السبت، أكتوبر 27، 2012

الخطط السكندرية - الأزاريـــطة



صفحات من تاريخ الإسكندرية العمراني والحضري في العصر الحديث


د. خالد محمود هيبة

عضو هيئة التدريس - كلية الهندسة - جامعة الأزهر

والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية عام 2005م


 


الأزاريـــطة


- في أقصى شرق الميناء الشرقي، ومابين كورنيش الإسكندرية، مرورا بخط ترام الرمل وحتى حدائق الشلالات جنوبا تقع منطقة "الأزاريطة" أو كما يطلق عليها بعض السكندريين والأجانب ممن استوطنوا الإسكندرية (المزاريطة)، وهي تمثل أحد أشهر أحياء الإسكندرية حيث تقع في منطقة ساحليه مابين منطقة ميدان " محطة الرمل "، ومنطقة " الشاطبي" مع نهاية الجانب الشرقي لساحل الميناء الشرقي التاريخي للإسكندرية حيث تم بناء مكتبة الإسكندرية الجديدة على ذات الساحل.


تمثال "نوبار باشا" بحدائق الشلالات بالأزاريطة خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين قبل نقله للمخازن في أعقاب ثورة يوليو عام 1952م، ليعود مرة أخرى ولكن أمام دار أوبرا الإسكندرية "مسرح سيد درويش" مع افتتاحها عام 2004م.

- وبالرغم من أن "الأزاريطة" تعتبر من أرقى أحياء الإسكندرية حيث تضم العديد من مباني مقار الهيئات والمؤسسات الهامة كالمستشفى الجامعي الرئيسي "المستشفى الأميري، أو المستشفى الميري كما يحلو للعامة تسميتها" ومجمع كليات الطب بجامعة الإسكندرية ومجمع الكليات النظرية وديوان حي وسط الإسكندرية ومبنى هيئة الرقابة الإدارية بالإسكندرية ومقار بعض البنوك والفنادق وغيرها من المباني الهامة، إلا أنها تحولت بعد أن هجرها الأجانب الذين كانوا يمثلون الغالبية من سكانها مع نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين إلى منطقة تعج بالورش الحرفية مما حدي بمحافظة الإسكندرية باتخاذ قرار بنقل تلك الورش خارج منطقة "الأزاريطة" لكي تعود المنطقة إلى سابق عهدها زمن الأجانب السكندريين والتي لازالت بعض مبانيهم المؤسسية قائمة بمنطقة بالازاريطة وللآن كمقر النادي اليوناني السكندري حيث يشغل مساحة واسعة تقع على خط ترام الرمل، وكذا قنصليتي اليونان وقبرص ومدافن الطائفة الإسرائيلية الأثرية وبعض مباني ملاجىء ومدارس تلك الجاليات المختلفة وغيرها.
- يرجع تاريخ تلك منطقة "الأزاريطة" إلى عام 1820م في عهد والي مصر "محمد علي باشا"، حين نهض بالإسكندرية وأعاد لها مكانتها كميناء رئيسي لمصر، ففكر في ضرورة إنشاء مجلس صحي بها، فشكل في عام 1242هـ (1827م) مجلساً كان أعضاءه من أطباء الجيش وصيدليته وأطلق عليه مجلس " الصحة والاسبتاليات " (1)، وفي عام 1835م وضع "كلوت بك" لهذا المجلس نظام خاص به وأطلق عليه "مجلس الصحة العمومي"، ومع انتشار الكوليرا في مصر عام 1831م زادت عناية "محمد علي" بهذا المجلس وأدخل إليه نظام الحجر الصحي المعمول به في أوروبا خدمة للأمور الصحية والتجارية في جميع البلاد الواقعة على البحر المتوسط فجمع قناصل الدول وشكل منهم لجنة للنظر في الأمور الخاصة بالحجر الصحي وأصدر بذلك دكريتو في 8 أكتوبر عام 1831م حيث تم في عام 1832م تم بناء أول محجر صحي بجوار الميناء الشرقي حيث كانت ترسى السفن الأوروبية والأجنبية في تلك الفترة، (وهو في الغالب ذات المكان الذي يشغله الآن المستشفى الجامعي الرئيسي "المستشفى الأميري").
1- أمين سامي. تقويم النيل، الجزء الثاني، ( القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2002)، ص 370.
وقد أطلق عليه لفظ "لازاريت" (Lazarette)¬(1) وهو اللفظ الذي أطلق على أول محجر صحي أقامته "فرنسا" عام 1403م وجعلته في جزيرة صغيرة قريبة


ميدان "الخرطوم" أمام مجمع كليات الطب بالأزاريطة خلال فترة
النصف الأول من القرن العشرين.


منها بالبحر "الأدرياتيكي" تسمى جزيرة "سانت ماري دو نازاريه" حيث كانت تحجر فيها على البضائع والأشخاص القادمين إليها من الشرق لينتشر ذلك النوع من الرعاية الصحية للثغور بالمتوسط فأقامت مدينة "جنوه" بجنوب ايطاليا محجراً صحياً عام 1467م، وكذلك "مرسيليا" بجنوب فرنسا عام 1526م ولم تعرف مصر هذا النوع من المباني الصحية حتى أنشأ "لازاريت الإسكندرية" عام 1832م.
1- محمد لبيب البتانوني. الرحلة الحجازية لولي النعم الحاج عباس حلمي الثاني خديوي مصر، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995)، ص 358.
- ولفظ لازاريت (Lazarette) ذات أصل لاتيني معناها (Ladre) أي الأبرص أو المجزوم، حيث كانت الدولة الرومانية تبالغ في الحجر على المجذومين فكانوا يضعوهم في الحجر طوال حياتهم، ومن ذلك اللفظ اشتقت كلمة الأزاريطة وذلك مع النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتجدر الإشارة بأن الإسلام كان سباقا في إقرار نظم الحجر الصحي قبل وضع القوانين الأوروبية بقرون عدة، حيث ورد بالبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"(1) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصبح ذلك الحديث الشريف أول قانون صحي وضع للناس قبل صدور قوانين الحجر الصحية الأوروبية بثمانية قرون.
- وهكذا صار للإسكندرية محجراً صحياً بتلك المنطقة مجاوراً للميناء الشرقي التليد، والذي انتقل مع انتقال حركة السفن منه إلى الميناء الغربي لمنطقة "الكارانتية" وذلك مع نهاية عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر بعد أن انتهى "محمد علي" من توسعته ذلك الميناء وبناء الأرصفة الجديدة، وكذا تشييده لسراي "رأس التين" لتصبح مقرا لإقامته، ليتبقى منه المسمى فقط للمنطقة المجاورة للميناء الشرقي القديم، حيث يطلق عليها مسمى "الأزاريطة" وليقطن بها الأجانب بعد ذلك في عهد الخديوي "إسماعيل" ولتستمر كذلك مع بداية القرن العشرين لتصبح أحد أهم وأرقى أحياء الإسكندرية قبل أن يهجرها هؤلاء الأجانب في أعقاب قيام ثورة يوليو عام 1952م وكذا إغارة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ليترك الأجانب مصر والإسكندرية فتهمل منطقة "الأزاريطة"، وتزحف الورش العشوائية وغيرها من ملوثات البيئة العمرانية حتى اتخذت محافظة الإسكندرية قرارها بنقل تلك الورش خارج 

1- الأمام الحافظ بن حجر العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (القاهرة: دار الريان للتراث، 1987)، ص 189.




مكتبة الإسكندرية الجديدة بعد افتتاحها عام 2002م.

 جدارية مكتبة الإسكندرية الشاخصة بشارع "سوتر" بمنطقة "الأزاريطة"


الأزاريطة، ولعلها تنجح في ذلك الأمر سريعا وبخاصة بعد افتتاح "مكتبة الإسكندرية" الجديدة على ساحل الكورنيش بجوار ذات المنطقة في "الأزاريطة" لإعادة إحياء تلك المنارة العلمية الثقافية الحضرية التي اشتهرت بها الإسكندرية لقرون عدة حيث قادت من خلالها الإسكندرية الحركة العلمية والفكرية في المعمورة طيلة تلك الفترة، لتعود للذاكرة صفحة من صفحات التاريخ بالإسكندرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق