الخميس، ديسمبر 30، 2010

سجون العقل العربى ... المفكر الكبير د / طارق حجى ( الجزء الثانى )



الفصل الأول
انبعاث المارد

١

أما الاستبدادُ السياسي فإنه ينتجُ آثارًا سلبيةً عديدةً أكثرها خطرًا هو "قتل الحراك الاجتماعي" بمعنى توقف حركةِ صعودِ أفضلِ أبناءِ وبناتِ المجتمعِ للمقاعدِ القياديةِ في شتى المجالاتِ ووجودِ سلطاتٍ استاتيكية وصل إليها من وصل عن طريقِ قبولِ (بل ودعمِ) الاستبداد وإبداء الولاء. وإذا كان الاستبدادُ يؤدي لقتلِ الحراكِ الاجتماعي، فإن هذا الأخير (قتل الحراك الاجتماعي) يؤدي لشيوعِ عدمِ الكفاءةِ في كلِ المجالاتِ. فالاستبدادُ يأتي بالأتباعِ (The Followers) ولا يأتي بالأكفاء (Competent The) – وهكذا، فكما أن الاستبدادَ يقتل الحراكَ الاجتماعي فإن انتفاءَ الحراكِ الاجتماعي يشيع عدمَ الكفاءةِ في كلِ القطاعاتِ والمجالاتِ. وشيوع عدم الكفاءة يثمرُ (لا محالة) مُناخًا عامًّا عامرًا باليأسِ – ومن مُناخِ اليأس تنبثق ذهنيةُ العنفِ ناهيك عن انخفاضِ معنى الحياةِ الإنسانيةِ كقيمةٍ – سواء أكانت حياة الشخص نفسه أم حياة الآخرين. وقد قادني الانشغال بشئونِ المجتمعاتِ العربيةِ والإسلاميةِ لأن أرى بوضوحٍ المعادلةَ التي أُسميها "معادلة التدمير": الحكم الأوتوقراطي يؤدي لوقف الحراك الاجتماعي .. وقف الحراك الاجتماعي يقضي على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ .. القضاء على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ يولد طاقةً شريرةً عملاقةً هي "اليأس" .. طاقةُ اليأسِ تفرز ذهنيةَ العنفِ واسترخاص الحياة الإنسانية وتولد رغبات هائلة في الانتقام.

١.1
خضعت مجتمعاتٌ إسلاميةٌ خلال العقودِ الأخيرةِ لأشكالٍ مختلفةٍ من "الطغاةِ" الذين حكموا بلدانهم بيدٍ من حديدٍ، وفي ظلِ أتوقراطيةٍ واسعةٍ أدت في كثيرٍ من الأحوال إلى "مسلسل التداعي" الذي وصفته من قبل وهو: استبداد يلغي الحراك الاجتماعي .. انعدام الحراك الاجتماعي يشيع عدم الكفاءة في كل المجالات .. ظاهرة عدم الكفاءة عامة تؤدي لانهيار في كلِ المستوياتِ يولد شعورًا باليأس والغضب ومنهما تنبت "ذهنيةُ العنفِ" لاسيما وأن غير الأكفاء (The non-competent) يجعلون منظومةَ التعليم عاملَ تدهور إضافي لكافة المستويات. وفي تلك المجتمعات كلها ما إن تحدث متغيرات تجعل الطاغية يسقط (سوهارتو في إندونيسيا .. صدام حسين في العراق) حتى يبرز على سطحِ الحياةِ العامةِ فجأة رموزُ الفهمِ الوهابي للإسلام وهم يطرحون أنفسهم بمثابة "المُخَلِّصِ"! وينخدع البعض ويقولون: إن هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة التي تفرزها هذه المجتمعات. والخطأ هنا مركب: فالذي أفرز هؤلاء هم "الطغاة" و"طرائق حكمهم الأتوقراطية" التي قتلت الحراك الاجتماعي ومنعت نمو المجتمع المدني وعممت "عدم الكفاءة" وجعلت دنيا السياسة مكونةً من أفقين: أفق فوق الأرض (وعليه الطغاة وأركان نظمهم فقط) وأفق تحت الأرض (وفيه رموز الفهم الوهابي والذين أصبحوا متدربين أفضل تدريب على النمو تحت الأرض في ظل السرية والمطاردة) .. وما إن ينزاح الطغاة حتى تبرز القوى السياسية الوحيدة التي كانت قائمة (تحت الأرض) وفي ظل انعدام المجتمع المدني واختفاء الحراك الاجتماعي وشيوع عدم الكفاءة، فإن المسرح يكون معدًّا لفريق جديد من الطغاة سيكونون طغاةً وغيرَ أكفاءٍ في آنٍ واحدٍ .. وسيأخذون مجتمعاتهم لدرجاتٍ أشد انحدارًا من التأخرِ والتخلفِ والبعدِ عن معادلةِ التقدم والحداثة والاستغراق في مشكلاتٍ اجتماعيةٍ لا حصر لها.
وباختصارٍ: فإن طغاةَ ما فوق الأرض وطغاة تنظيمات تحت الأرض على السواء من ثمار المعادلة التي أعود لها هنا المرة تلو المرة: نظام سياسي أتوقراطي (استبدادي) يشل الحراك الاجتماعي، فيسود غير الأكفاء في كل المجالات، فتنخفض كل المستويات، فيشيع اليأسُ وتنبثق وتستفحل ذهنيةُ العنفِ ولا يكون بوسع مؤسستي "التعليم" و"الاعلام" إصلاح تلك التراجيديا، لأن هاتين المؤسستين قد فسدتا أيضًا على يدِ غير الأكفاء .
وإذا قال قائلٌ: لماذا لا ينتشر إلاَّ هذا النموذج كلما سقط طاغية في مجتمع إسلامي أو عربي؟ ... كان الجدير بنا أن نقول له "إن الذي انتشر هو اليأس الذي هو الثمرة الطبيعية لنظمِ حكمٍ أتوقراطيةٍ لم تبق أحدًا فوق الأرض – ولم يعش في ظلها إلاَّ ذلك المارد "تحت الأرض" .. والعلاج الوحيد يبدأ من بداية السلسلة لا من نهايتها.

۱.2
خلال السنواتِ ما بين 1967 و 1973 (وهي سنو دراستي لدرجتي الليسانس في الحقوقِ والماجستير في القانون العام والمقارن) تعرفتُ معرفةً مبدئيةً إلى "علمِ أُصولِ الفقه". وفي سنواتٍ لاحقةٍ (كنت أقوم خلالها بالتدريس بجامعاتٍ بالخارجِ) عكفتُ على دراسةٍ واسعةٍ لعلمِ أُصولِ الفقه – وخرجتُ عن دائرةِ المذاهبِ السنيِةِ الأربعةِ لشتى مذاهبِ الفقه الشيعي (وأهمها فقه الإمامية) ولسائرِ مذاهبِ فقه الخوارج بفرقهم الأربع الرئيسة (وأهمها فقه الإباضية الذائع في منطقةٍ صغيرةٍ بالجزائر وفي معظمِ سلطنةِ عُمان) ومدارسَ أُخرى في الفقه اندثرت (مثل فقه الطبري صاحب التفسير المشهور باسمه، وفقه الليث). وقد أخذني التوغلُ في دراسِة أُصولِ الفقه لعوالمَ أُخرى لصيقة الصلة بهذا المجال لعل أهمها "علم الكلام" (أو الفلسفة الإسلامية) – إذْ أَوغلتُ في مطالعةٍ متأنيةٍ لما أبقاه الزمنُ من آثارِ المعتزلةِ والأشاعرةِ …كما كان لصديقٍ مقربٍ (هو الدكتور محمود إسماعيل) أثر كبير في تعرُّفِي إلى عوالمَ ما يُسمى بالفرقِ الباطنيةِ في التاريخ الإسلامي (وهذا الصديق من أكثر من قرأت له تعمقًا في فكرِ الخوارجِ والقرامطِة وعددٍ كبيرٍ من الفرقِ السريِةِ "حسب تسميته" في تاريخ المسلمين).
فابن رشد

يتعامل مع النصوص بطرائق جد مختلفة عن طرائق تعامل ابن تيمية والمودودي وسيد قطب معها؛ فمجرد التعويل على نص دون آخر أداة هدم يمكن أن يستعملها الآخرون، فالدارس الموضوعي للتوراة والتلمود (ولاسيما التلمود البابلي "الجمارة")، لا يسمح لنفسه بأن يقف عند كلمات قالها يشوع بن نون في موقف معين ذي إطار تاريخي وزمني ومكاني محدد. ولا يستطيع أن يتخذ من "الصداق" (المهر) الذي طلبه الملك شاؤول من داود بن يسي البيتلحمي (الملك داود عند اليهود والنبي داود عند المسلمين) ليزوجه من ابنته ميكال دليلاً على شيء في غير إطاره التاريخي، بمعنى إنني لا أستطيع أن أقتطفَ نصًا أو نصوصًا كهذه وأعدو بعيدًا مشهرًّا بها على الآخرين بمعزل عن الإطار التاريخي والإنساني والمرحلي للنص.

وباختصار، فإنه من المؤكد أنه ليس هناك فهم واحد للإسلام، وإنما عشرات الأشكال والأنواع. فهناك من يرفض معظم الأحاديث النبوية ولا يقبل منها إلاَّ عشرات (مثل أبي حنيفة النعمان) وهناك من يقبل في كتابه "المسند" عشرات الآلاف (أحمد بن حنبل).

وهناك من يعتمد مصادرَ للفقه غير مصادر غيره (الاستحسان عند الحنفية والمصالح المرسلة عند المالكية .. إلخ).

وهناك من يتجاوز الآفاق الضيقة للتفسير ويفتح بوابات العقل على ما يسميه "التأويل" (ابن رشد).

وهناك من يسمي عقوبة شرب الخمر (حد الشرب) مثل معظم الفقهاء. بينما هناك من يسميه (حد السكر) مثل أَبي حنيفة القائل عن الخمر (لو أَلقوني في النار ما شربتها .. ولو أَلقوني في النار ما قلت إنها حرام).

۱.2.1
منذ قرنِه الأول عرف الإسلامُ مجموعاتٍ متطرفة بمحاذاةِ تيارٍ عامٍ متوسط وبعيد عن العنفِ والتطرفِ وأُحاديةِ النظرة واحتكار الحقيقة. فمنذ سنة 660 ميلادية (منتصف القرن الهجري الأول) برزت فرقةُ الخوارج والتي اتسمت بالغلو الشديد في التمسكِ بفهمها للإسلامِ وتكفيرِ من يحيد عن فهمهم هذا. وفي القرونِ التاليةِ ظل الإسلامُ يعرف تيارًا عامًّا وسطيًّا (معتدلاً) وتيارات جانبية بالغة التطرف والعنف. وقد أعطى الدكتور محمود إسماعيل عبد الرزاق حياته العلمية وجهده العقلي الفذ لدراسةِ هذه المجموعات المتشددة والتي أطلق عليها تسمية "الحركات السرية في الإسلام" وكتب عن فرقها بحوثًا بالغة العمق وخص مجموعةً منها بدراسةٍ معمقة وهم القرامطة الذين قاموا بخطف الحجر الأسود وأخذوه لموقعٍ بعيدٍ في شرق الجزيرة العربية لأكثر من قرنٍ من الزمان.
وإلى جانب كل تلك التوجهات والمذاهب والفرق -، هناك متشددون من اليوم الأول وحتى هذه اللحظة: من حمدان بن قرمط الذي خطف الحجر الأسود من الكعبة إلى سكّان كهوف وزيرستان ومرورًا بسيد قطب

الذي قدم للمسلمين نظرية ستبقى سورًا يفصلهم عن الإنسانية والتقدم حتى يهدم هذا السور، وأعني "نظرية الحاكمية" والتي فحواها أن البشر لا يحكمون البشر وإنما يحكمهم الله (ويبقى السؤال التراجيدي: ومن سيقول لنا على أحكام الله؟ .. والجواب: "نحن العلماء"!! وهكذا، نكون سجناء لثيوقراطية تجاوزتها مسيرة التقدم الإنساني ونكون أصحاب أكبر طبقة رجال دين بعد أن كررنا مرارًا (أنه ليس في الإسلام طبقة رجال دين) ناهيك عن مأساة (وملهاة) تسمية رجال الدين بالعلماء! (أحد هؤلاء العلماء قال ذات يوم غير بعيد (في صيف 2005) ردًّا عن سؤال: "من هو Bill Gates – قال: "لا أعرف .. وليس من المهم أن أعرف" (وهي إجابة تلخص العزلة والانفصال عن الإنسانية ومسيرة التمدن).

وإلى جانب التيارات التي كانت تُغالي في التطرفِ والحرفية وإيجاد قواعدَ تفصيليةٍ لكل أُمورِ الحياة، كان هناك التيار العام والذي يمكن تلخيصه في المذاهب السنية الرئيسة (وأهمها مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد بن حنبل ومذاهب أخرى اندثرت مثل مذهب الليث ومذهب الطبري) وكذلك المذاهب الشيعية العديدة (وأشهرها الإمامية). وداخل التيار العام كان هناك من يفسح مجالاً للعقل (الرأي) مثل أبي حنيفة الذي لم يقبل من الأحاديث النبوية إلاَّ أقل من الأحاديث الواردة بصفحة واحدة من صحيح البخاري - وهو ما يفسح المجال للرأي. وفي المقابل كان هناك مذهب أحمد بن حنبل الذي يضم كتابه (المسند) أكثر من عشرة آلاف حديث؛ وهو ما لم يترك شيئًا بدون تنظيم وهو ما يجعل النقل هو السائد والعقل هو الغائب. ولتيار أَحمد بن حنبل ينتمي فقيهان آخران هما ابن تيمية وابن قيم الجوزية وهما مثل أَحمد بن حنبل لا يتركون مساحة تذكر للعقل والرأي وإنما لديهم أحاديث تنظم شتى جوانب الدين والدنيا بكلِ تفاصيلِها. ويضاف لذلك أن العقلَ الإسلامي واجه ما يشبه المعركة بين أبي حامد الغزالي والذي لا يؤمن بأن العقلَ قادرٌ على إدراك الحقائق وبين ابن رشد أكثر مفكري العرب إعلاءً لشأن العقل؛ وهو ما يتضح من التناقض الواضح بين آراء الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وآراء ابن رشد في كتابه الفذ (تهافت التهافت). والخلاصة أنه في عالم الفقه (وهو عمل بشري محض) فقد كان التوسع للمدراس التي تحبذ قبول آلاف الأحاديث عن إِعمال الرأي؛ وبمحاذاة ذلك ففي عالم الفكر ( علم الكلام بلغةِ العرب في ذلك الزمان والفلسفة بلغةِ العصر) فقد كانت أيضًا الغلبة لمدارس النقل والحدس (الغزالي) وقلة أثر مدرسة العقل (ابن رشد) (وإن كان الأوروبيون هم الذين استفادوا من أطروحات ابن رشد).
وخلال رحلةٍ استغرقت نحو عشرين سنة تكوّن لدي نفورٌ قويٌ من الذين أُسميهم "عبدة الحرف" و "أسرى النقل"؛ كما تكون لدي ولعٌ شديدٌ بأصحابِ العقلِ وفي مقدمتهم "ابن رشد" الذي استفادت منه أوروبا وخسرناه نحن (وخسرنا معه فرصةً تاريخيةً للتقدمِ). ورغم مطالعتي المدققة لكلِ آثارِ ابن تيمية وأعلام مدرسته (من ابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي) – فلم تزدني تلك المطالعةُ إِلاَّ نفورًا من هذا التيارِ الكاسحِ وفي الوقتِ نفسه زاد ولعي من جهةٍ بالمعتزلةِ ومن جهةٍ أُخرى بمن قطعوا رحلةً طويلةً على "دربِ العقلِ" مثل ابن سينا والفارابي …ثم بإمامِ أهلِ العقلِ قاطبةً "ابن رشد".
وكنتيجةٍ لتلك الصورة العامة فقد عرف المسلمون نمطين لفهم الإسلام: نمطًا متشددًا شديد الغلو في التحريم والتجريم والتنظيم، ولم يكن هذا النمط موجودًا إلاَّ في الفرق السرية (وهي قليلة في عَددِها وأثرِها) وفي المناطق البدوية بالجزيرة العربية. أما الأماكن الأكثر ازدهارًا عقليَّا وذات الجذور الحضارية العريقة مثل مصر والعراق وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع فقد ساد فيها فهم للإسلام يتسم بدرجة عالية من المرونَةِ والتسامحِ وقبولِ الآخر وعدم تكفير أصحاب الرؤى المختلفة.

إن النصوص الإسلامية تحتمل كل التفسيرات. وقد قالها أوائل المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة عندما كرروا (القرآن حمّال وجوه). والعبرة ليست بالنص (أي نص) وإنما بمن يقرأ ويفهم ويقدم النص.

وعندما كنتُ أعكف على مطالعة أَعمالٍ للغزالي مثل (إحياء علوم الدين) و(معيار العلم) و(معيار العمل) و(المنقذ من الضلال) و (المستصفى من علم الأصول) و (تهافت الفلاسفة) وأُقارن قدر ما بها من "بُعد عن العقل" وما بكتابات ابن رشد من "ثقل عقلاني هائل" كنت أُذهلُ: كيف نالت كتاباتُ "الغزالي" كل هذا التقدير(المبالغ فيه إلى أبعد الحدود) وكيف نالت كتابات "ابن رشد" كل هذا التجاهل (المبالغ فيه إلى أبعد الحدود): ويكفي أَن يعكف قارئٌ جادٌّ على مطالعةِ كتابِ (تهافت الفلاسفة) للغزالي ثم يعقب ذلك بمطالعته كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ليرى البونَ الشاسع في العمقِ وإِعمالِ العقلِ. كذلك ما أكثر ما تساءلت: كيف أخفى مؤرخو الفكر الإسلامي مواقفَ الغزالي المؤيدة للحكام المستبدين بشكلٍ مفرطٍ؟ …وفي المقابل: فقد كان "ابن رشد" مصدرَ ألمٍ دائمٍ للحكامِ المستبدين الراغبين في (تنويم العقول) لأن في ذلك الضمانة الكبرى لأمرين: بقاء الأَحوال على ما هي عليه، ثم بعدهم عن المساءلةِ، فالعقلُ هو مصدر الأسئلة، والأسئلة تؤدي للمساءلة، وكما يردد صديقٌ من المفكرين المستنيرين: فإن الأسئلة مبصرةٌ – والأجوبة عمياءٌ !

وأكررُ أنه كثيرًا ما شغلني هذا السؤَالُ :لماذا انتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي (وهو يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعلم عنده إلاَّ العلم بالدين ويفتح المجالَ أمام إلغاء العقل كليةً بإنكاره إمكان تحصيل المعرفة (أو إدراكها) بالحواس في مواجهةِ ابن رشد (وهو العامـر بنـورِ العقلِ والزارع لكلِ بذورِ نهضةٍ خسرناها)؟ …ما الذي سهَّل للغزالي هذا الانتشار، وصعّب على ابن رشـد مثلـه؟ …وقد استغرقَ الأمرُ سنواتٍ عديدةٍ لأعرف أن العلامةَ الفارقَة كانت هي (الاستبداد). فكيف يمكن لحكامِ المسلمين في زمنِ الغزالي وابن رشد أن يروق لهم فكرٌ إلاَّ فكر الغزالي؟ وكيف لأوروبا التي كانت تحارب معركتها العقلية مع الكهنوت أن تنتصر لأحدٍ كما انتصرت كليةُ الآداب بجامعةِ باريس في القرن الثالث عشر لأفكارِ ابن رشد؟ …لقد كان الاستبدادُ في عالِمنا سائرًا نحو ذروته – فكان الاعجابُ بكتاباتِ من وصل لحدِ إلغاءِ دورِ العقلِ هو الاختيار الواقعي الأمثل. وكان الاستبدادُ في أوروبا قد بدأ يترنح، لذلك فإن قوى التنوير قد نصرت ابن رشد العربي المسلم على توماس الإكويني الأوروبي المسيحي (صاحب نظرية السيفين).

وهكذا يتضح أن " الاستبدادَ" و "الآراءَ المتشددة" و" طغيانَ رجالِ الدين" و "الدعوةَ للحدِ من استعمالِ العقلِ والإسراف في النقلِ" هي كُلها مجموعة من الأشقاء المتماثلين في ملامِحهم ومادتِهم الخامِ التي صُنعوا منها كما أَنهم متماثلون في الغاياتِ. ومع ذلك، فإن الأمورَ ليست كلها إما "سوداء" أو "بيضاء" : فرغم أن المسلمين لم يتح لهم أن يستثمروا فكر ابن رشد بالكيفيةِ المُثلى والتي كانت قمينةً في اعتقادي بجعلِ المسلمين على طريقٍ تشبه الطريق التي سارت عليها أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى بلغت ما بلغت من رقي في الفكرِ والحرياتِ العامةِ والإبداعِ والآدابِ والفنونِ والعلومِ.
إِلاَّ أن المسلمين عرفوا (بنوعٍ نسبيٍّ من التعميم) "إسلامين" : إسلام يمكن وصفه بالإسلام التركي/المصري وإسلام يمكن وصفه بإسلام البداوة.
أما الأول، فيمكن القول إنه حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي كان هناك فهمان للإسلام (كما ذكرنا آنفًا (: فهم متطرف متشدد يكثر التحريم ووضع القواعد التفصيلية لكلِ أمورِ الدين والدنيا ...وهو الفهم الصحراوي البدوي الذي ساد في مجتمعاتِ كثبان الرمال بشرق الجزيرة العربية. أما الفهمُ الثاني المتسم بالتسامح والمرونة والقبول النسبي للآخر وعدم وضع قواعد تنظيمية تفصيلية لكل أمور الدين والدنيا فهو ما أُسميه بالفهم المصري/التركي/السوري للإسلام والذي شاع في معظم المجتمعات الإسلامية خارج كثبان الجزيرة العربية.

ورغم معرفتي أن هذا الإسلام التركي / المصري لا يمكن وصفه بأنه كان علمانيًّا، إِلاَّ أنه كان كذلك في جوانبَ عديدةٍ منه وليس بمعنى إنكار الدين وإنما بمعنى النظر للدينِ كدينٍ وليس كنظريةٍ متكاملةٍ للحياةِ وتنظيمِ أمورِ المجتمع، فلا أملك أن أصفه بأنه كان مشبعًا بدرجةِ النورِ والتقدمِ والحريةِ التي كانت في فكرِ ابن رشد، ولكنه كان بمعايير القرون التي وجد فيها سمحًا بشكل نسبي معقول.

١.2.2
وفي أماكنَ أخرى، أخذت مجموعاتٌ بشريةٌ فرضت عليها العزلةُ الجغرافية لكونها في مواقعَ داخلية غير ذات صلاتٍ بالعالمِ الخارجي ولا تعيش على (السواحل) في تنميِةِ أفكارِ مدرسة ابن تيمية ثم ابن قيم الجوزية حتى وصلنا إلى أفكار محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وهي الأفكار التي يمكن وصفها بأنها سبيكة من الروح النجدية البدوية المتعصبة التي أنجبت "الإخوان" (السعوديين) الذين حاربوا الملك عبد العزيز بن سعود (1870/1953)



في عشرينات القرن العشرين ثم أضيفت لتلك السبيكة ثمارالذهنية القطبية، مع أموال البترول، مع أخطاء دولية بلا حساب كما حدث في أفغانستان في أواخر السبعينات وكما حدث في مصر عندما أحاط رعاة الإخوان المسلمين الكبار ممثلين في أكثر رجال الاعمال وقتئذ ثراءً بأنور السادات وجعلوه يلعب بالشيطان أي يطلق العنان للجماعات الإسلامية في كل مكان ليحاربوا لصالحه (ونيابة عنه) التيار اليساري.

لم يكن محمد بن عبد الوهاب الذي إليه ينسب المذهب الوهابي فقيهًا وإنما رجل دعوة. ولكنه ينتسب (فكريًا) لأكثرِ التياراتِ الإسلاميةِ تأسيسًا لمذهبها على "النقل" وأقلها تعويلاً على "للعقل". فبشكلٍ ما يمكن نسبة محمد عبد الوهاب لابن تيمية (ونسبة استعمال "العقل" عنده قليلة ونسبة "النقل" مطلقة). يُضاف لذلك أثر البيئة الجغرافية. فبينما عرفت مصرُ وسوريا ولبنان والعراق واليمن حضاراتٍ قديمةً تركت أثرَها على التاريخ الإنساني .. وبينما عرفت أماكن مثل "دبي" و"الحجاز" تعاملات واسعة (بسبب التجارة) مع "العالم الخارجي" – فإن صحراء "نجد" في القسم الشرقي مما هو الآن "السعودية" لم تعرف (بحكم طبيعتها الصحراوية الموغلة في الشدةِ والجفافِ) أيةَ حضارةٍ قبل الإسلام .. ولم تكن مركزًا لأية حضارةٍ بعد انتشاره (مثلما كانت عواصمُ الخلافة: المدينة ودمشق وبغداد). ولا يعرف الدارسُ لنجدٍ أية مساهمات لهذه المنطقة في الفنون والآداب والموسيقى إلاَّ الشعر.
وأخيرًا، فإن محمد بن عبد الوهاب ليس فقيهًا على الإطلاق وإنما داعية تياره معالم الذهنية النجدية التي يجب أن تفهم من خلال الكلمات التالية : ذهنية / قبلية / بدوية / صحراوية / داخلية. ولو لم يوجد البترول في هذه المناطق لبقت تلك الذهنية أسيرة جغرافيتها الطبيعية أي كثبان رمال نجد التي لم تنتج أي فكر أو فن تشكيلي أو موسيقى أو أدب روائي أو أدب قصصي وإنما اكتفت بإنتاج شعر موضوعه الوحيد الترويج لقيم القبيلة النجدية .

كان ذلك هو وضع عالم المسلمين حتى ولد بصحراء نجد في سنة 1703 محمد بن عبد الوهاب، وهو الرجل الذي صارت الأمور في نجد على هواه بعد ذلك؛ فحدث في عام 1744 حلف بينه (وعائلته) وبين محمد بن سعود قاضي الدرعية (وأهله أيضًا) وهو الحلف الذي يقوم على أن يحكم آل سعود وفق فتاوى آل الشيخ (محمد بن عبد الوهاب وعائلته أي الوهابيين). وهو الحلف الذي أدى لما يمكن أن نسميه الدولة السعودية الأولى والتي سيطرت منذ سنة 1804 على ما يقرب من مليون ميل مربع في الجزيرة العربية حتى استأصل شأفتها وسحقها إبراهيم ابن محمد علي الكبير في سنة 1819 وهو عام تدمير الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.

وكان من الطبيعي أن يحدث صدامٌ بين "الصنفين" : وهذا ما وقع في سني العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر وفي شكلِ مواجهةٍ بين التيارين، قاد التيار الأكثر استنارة فيه جيشٌ مصريٌ بقيادةِ طوسون بن محمد علي ثم من بعده بقيادة إبراهيم (أعظم أبناء محمد علي)؛ وانتهت هذه الجولة بانتصارِ النموذج التركي/ المصري.
خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر أرسل حاكمُ مصرَ محمد علي (والذي قدمها والمنطقة كلها للعصر الحديث) جيشًا كبيرًا بقيادة ابنه طوسون ثم بقيادة ابنه إبراهيم بهدفٍ محددٍ هو القضاء على الدولةِ التي كانت قد تكونت في نجد (شرق الجزيرة العربية) وتحكم بناءً على الفهمِ الوهابي للإسلام وتمثل (وهذا هو الأهم) مُناخَ هذه المنطقة الثقافي بالتحديد. وفي سنة 1818 أنجز إبراهيم باشا مهمته إذ ألحق الهزيمة بالطرفِ المقابلِ وحطم عاصمتهم (الدرعية) وأخذ قائدَهم أسيرًا (أُعدم بعد ذلك في اسطنبول) . وتجسد تلك الحربُ الصدامَ بين فهمِ المصريين والأتراك (وكان يُشاركهم في ذلك مسلمو الشام بالمعنى الكبير) من جانبٍ، والفهمِ الوهابي للإسلام من جانب آخر. ولكن ظروفًا عديدة جعلت الفهمَ الأكثر شيوعًا بين المسلمين (The Main Stream) وهو الفهم الوسطي المعتدل المسالم القابل للتعايش مع الآخرين والذي لا يرفض في تشنج ثمارَ التقدمِ والحداثة.
ويمكن القول إن قرارَ محمد على باشا الكبير بارسال ابنه طوسون لتدمير الدولة السعودية الأولى ثم عهده بهذه المهمة لابنه إبراهيم باشا المعروف بكفاءته الحربية الهائلة هو قرار له دلالة بالغة الأهمية: إذ يمكن القول إن الفهم المصري/التركي/السوري للإسلامِ قرر أن يذهب إلى الفهم الإسلامي الوهابي بالغ التطرف والتعصب والتشدد في معقله وتدميره – قرار ثقافي وحضاري هو قبل إن يكون قرارًا سياسيًا أو عسكريًا. إن محمد على

الذي كان مولعًا بالنهضة الأوروبية كان لا يرى أي تعارضٍ بين آلياتِ النهضةِ الأوروبية وكونه مسلمًا – كما أنه كان يرى التعارض (كل التعارض) بين الفهم الصحراوي الوهابي للإسلام وحدوث النهضة التي كان عقله وفكره منشغلاً بها منذ تولي حكم مصر سنة 1805 (وحتى تنازله عن الحكم سنة 1848 لابنه إبراهيم باشا)

.
ثم دارت عجلةُ الزمن، وآلت الأمورُ في تركيا لما آلت إليه، وأخذت مصرُ في التراجع. ومع تراجع مصرَ (خاصة اقتصاديًا وتعليميًا) وهبوط ثروة أُسطورية لم يسمع بمثلها التاريخ على المدرسة الأخرى (المغرقة في النقل وتجميد العقل) كان من الطبيعي أن يزداد التيارُ النقلي (المتشدد) قوةً ويملك أدوات الذيوع بل و يغزو أرض التيار الثاني ويتغلغل في رجالِ مؤسساتِ هذا التيار. حتى وصلنا لرؤية تجسد التيار النقلي المتشدد في طالبان وأخواتها. ولو كانت الغلبةُ قد قُيضت لابن رشد أو لو كانت الظروف لم تسمح بتراجع النموذج التركي / المصري، لما كانت الأمورُ قد وصلت إلى ما وصلت إليه خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرة.
فإذا أضفنا "فكر محمد عبد الوهاب" الموغل في التشدد إلى أثر البيئة الصحراوية بالغ القسوة، كنا أمام تفسيرٍ لشدةِ بل قسوةِ آراء وتوجهات وتفسيرات مذهبه (وأؤكد على أن أثر "ذهنية المنطقة" كان أكبر من أثر "المذهب" ذاته). كذلك يمكنّا ذلك من أن نعرف لماذا حارب الملك عبد العزيز بن سعود حركة الإخوان الوهابية في عشرينيات القرن العشرين. فعندما عاد الملكُ عبد العزيز للرياض بعد أن ضم الحجاز لمملكته الشرقية، قال "الإخوان" إن عبد العزيز غادر الرياض على "ناقةٍ" وعاد في "سيارةٍ أمريكيةٍ" .. وهو ما اعتبروه إنحرافًا عن "صحيح الدين". وكان ذلك مجرد مثال لصدامات أخرى معه دارت كلها حول كون الإذاعة "حرام" أو كون "التليفون" من عمل الشيطان .. إلى آخر مواقفِ الصدامِ الأصيلِ في تفكيرهم مع ثمارِ الحداثةِ أو التقدمِ. وهذا التوجه لا يفهم إلاَّ بدراسة ما يُعرف بالفرق السرية في الإسلام (وهي روافد جانبية لم تكن أبدًا بمثابة التيار الرئيسي Main Stream) وثانيًا بدراسةِ دعوةِ محمد بن عبد الوهاب التي هي ابنة أشياءٍ عديدة منها سوسيولوجيًا وجيوبوليتيكيًا صحراء نجد .. وهي عوامل جعلتهم عندما نجحوا في غزو غرب الجزيرة العربية أي الحجاز يوغلون في فرض فهمهم للدين والذي تمثل في أشياءَ مثل تسوية القبور بالأرض ومحاربة الفرق الصوفية في مكة وغيرها (باعتبارها بدعة ضالة من المنظور الوهابي) وتكلل ذلك بالصدامِ المسلحِ مع "المحملِ المصري" فقد كان المصريون يهدون "الكعبة" كسوتها كل سنة ويقومون بنقل الكسوة الجديدة في احتفال (فيه الكثير من ميل المصريين للموسيقى والرقص والمرح) وهو ما اعتبره النجديون عملاً من أعمال الشيطان.
وما أُريد تسليط الضوء عليه هنا هو، أن الصحراءَ الداخلية للجزءِ الشرقي من الجزيرةِ العربية قد عانت تاريخيًا من جغرافيتها معاناةً شديدةً .. فلما جاءت الثروةُ البترولية العظمى (ومن صحراءِها الداخليةِ تحديدًا) فقد كان من الصعبِ تصوّر قيام هذا الجزء من العالم بشيءٍ أقل من "تسويق تفكيره" .. وهو ما حدث بالفعل خلال النصف الثاني من القرنَ العشرين .. وكانت الدراما تكتمل بأن "الإسلامَ غير الوهابي" إبان تلك الفترة قد شهد تراجعًا كبيرًا أمام النموذج المدعوم بأموالٍ لا حد لها: ففي الداخل تراكمت المعضلاتُ بسببِ الاستبداد السياسي وانعدام الحراك الاجتماعي وترك معظم المؤسسات تدار بغيرِ كفاءةٍ مع تدهورٍ مشهودٍ في نظمِ التعليمِ .. ومن الخارج تهب أفكارُ الفهمِ الوهابي المدعوم بطوفانٍ من الإمكانيات .. فكيف لا يتراجع ما كان بمثابة التيار العام Main Stream (وأعني الإسلام غير الوهابي)؟ وكيف لا يبدو الفهم النجدي للإسلام وكأنه هو الإسلام الوحيد رغم أنه كان غيرَ موجودٍ خارج "صحراء نجد" قبل بداية القرن العشرين؟

إن كاتبَ هذه السطور لا يتوقف في محاضراته في أوروبا وأمريكا الشمالية عن تعريفِ العالَمِ بما يُسميه (الإسلام المصري) الذي كان حتى أربعينات هذا القرن مثالاً لا نظير له في السماحة والمرونة وقبول واحترام الآخرين وعدم الانشغال (بشكل سيكوباتي) بتفاصيلٍ لأحكامٍ لا يمكن إلاَّ أن تكون "ابنة زمانها ومكانها وظروفها" وكل ما يُطرح عليها من القداسة هو "عمل بشري" لأن القداسةَ للدينِ ولكنها ليست أبدًا لفهمِ الناسِ للدين : فلا فهمي أنا للدين ولا فهم أي أحد آخر بالمقدسِ، وإنما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتكوينِ ظروفِ وبنيةِ المحصولِ المعرفي لكلٍ منا.

ولكن كل ما سبق لا ينفي أَن الذين يتحدثون الآن في الغربِ بوجهٍ عام وفي الولاياتِ المتحدة بوجهٍ خاص عن الخطرِ الداهمِ الذي يمثله "الإسلام المقاتل" عليهم أن يسألوا أنفسهم مجموعةً من الأسئلةِ بالغةِ الأهميةِ:

- من الذي أَغمضَ عينيه سنوات عديدة عن المُناخِ العام الذي في ظلِه استشرى النموذج المقاتل للإسلام بينما ترك النموذج المتحضر والإنساني والراقي (الإسلام التركي/ المصري) ليتراجع في ظل تردي الأوضاع العامة (الاقتصادية والتعليمية بوجهٍ خاص) وأن يصبح أرضًا مفتوحة يغزوها النموذجُ المقاتـل – من الذي أغمض عينيه قرابة ثلاثين سنة كاملة – ثم يجئ اليوم معلنًا غضبَه العارم على هذا المُناخ الذي أَفرزَ هذا المارد؟

- من الذي ابتدع في الخمسينيات (وربما قبل ذلك) لعبة استعمال ما يسميه البعض (الإسلام السياسي) لخلق توازنات إستراتيجية ضد الإشتراكية (وكانت لمصرَ في السبعينيات جريرتها الكبرى في نفسِ المجال)؟…

- ألم يدرك الغرب أن في مطبخِ النموذج المقاتلِ لا توجد حريات ولا ديموقراطية ولا حقوق نساء ولا حقوق مواطنين إِلاَّ الآن فقط؟…وهل كان هذا "المطبخ" ذاخرًا بتلك القيم الإنسانية الراقية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟

- لماذا لا يفتح ملف فترة شهر العسل في علاقة المجاهدين الأفغان بالولايات المتحدة؟ وملف علاقة الإسلام السياسي في إيران بالغرب (فرنسا بالذات) قبل وصوله للحكم سنة 1979؟…وقبل ذلك ملف العلاقة بين الحركة السياسية الإسلامية في مصرَ وبريطانيا (التي كانت تحتل مصر وقتها) ولا سيما في ظل حكومتي محمد محمود (1928 و1938)؟

إن العقلَ النقدي الذي تفتخر به الإنسانيةُ المتقدمة يُملي علينا هذه الأسئلـة وغيرهـا – ويملي علينا أن يَقبلَ كلُ طرفٍ أن يتحمل جزءًا من المسئوليةِ عما حدث ويحدث – والعقلُ النقدي يُملي علينا أيضًا أن ننظر بإمعان في النموذجين الذين أشرت لهما في هذا الفصل ونتساءل: أيهما الذي يملك القدرة على مسايرةِ الحضارةِ والتواصلِ مع العالمِ والاشتراكِ في مسيرةِ التمدنِ (دون التخلي عن الكثيرِ من خصوصياتنا الثقافية الإيجابية)؟ أهو النموذج الذي أفرزه المطبخ الذي أَسسه أهل النقل (وهم ضحية العزلة الجغرافية وراء كثبان الرمال) أم النموذج التركي/المصري (ذو الوسطية والاعتدال والسماحة) أم النموذج الغائب دائمًا (نموذج ابن رشد الذي استفادت منه الحضارةُ الغربية وخسرنا نحن بهجره والوقوف مع المدرسة المناهضة له والتي تفتح البابَ على مصراعيه أمام الخرافةِ والأسطورةِ واللاعلمِ وامتطاءِ جواد الاقتتال الذي لا يتوقف عوضًا عن العلم والعمل والبناء والتنمية والتآخي.
أما الفهمُ الآخر فقد وجد من الوسائل اللازمةِ لنشرِه في شتى بقاع الدنيا ما لا نظير له. كما وجد ظروفًا دولية (وانعدام رؤية) تسببت في أن يصبح الفهمُ الاستثنائي المحدود والذي كان محصورًا بين كثبانِ رمالِ صحراء نجد هو الفهم الذي يفـرض نفسه على خشبةِ مسرح الدنيا ويقول: "أنا الإسلام" .. . وبين المشاهدين (في المسرح) من أمضى سنوات يتغاضى عن كلِ شيءٍ (عوامل الداخل والخارج) لأن الممثل الذي يحمل في يده السيف كان يؤدي الدور الذي كان مطلوبًا أن يقوم به – وليحدث بعد ذلك ما يحدث من جراء عوامل الداخل والخارج وانطلاق المارد!
ولكن لماذا يتجه عددٌ غير بسيطٍ من الشبابِ المسلمِ إلى تبني العنف كشكلٍ لأدائه السياسي؟ .. هذا هو السؤَال الذي انشغلت به (ولازالت) جامعاتٌ ومراكز بحوثٍ ودراساتٍ ومفكرون وباحثون ومنظرون عديدون في العالم كله بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ بوجهٍ خاصٍ. وقد عكست محاولاتُ الإجابةِ عن هذا السؤَال أشكالاً عدة من أشكال التنظير. وليس هدفي في هذا الفصل تفنيد شتى التفسيرات التي قيلت في محاولاتِ الإجابةِ عن هذا السؤَال بالغ الأهمية. وإنما هدفي أَن أَعرض تفسيري الخاص والذي عرضته مؤخرًا بعدد من المحاضرات خارج مصر كان آخرها بجامعة فيينا.

يقوم تفسيري لظاهرة تبني أعدادٍ من الشباب المسلم للعنفِ كشكلٍ للعمل السياسي على الركائز التالية:
- نصوص القرآن والأحاديث التي يستند إليها دعاةُ العنفِ فُهمت من بداية الإسلام فهمين مختلفين: فهمًا يربطها بظروفٍ وحيثياتٍ معينة، وهذا هو فهم الأغلبية التي اتسمت طيلة قرون بالوسطية والاعتدال. و فهمًا يعمم هذه النصوص (فيما لا يجوز فيه التعميم). وكان أصحابُ هذا الفهم من البدايةِ أقليةً هامشيةً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق