السبت، أكتوبر 27، 2012

الخطط السكندرية - رأس التيــن

صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث



د. خالد محمود هيبة
عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر
والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


- "رأس التين" حي من أهم أحياء الإسكندرية وأكثرها عراقة، ويقع ذلك الحي في أقصى الشمال من المدينة، حيث يشغل الجزء الغربي من شبه جزيرة "فاروس" القديمة داخل بروز أطلق عليه قديما اسم "شبه جزيرة الفنار"، وترتبط المنطقة والتي تطل على "الميناء الغربي" للمدينة بمختلف مناطق وأحياء المدينة بمجموعة من الطرق والمحاور الشهيرة، وأشهرها على الإطلاق شارع "رأس التين" الذي يحمل ذات مسمى الحي العريق ومن الملاحظ أنه لا يقدم على سكنى هذه المنطقة سوى أبناء الإسكندرية الأصليين ممن ولدوا ونشأوا في ذات الحي حيث عاشوا مع ذويهم في تلك المنطقة والتي يطلق عليها السكندريون مجازا مسمى حي "بحري" تمييزا لها عن باقي أحياء الإسكندرية تقديرا منهم لأصالة ذلك الحي وارتباط جذورهم العائلية بالمدينة والبحر الذي شكل وجدانها تاريخها فصبغها بصبغته، وهو الأمر الواضح في تلك المنطقة ذات التاريخ المديد من مدينة الإسكندرية.


الميناء الغربي للإسكندرية مع بدايات القرن العشرين حيث تقع منطقة "رأس التين".

- ومسمى "رأس التين" يرجع إلى ما قبل زمن الحملة الفرنسيةعلى مصر عام 1798م، حيث يصف تلك المنطقة العالم الفرنسي "جراتيان لوبير" في دراسته عن مدينة الإسكندرية، وذلك من خلال موسوعة "وصف مصر" فيذكر(1) " أما شبه جزيرة الفنار والتي تسمى بالعربية روضة التين، إذ كانت تزرع هناك بنجاح كبير أشجار التين التي تنتج أفخر الثمار، فتغطي الميناء القديم (الميناء الغربي) بطول يبلغ 2650 مترا بالاتجاه نحو الجنوب الغربي، وتربتها الملحية الفاصلة ليست سوى صخرة جيرية يبهر ويؤذي العين لونها الأبيض الذي تجعله الشمس باهرا على الدوام، وكل شبه الجزيرة هذا محاط بشعب صخرية في مستوى سطح الماء وبخاصة إلى الغرب من جسر حصن الفنار".
 - ويضيف "لوبير" " ويدافع عن الرأس الواقع إلى جنوب غرب شبه الجزيرة هذه، والذي لا يمكن الاقتراب منه، بطارية قريبة تتسمى باسم رأس التين"، وهكذا كان حال منطقة "رأس التين" مع نهاية القرن الثامن عشر، ويؤكد على سبب تلك التسمية "على باشا مبارك"(2) في خططه وذلك عند تأريخه لتعمير منطقة "الميناء الغربي" للإسكندرية في عهد والي مصر "محمد علي باشا" حيث يذكر "في الأماكن التي أنعم بها عليهم من الأراضي التي كانت إذ ذاك من زاوية خطاب من الجهة البحرية إلى البحر المالح، وكانت قبل ذلك كلها مزروعة تينا برشوميــا، ومقسمة إلى زربيات متنوعة، فاتسع بذلك دائر الميناء وحدث بها ترسانة تشتمل على جميع ما يلزم لإنشاء وترميم المراكب الحربية وغيرها".
1- علماء الحملة الفرنسية – ترجمة زهير الشايب. وصف مصر ج3 - دراسات عن المدن والأقاليم المصرية، ( القاهرة: الناشر المؤلف، 1984 )، ص   290.
2- على مبارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )،  ص   138.   
- كان من أوائل من عمر تلك المنطقة الوالي "محمد علي باشا" ذاته، حيث أدرك أهمية الإسكندرية ومينائها فغي وقت مبكر من سنوات حكمه الممتدة وفي ذلك يضيف "علي باشا مبارك" فيذكر(1) " وحيث كان غير خفي على ذكائه أهمية موقع الإسكندرية من الديار المصرية، وأنها بالنسبة للقطر جميعه كالرأس بالنسبة للإنسان، سيما وهى من أعظم ثغور الإسلام عليها المدار في تحصين القطر وسد عوراته، صرف إليها همته العلية، واحتفل بها احتفالات سنية، وأجرى فيها من محاسن الترتيبات والتنظيمات ما أوجب لها العمارة و تزايد الخيرات، وكثر فيها الصادر والوارد فعاد إليها وسيم نضرتها و قديم شهرتها ".


 سراي "رأس التين" بعد الانتهاء من تشييدها خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

- فكان أول ما أنشأ "محمد علي باشا" بالإسكندرية سراي "رأس التين" حيث اختار ذلك الموقع بشبه الجزيرة ليشيد أعظم قصوره وأفخمها على الإطلاق،  

1- على مبارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )،  ص    133.

وليجعل منها من تلك السراي قصرا ومقرا صيفيا لإدارة شئون مصر(1)، حيث فرغ من تشييدها في 22 شعبان عام 1245هـ (1830م)، وهو الأمر الذي توارثه خلفاءه من حكام مصر من ولاة وسلاطين وملوك وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952م حيث اتخذ كل هؤلاء من ذلك القصر بالإسكندرية مقرا صيفيا له لإدارة شئون البلاد.
- وكان تشييد "محمد علي باشا" لتلك لسراي "رأس التين" متزامنا مع بدء تعميره للميناء الغربي، حيث تطل عليه السراي فقام بتوسعيه وتعميقه   واستحضر لذلك الغرض الكراكات من أوروبا وأنشأ الأرصفة داخله لترسو السفن، وملأ المسطحات المتخلفة مابين الأرصفة والشاطيء بالأحجار والأتربة ليتسع الشاطيء، ولينشىء في ذلك الفضاء ما يحتاج إليه الميناء من المخازن وأبنية الجمارك ومساكن الموظفين وغيرها، وقد عهد بذلك إلى "شاكر أفندي" أحد المهندسين المصريين النابغين، والذي خلفه بعد ذلك "مظهر باشا" أحد خريجي البعثات العلمية، حيث قام بإنشاء فنار شبه جزيرة "رأس التين" ليصبح الفنار الرئيسي للإسكندرية لإرشاد السفن القادمة إلى الميناء والخارجة منه(2)، كما سمح للسفن الأوروبية بدخول "الميناء الغربي" بعد أن كانت ممنوعة من الرسو فيه زمن المماليك حيث كان الرسو فيه يقتصر على سفن المسلمين فقط دون غيرها بينما كان "الميناء الشرقي" مخصصا لرسو السفن الأوروبية، فلما تمت توسعة "الميناء الغربي" سمح "محمد علي" للمراكب الأوروبية أيضا بالرسو فيه لتزدهر حركته التجارية نتيجة لذلك، كذلك قام "محمد علي" بإنشاء "ترسانة" الإسكندرية بالقرب من تلك المنطقة

1- أمين سامــي. تقويم النيل، الجزء الثاني، ( القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2003 )، ص    362.
2- على مبـارك. الخطط التوفيقية ج 7،  ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 )، ص ص.   134– 139.

التي أضاف إليها معسكرا بحريا للتعليم بذات المنطقة "رأس التين" ليصبح النواة لكلية بحرية بعد ذلك(1)، حيث أعدها لاستقبال تسعة عشر ألف طالب مع توفير مكانا لإقامتهم وتعليمهم، فكانوا بمثابة النواة لأسطول مصر العظيم بعد ذلك، كما أنشأ "محمد علي" مستشفى للبحرية في ذات المنطقة لازالت

 فنار شبة جزيرة "رأس التين" وهو الفنار الرئيسي لميناء الإسكندرية  مع بدايات القرن العشرين.

قائمة منذ ذلك التاريخ وإلى الآن (مستشفى رأس التين العسكري البحري)، وهكذا توافرت لمنطقة "رأس التين" كافة المقومات لتصبح إحدى أهم المناطق في مصر والإسكندرية ولتتحول بعد ذلك إلى مقر لقيادة القوات البحرية المصرية قبل وبعد ثورة يوليو وللآن، وليظل سراي "رأس التين" أشهر سرايات مصر على الإطلاق يستقبل الملوك والرؤساء من ضيوف مصر
1- عبد الرحمن الرافعي.  عصر محمد علي، ( القاهرة: دار المعارف، 1982 )، ص    377.

الزائرين، أما حي "رأس التين" فقد اشتهر بسكن رجال البحرية المصرية وعائلاتهم فيه حيث كان أشهر من سكن في ذلك الحي "أم البحرية" السيدة الفاضلة "عصمت محسن"، وهي حفيدة أمير البحر "حسن باشا الإسكندراني" قائد البحرية المصرية الذي استشهد في حرب القرم عام 1854م حيث سكنت حفيدته بجوار قاعدة "رأس التين" لتؤرخ للبحرية المصرية بإصدار المؤلفات والكتب العربية والفرنسية عن تاريخ مصر، ولتفتح منزلها لأبنائها من ضباط البحرية لتسدى لهم النصح وتبدي لهم كل معاونة وتشجيع حتى كرمها الرئيس "جمال عبد الناصر" بمنحها وسام الكمال الذهبي عام 1955م(1).


 سراي "رأس التين" خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين.

 - وليستمر التاريخ الحافل لمنطقة "رأس التين" وقصرها العظيم الفخيم شاهدا على أحداث عدة جسام كوفاة الوالي "محمد علي باشا" مؤسس الدولة العصرية

1- نقولا يوسف. أعلام من الإسكندرية ج2،   ( القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001)، ص    267. 

في مصر الحديثة بتلك السراي في 2 أغسطس عام 1849م وكذلك والي مصر"محمد سعيد باشا" في يناير عام 1854م، كما كانت تلك المنطقة أول مكان في مصر وطئته أقدام قوات الاحتلال البريطاني لمصر في 13 يوليو عام 1882م عقب ضرب الإسكندرية بواسطة الأسطول البريطاني(1)، لتشهد منطقة "رأس التين" بدايات ذلك الاحتلال الغاشم لمصر والذي استمر طيلة 84 عاما جاثما على صدر البلاد ناهبا لخيراتها، ولتشهد أيضا مغادرة الملك "فاروق" لأرض مصر من ذات السراي في 26 يوليو من عام 1952م بعد تنازله عن العرش لنجله الأمير "أحمد فؤاد" وذلك على ظهر اليخت الشهير "المحروسة" من منطقة قصر "رأس التين"، ولينتهي بذلك عهد الأسرة العلوية والملكية في مصر، ولتسطر تلك المنطقة السكندرية الشهيرة "رأس التين" صفحة من صفحات التاريخ بالإسكندرية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق