، كما نال معبد "السيرابيوم" في كانوب المصير ذاته ليتم تحويله إلى كنيسة بالقرب من كنيسة يطلق عليها مسمى كنيسة الرسل لتتحول بعد ذلك إلى كاتدرائية كبرى عام 576م .
- ومع تولي "كيرلس" البطريركية إسكندرية نقل رفات "أبا كير" ورفيقه يوحنا إلى كنيسة الرسل في كانوب ليؤمها الناس للزيارة والتبرك في محاولة منه للإجهاز تماماً على ما بقي من وثنية قائمة ، حيث كان البعض من العامة لازال يزور ويحج إلى كانوب (أبو قير) ابتغاء طلب الشفاء من الألهة الوثنية كإيزيس وغيرها كما كانوا يفعلون في العهد الوثني البطلمي ، فكان نقل "كيرلس" لرفات القديسان "أباكير" و"يوحنا" ليتبارك بهما الناس بدلاً من الآلهة الوثنية .
- وبدأت شهرة "أبا كير" في الذيوع فتم إطلاق اسمه على كنيسة الرسل القائمة وأخذ الناس يفدون إليها ابتغاء التبرك وطلباً للشفاء من أمراضهم ، كما ذاعت القصص والحكايات عن عجائب ذلك الشفاء ، ومع احتلال الفرس مصر قاموا بتخريب تلك الكنيسة عام 619م حيث يقال أنه قد نقلت رفات "أباكير" و"يوحنا" إلى روما وذلك كما سبق وتم نقل رفات شهيد الإسكندرية الآخر "القديس مرقص" (سان مارك) إلى فينيسيا ، ليبقى للمنطقة فقط مسمى "أبا كير" ، والذي تحول مع استخدام العربية كلغة اساسية للبلاد ليصير "أبو قير" في أعقاب الفتح العربي الإسلامي لمصر حيث اندثرت المنطقة نتيجة اندثار الفرع الكانوبي للنيل والذي كان يصب عندها .
- ومع تدهور أحوال الإسكندرية في خلال العصور الإسلامية المتعاقبة بعد نقل مقر الحكم والعاصمة منها إلى الفسطاط ثم القاهرة ، تحول النشاط الاقتصادي والتجاري إلى كلا من مدينتي "فوه" و"رشيد"، لتتدهور أحوال منطقة "أبو قير"، لتعود مرة أخرى إلى أضواء التاريخ بقدوم الحملة الفرنسية على مصرفي أول يوليو من عام 1798م، حيث اتخذ "نابليون بونابرت" قائد الحملة من "أبو قير" وخليجها مقرا لتصبح مرسى لأسطوله حتى تحطم بها بعد ذلك ليغرق في خليجها على يد الأسطول الإنجليزي بقيادة القائد الشهير "نيلسون" (حيث سميت أكبر الجزر القريبة من خليج أبو قير باسمه وللآن)، وذلك بعد أقل شهر من قدوم الحملة في أول أغسطس عام 1798م فيما عرف بموقعة "أبو قير البحرية" والتي كانت لها دور كبير في إنهاء طموحات "نابليون" العسكرية في مصر والشرق بعد ذلك ، ولتؤدي منطقة أبو قير بعد ذلك دوراً كبيراً بدءاً من تلك الفترة والتي شهدت أيضاً عدة معارك صاخبة ما بين الجيشان الحليفان حينذاك "الإنجليزي والتركي" من جهة ، والجيش " الفرنسي " من جهة أخرى حتى تم إرغام الحملة الفرنسية على ترك مصر في أعقاب عدة معارك كان أشهرها معركة "كانوب" أوما يطلق عليها بمعركة "أبو قير البرية" في 21 مارس عام 1801م، لتزداد أهمية "أبو قير" كخط دفاعي أمامي عن الإسكندرية ومصر بعد ذلك التاريخ وبخاصة مع أهتمام والي مصر "محمد علي باشا" وخلفاءه من الولاة بتحصيناتها دفاعاً عن الإسكندرية ، ولتبدء العناية بها كضاحية تشغل موقعاً استراتيجياً هاماً مع مد خط السكك الحديدية إليها في عام 1876م في عهد الخديوي "إسماعيل" من خلال الخط الرابط ما بين "الإسكندرية" و"مدينة رشيد" غرباً ، لتصبح إحدى أهم مصايف الإسكندرية يؤمها المصطافين والباحثين عن الهدوء والسكينة حيث شواطئها الخلابة وجزرها السياحية الرائعة ومنها "جزيرة نيلسون" (نسبة إلى قائد الأسطول البريطاني) وغيرها ولتضاف إليها عام 1922م ناحية "المعمورة" من الواجهة المالية ولتتبع مركز "كفر الدوار" بمديرية "البحيرة" ويصير مسماها في جداول وزارة المالية منذ ذلك التاريخ "المعمورة وأبو قير" وذلك لأشتراكيهما في زمام واحد ، وفي أعقاب ثورة يوليو عام 1952م تم تعديل حدود الإسكندرية مرة أخرى، ففي ابريل عام 1955م ضمت "أبو قير" إلى الإسكندرية ضمن ما تم ضمه إليها من نواحي خصماً من مركز "كفر الدوار" حيث ضمت لقسم "المنتزه" والذي تم إنشاءه في ذات العام كقسم إداري جديد ليضاف إلى أقسام محافظة الإسكندرية ولتتبعه ضاحية "أبو قير" من ذلك التاريخ وللآن .
- ومنذ ذلك التاريخ بدأ الأهتمام المتصاعد بالضاحية كمصيف هام حيث تم إنشاء العديد من المعسكرات القومية الخاصة بالشباب على شواطئها، ما يتم في عقد السبعينات من القرن العشرين إنشاء الأكاديمية العربية للنقل البحري بها "الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا" لتصبح التفعيل الأوحد لعمل عربي مشترك ، وليزداد الزحف العمراني إليها كمنطقة سكنية ، كما يشرع في البدء بالبحث في أسرار كنوزها الغارقة في المياه في تلك الفترة والتي كان قد بدأها العالم الأمير "عمر طوسون" لتتكشف لنل المزيد من الآثار البطلمية والرومانية وغيرها ، وكذا آثار أسطول نابليون الغارق في مياهها لتظل "أبو قير" دائماً تمثل صفحة من أهم صفحات التاريخ في الإسكندرية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق