السبت، أكتوبر 27، 2012

الخطط السكندرية - المنتــــــزة

صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث



د. خالد محمود هيبة
عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر
والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


- تمثل "حدائق المنتزة" بقصرها الشهير وبأشجارها ونباتاتها النادرة مكانة خاصة بالنسبة للسياحة والتنزه في مصر بصفة عامة والإسكندرية بصفة خاصة، فما من نشرة سياحية مصرية إلا وتدرج تلك الحدائق الغناء الشهيرة ذات الساحل الرائع والشواطىء الساحرة ضمن أهم مناطق السياحة والتنزه المصرية، حيث كانت ولا زالت بعبقها التاريخي وسماتها المميزة تجذب الملايين سنويا لزيارتها سواء من داخل مصر أو خارجها وذلك على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على إنشاء "الخديوي عباس حلمي الثاني" لها وتشييده لقصره الشهير المميز بها، ويحكى لنا "أحمد شفيق باشا" رئيس ديوان الخديوي في ذلك الوقت قصة تعمير تلك المنطقة من خلال مذكراته التي أرخ فيها لمصر زمن "الخديوي عباس حلمي"، فنجده يوردها تفصيليا عند تأريخه لأحداث عام 1892م، فيذكر كيف كان "الخديوي" أثناء وجوده بالإسكندرية

الخديوي "عباس حلمي الثاني" مكتشف ومؤسس منطقة حدائق "قصر المنتزة".

 يخرج إلى النزهة في كثير من الأيام مع بعض رجال الحاشية حيث كان يصحبه دائما "أحمد شفيق باشا"، وكان غالبا ما يقصد "سراي الرمل" على آخر الخط الحديدي بالرمل (بمنطقة سيدي بشر ومحطة ترام السرايا ومكانها الآن فندق المحروسة لضباط القوات البحرية)، ومنها يركب وصحبه الدواب إلى جهات مختلفة للتنزه في ضواحي الثغر، ولاسيما طريق "سيدي بشر" إلى شاطىء البحر، حيث يورد "أحمد شفيق باشا" تفاصيل اكتشاف "الخديوي" لتلك المنطقة ومصاحبته له في ذلك فيذكر(1)" أنه في أحد الليالي المقمرة أمر الخديوي بإعداد ثمانين حمارا من حمير المكارية لنركبها ليلا في الصحراء على شاطىء البحر، وأمر أن ترافقنا الموسيقى الخديوية وعدد رجالها خمسة وأربعون، فركبنا، وركبوا وهم يعزفون بموسيقاهم حتى وصلنا إلى سيدي بشر وبعدنا عنها بقليل، ولما سمع العربان هذه الموسيقى التي لا عهد لهم بها، هرعوا إلينا رجالا ونساءا وأطفالا ليستطلعوا ذلك الحدث فلما علموا بوجود أميرهم (الخديوي) صاحوا بالتهليل على عادة العربان، ورافقونا في رجوعنا إلى مسافة طويلة، ثم عدنا وقد مضى أكثر الليل، ولقد أعجب الخديوي بالبقعة المجاورة لسيدي بشر وألسنتها الجميلة الداخلة في البحر، وتسرب الماء بين ثنياتها الصخرية في خرير ساحر فعزم على التوغل فيها لمشاهدتها عن كثب".
- ويستطرد "أحمد شفيق باشا" حيث يستكمل روايته لما تم في اليوم التالي حين ذهب الخديوي لذات المنطقة في معية بعض رجاله فيذكر(2) " وفي اليوم التالي، تجاوزنا في تجوالنا سيدي بشر بمسافة كبيرة وكنا ثلاثة مع الخديوي رولييه بك السكرتير الخصوصي وعلى بك شاهين معاون التشريفات وكاتب هذه السطور (أي أحمد شفيق باشا)، وسرنا حتى بلغنا مكان أعجب الخديوي بمنظره تكتنفه رابيتان عاليتان وبينهما ضلع صغير وفى طرفه الشمالي جزيرة صغيرة وهنا أمر الخديوي بالإناخة فنزلنا عن رواحلنا تجاه هذا الموقع الجميل، ورأى سموه أن ننزل نحن في قارب
1- أحمد شفيق باشا. مذكراتي في نصف قرن ج2، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)، ص ص.    44 – 45.
2- المصدر السابق، ص  45.
صيد كان متروكا على الشاطيء لنرتاد هذه الجزيرة وما حواليها ونتعرف ما فيها، وما يحف بها"، وهكذا نفذ الرجال المطلوب حتى أشار لهم الخديوي بالعودة، ومنذ ذلك اليوم تقرر في ذهن الخديوي أن تكون النقطة التي اكتشفها وأعجب بها مصيفا له وأن ينشىء بها قصرا أنيقا "قصر السلاملك" وكان على إحدى الرابيتان العاليتان مدافع قديمة من عهد والي مصر "محمد علي" حيث كانت تستخدم لحماية الشواطىء في تلك المنطقة (وهي لاتزال قائمة للآن حيث أقيم أمامها مبنى قصر السلاملك)، كما أقام أمامها مزولة (ساعة رملية) نقش عليها بيتان من شعر الشيخ " على الليثي "، أما الرابية الأخرى فقد كان بها قشلاق (مقراً) لخفر السواحل اشتراه الخديوي من الحكومة وبنى مكانه قصر " الحرملك "، وهو يختلف عن قصر الحرملك الشهير الذي شيده الملك فؤاد الأول بعد ذلك (المبنى الرئيسي بالمنطقة حاليا) ليصبح إحدى التحف المعمارية النادرة، حيث مزج القصر في مبنى واحد ما بين "العمارة الكلاسيكية" و"العمارة القوطية" بمراحلها المختلفة وكذا طراز "عصر النهضة الإيطالي" و"الطراز الإسلامي" (1).
 

 المدافع التي وضعها والي مصر "محمد علي باشا" لحماية الشواطىء بتلك المنطقة وقبل إنشاء الحدائق والقصر بمدة تزيد عن الخمسين عاما، ولا تزال قائمة وللآن.
1- د. كمال الدين سامح. لمحات من تاريخ العمارة المصرية منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، (القاهرة: هيئة الآثار المصرية، 1986)، ص     77.


 قصر الحرملك بمنطقة "قصر المنتزة" الذي شيده الملك فؤاد الأول في عشرينيات القرن العشرين محل قصر الحرملك القديم الذي شيده الخديوي عباس حلمي إضافة للكوبري الشهير والسور والبوابات ليستكمل تعمير "المنتزة".

- ووراء الرابيتين كان يقوم بيت منعزل صغير يملكه ثرى سكندري من أصل يوناني يدعى (سينادينو) حيث كان يدعو إليه أصدقاءه في ليالي الصيف المقمرة (على غرار شاليهات الاستجمام في زماننا الحالي)، فيقضى فيه أوقاتا للراحة في ظل تلك الطبيعة الساحرة، فاشترى منه الخديوي هذا المنزل، كما اشترى أرضا واسعة من الحكومة ومن الأهالي لتكون ملحقات للقصر الجديد لتبلغ مساحتها حوالي 370 فدان زرعت كحدائق ومتنزهات كما اتخذ من الخليج ميناء للسراي، وهو الميناء الذي كانت ترسو أمامه اليخت الشهير "المحروسة"، كما ربط الجزيرة بالشاطيء بجسر "إيطالي" على الطراز "القوطي"، وبنى على الجزيرة كشك كلاسيكي للشاي.
- أشرف "الخديوي" بنفسه على تنظيم الحديقة الغناء حيث قام بانتقاء أنواع الأشجار التي تغرس بها وكذلك قام بالإشراف على تخطيط الطرقات والممرات بها، كما ألحق بالحديقة منحلا ومعملا للألبان وحظائر للكلاب الخصوصية ومزرعة للدواجن، كما بنى منازل لسكن المستخدمين والعمال الذين يعملون بالقصر وشيد كذلك مسجد وتكية للعجزة وغيرها.
- وهكذا عمرت المنطقة وازدانت بالحدائق الغناء وأطلق عليها وعلى القصر معا مسمى واحد هو "قصر المنتزة"، وفي سبب اختيار ذلك المسمى الشهير يذكر أيضا "أحمد شفيق باشا" سبب التسمية فيروي(1) " أما سبب تسميته بهذا الاسم، فقد كنا ذات يوم بحضرة الخديوي وكان بيننا محمود شكري باشا رئيس الديوان التركي، فطلب منا سموه (أي الخديوي) أن ننتخب اسما للقصر الجديد فأخذ كل منا يقترح اسما وكان اقتراح محمود شكري باشا أن يسمى القصر باسم قصــر المنتزة فارتاح سموه إلى هذا الاسم وأطلقه عليه من ذلك الحين ".  
- واستمرت الأسرة العلوية فترة ما بعد الخديوي "عباس حلمي الثاني" في الاهتمام بتلك الحدائق واعتبارها مصيفا رئيسيا للأسرة المالكة حيث كانت إضافات الملك فؤاد الأول بمنطقة الحدائق والشاطىء، حتى كانت إقامة فاروق بها وحتى قيام ثورة يوليو 1952م حيث كان مقيما بها، فأبلغ بقيام الثورة لتتطور الأحداث سريعا ليتنازل فاروق عن عرشه، وليغادر الإسكندرية حيث تسقط الملكية، ولتفتح حدائق وشواطىء المنتزة أبوابها للعامة من أبناء الشعب في أعقاب ذلك كمنتزه عام وللآن لتتحول إلى منطقة سياحية متميزة، أما القصر فقد تحول مبنى "السلاملك" إلى فندق راقي مميز، بينما فتح مبنى "الحرملك" في أعقاب الثورة أمام الجماهير للزيارة قبل أن ينضم إلى مجموعة قصور رئاسة الجمهورية ليحل فيه ضيوف مصر من الرؤساء والملوك والزعماء، وفي عام 1964م أقيم فندقا أطلق عليه اسم "فلسطين" حيث يطل على الخليج الساحر ليشهد مولد أول قمة عربية احتضنتها مصر في زمن

1- أحمد شفيق باشا. مذكراتي في نصف قرن ج2،  (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995)،  ص  46.



 الكوبري الملكي المؤدي لكشك الشاي، والبوابة الرئيسية بحدائق قصر المنتزة من إضافات الملك فؤاد الأول.
 المد الوطني القومي العربي(1)، كما يتم استغلال الشاطيء في تشييد الكبائن الجميلة التي لا تمنع رؤية البحر من داخل الحدائق ولتظل المنتزة ذات تاريخ وسحر وبهاء لا يضاهيها في ذلك بقعة أخرى في الإسكندرية ومصر على الإطلاق ولتسطر بذلك صفحة أخرى من صفحات التاريخ في الإسكندرية.












1- د. عبد العظيم رمضان.  تاريخ الإسكندرية في العصر الحديث، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993)، ص ص.     130- 131.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق